المقاومة الشعبية الفلسطينية تستعيد زخمها... بداية انتفاضة ثالثة؟

أمام الممارسات العنصرية الإسرائيلية في القدس والاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى كان لا بدّ للمقدسيين أن يتحركوا ولو بأساليب بدائية وفق الظروف المتاحة لهم للتصدي للاحتلال. عمليات دهس وطعن في القدس وتل أبيب والضفة الغربية في إطار المقاومة الشعبية، شهدتها الأيام الماضية في مشهد يرى المراقبون أن رقعته ستتسع ممهداً لانتفاضة جديدة على الرغم من التحديات الكثيرة.
  • المواجهات شبه يومية بين الاحتلال والشباب الفلسطيني
كان إبراهيم، الرجل المقدسي الثلاثيني يتابع عبر التلفاز مشاهد اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى. هو المشهد نفسه يتكرر مجدداً. المستوطنون يدنّسون المكان بحماية قوات الاحتلال فيما يُمنع الفلسطينيون من دخوله. هذه المرة كانت الأكثر استفزازاً، الاحتلال أغلق المسجد بالكامل لأول مرة منذ احتلاله القدس عام 1967 على خلفية محاولة اغتيال يهودا غليك، الحاخام المتطرف الذي دأب على تنظيم الاقتحامات المتكررة للأقصى.

لم ينتظر إبراهيم طويلاً، كان يدرك أن المشهد مستمر وفق التالي: ممارسات إسرائيلية عنصرية لا تنتهي، مصادرة منازل وأراضٍ لم تبقِ للفلسطينيين من القدس سوى 13%، تقسيم المسجد الأقصى مكانياً وزمانياً كما حصل للحرم الابراهيمي في الخليل، اعتقالات يومية، انسداد الأفق السياسي وفشل الرهان على المفاوضات، وصمت عربي لم تنجح الدعوات والنداءات المتكررة لنصرة الأقصى والقدس من اختراقه..
غادر إبراهيم المنزل مسرعاً.. لحظات وتوالت الأخبار العاجلة في أسفل الشاشة: فلسطيني من القدس يدهس عدداً من المستوطنين.. مقتل جندي وإصابة 13 آخرين.. استشهاد الفلسطيني الذي دهس المستوطنين برصاص الاحتلال.. بطل عملية الدهس في القدس يدعى الشهيد إبراهيم العكاري..

ما هي إلا ساعات قليلة حتى نفذت عملية دهس أخرى لجنود إسرائيليين، هذه المرة في الخليل، ما هي إلا أيام قليلة حتى نفذت عمليتا طعن قتلت خلالهما مستوطنة وجندي وجرح آخرون في تل أبيب وغوش عتسيون. استنفرت إسرائيل. سارعت إلى الإعلان جهاراً عن أنها لا تنوي إجراء تغيير على الوضع القائم في القدس. تداعى أعضاء الكابينيت للاجتماع، القرار اتخذ بتدمير منازل "المخربين". الجيش الإسرائيلي عزز قواته في الضفة الغربية وكثف من حواجزه وقرر تعميق الجهد الاستخباري...   

يبدأ المشهد بالتغيّر. ينتقل سريعاً إلى الأراضي المحتلة عام 48 من خلال تظاهرات ومواجهات في أكثر من قرية وبلدة. تتسع دائرة المنخرطين في هذه المقاومة الشعبية بشكل مطّرد. وفق إحصائيات أخيرة فإن 83% من سكان القدس المحتلة يقاطعون المنتوجات الإسرائيلية والمؤسسات والمراكز التجارية الإسرائيلية. لم يعد الحديث عن مبادرات فردية فقط بل عن قطاعات جماهيرية وطلابية تحاول تنظيم ذاتها.

تسترجع الذاكرة الجماعية الفلسطينية مرحلة الانتفاضة الأولى عام 1987 يوم كان السلاح حجراً رمى بالإسرائيلي على طاولة مفاوضات لم يكن يريدها سوى لإجهاض هذه الانتفاضة. لم يعد الحديث عن انتفاضة ثالثة مبالغاً به، أحد أعضاء الكنيست قالها بوضوح "علينا تسمية الصبي باسمه.. ما نعيشه اليوم هو انتفاضة ثالثة". انتفاضة بطلتها "المقاومة الشعبية". أساليبها سيارة وسكين ومنجنيق وتظاهرات عند حواجز الاحتلال ومقاطعة البضائع الإسرائيلية. 

يستعيد عضو المجلس الوطني الفلسطيني صلاح صلاح التأثير الذي أحدثته انتفاضة الحجارة ليؤكد على أهمية المقاومة الشعبية التي تشهدها القدس وبعض مناطق الضفة وأراضي 48، على اعتبار "أنه تجب مواجهة العدو الإسرائيلي بكافة أشكال النضال وفق الظروف التي يعيشها كل تجمع من تجمعات الشعب الفلسطيني". فالظروف القائمة في غزة التي تتيح للمواجهة أن تأخذ بعداً عسكرياً مسلحاً ليست نفسها في الأراضي المحتلة عام 48 أو القدس حيث الاحتلال جاثم على الفلسطيني، أو في الضفة الغربية حيث تبرز إشكالية أخرى عنوانها "التنسيق الأمني".   

