أميركا وكوبا.. من شرارة التصعيد حتى إطباق الحصار
تقع جمهورية كوبا في منطقة الكاريبي، ولا تبعد سوى 145 كيلومتراً عن ولاية فلوريدا الأميركية؛ المنطقة التي تتمتع بموقع استراتيجي مهم دفع الإدارات الأميركية المتعاقبة إلى عدم رفع أنظارها عنها. لذلك، حاولت عدة مرّات ضمَّ كوبا إلى الاتحاد الأميركي، حتى إنها حاولت شراءها بالمال من إسبانيا عندما كانت مستعمَرة تابعة لها.
نجاح الثورة الكوبية بقيادة فيدل كاسترو عام 1959، أحدث تغييراً عالمياً ومحلياً. فالدولة الخاضعة لأميركا، أصبحت أولَ بلدٍ "يعتنق الشيوعية" في العالم الغربي. ومنذ ذلك الوقت، تسعى الولايات المتحدة لتتدخل سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في كوبا.
أكثرَ من 45 عاماً صمد القائد الثوري فيدل كاسترو أمام الولايات المتحدة الأميركية وحصارها، سياسياً واقتصادياً، والذي بدأ في أول أيام استلامه الحكم في البلاد، وما زال مستمراً حتى اليوم.
"مستعمرةُ القمار" وانقلاب السحر على الساحر
المؤرّخ جاك كولهون وثّق تطوّر العلاقة بين أميركا والجريمة المنظَّمة في كتابه "العصابات: الولايات المتحدة وكوبا والمافيا 1933 - 1966". ويذكر المؤلف بالتفصيل كيف تم تسهيل إنشاء "مستعمرة قمار" تابعة للمافيا في كوبا في ثلاثينيات القرن المنصرم، من خلال العلاقة الوطيدة التي جمعت رجالَ العصابات في أميركا الشمالية والرئيسَ باتيستا، الديكتاتور الذي حكم كوبا مرتين، بحيث كان يتلقّى حصة من أرباح عمليات المافيا في كوبا، كما أشرف على تحويلها إلى "دولة عصابات مكتملة".
قدّمت الكازينوهات في كوبا فرصة مؤاتية لعمليات غسل الأموال للأعمال التجارية المشبوهة. وفي عام 1946، استضاف فندق