يرى صلاح أنه "يكفي الشعور بعدم الأمان الذي يحدثه هذا النوع من المقاومة لدى الإسرائيلي الذي يعيش اليوم كابوس أن تدهسه سيارة أو أن يتلقى طعنة سكين في  لحظة ما". يتحدث عن ردع من نوع آخر لا مكان فيه لمنظومات القبة الحديدية ومثيلاتها، حيث يقول الفلسطيني للإسرائيلي اليوم "إن حالة القلق والرعب انتقلت إلى ضفته من خلال أساليب بدائية".

في معرض قراءته لآفاق هذه المقاومة الشعبية، يجزم صلاح صلاح أن ما يجري اليوم مختلف عن المرات السابقة حيث كان يقتصر الأمر على بعض ردود الفعل المحدودة والمؤقتة. يؤكد أن "ما يجري اليوم هو مؤشر على انتفاضة جديدة ستتسع رقعتها" بما يؤكد للإسرائيلي "أن محاولاته التي بدأها قبل 66 عاماً لأسرلة الشعب الفلسطيني وعزله عن قضيته لم تنجح" وبما "يوجه صفعة للقيادات الفلسطينية التي كانت تحاول أن تكرس أن الشعب الفلسطيني هو في مناطق الضفة وغزة متجاهلة القدس وأراضي 48 وقضية اللاجئين، من خلال التأكيد على أن الشعب الفلسطيني واحد في الضفة وغزة والقدس والشتات لا يمكن تجزئته أو فصله، وأن ارتباطه بقضيته الوطنية وأرضه أبدي وأزلي".

هل تجهض "الانتفاضة الثالثة" قبل ولادتها؟

  • كابوس المقاومة الشعبية يلاحق إسرائيل
على الرغم من التشابه بين انتفاضة الحجارة وما يجري اليوم إلا أن ثمة قطعة "بازل" لا تزال ناقصة ليتطابق المشهدان. "فبعد قرابة الشهرين أو الثلاثة على اندلاع الانتفاضة عام 1987 لحقت بها قيادات الفصائل الفلسطينية في الوطن المحتل، يقول الباحث الفلسطيني دكتور غسان عبد الله. يشير إلى أن الكرة الآن في ملعب هذه القيادات التي عليها التقاط هذه الهبّة الجماهيرية من أجل دفعها إلى الأمام وتصويبها والأخذ بيدها لما فيه مصلحة المقاومة الشعبية وإلا فستجد نفسها في مؤخرة الصف خصوصاً أن قيادة منظمة التحرير بحاجة لإثبات وجودها على الساحة الفلسطينية لنيل الدعم الشعبي المطلوب لتحركاتها الدبلوماسية في أروقة الامم المتحدة".

تحد آخر لا يقل أهمية يبدو ماثلاً أمام هذه المقاومة الشعبية، انتقالها إلى مرحلة الانتفاضة يربطه البعض باتساع رقعتها إلى الضفة الغربية حيث يبرز "التنسيق الأمني" كأحد أبرز المعوقات وفق ما يقول عبد الله الذي يصف ما يجري في الضفة بأنه "عملية إحكام السيطرة لمنع أي تحركات نوعية ضد المستوطنين وممارسات الاحتلال". يضاف إلى ذلك الانقسام الفلسطيني المستمر والذي من شأنه إضعاف هذه التحركات الشعبية.

أمام هذه التحديات ينقسم المراقبون للمشهد الفلسطيني بين من يقول إنها قد تساهم في إجهاض الانتفاضة قبل أن تولد وبين من هم أكثر تفاؤلاً بالمنحى الذي قرر المقدسيون السير فيه. في هذا السياق يقول عبد الله "إن ما يجري من هبّة شعبية في القدس غير قابل لحالات الجزر بل على العكس، هو قابل لحالات المد أكثر وأكثر لاسيما وأن ممارسات الاحتلال تتزايد يوما بعد يوم"، مؤكداً "أن المقدسي بغض النظر أكان مسلماً أو مسيحياً وبمعزل عن انتمائه الفكري لن يسمح بعد الآن بمواصلة اجراءات الاقتحام وتدنيس الأقصى".

مزاوجة العمل السياسي والمقاومة الشعبية

  • يفتحون ثغرة الأمل في جدار الصمت إزاء ما يتعرضون له
نتحدث هنا عن مرحلة جديدة إذاً، ما بعدها لن يكون كما قبلها حتى على صعيد المفاوضات في حال استؤنفت. يجزم الدكتور غسان عبد الله "أن نمط المفاوضات الذي كان قائماً قد ولّى وليست لديه أية ارضية أو دعم جماهيري أو حتى سياسي. وما سنشهده في الساحة الفلسطينية هو عودة مزاوجة العمل السياسي والمقاومة الشعبية التي ستزداد رقعتها في الضفة الغربية متخذة أشكالاً وأنماطاً مختلفة" على حد قوله.

في منطقة شمال غرب القدس عند جدار الفصل العنصري ابتدع الشباب الفلسطينيون مؤخراً أسلوباً جديداً في المقاومة الشعبية.. يدأبون منذ أيام على فتح ثغرات في ذاك الجدار، يسدها الاحتلال، ثم يعودون لفتحها مجدداً.. من يدري ربما لكثرة تكرار هذا الفعل يتصدع الجدار ويسقط يوماً.. ففي قلوب هؤلاء من الإيمان والعزيمة ما يجعلهم متيقنين أن هذا الاحتلال يمكن مواجهته بشتى الوسائل، حتى لو بمعول. 

المصدر: الميادين نت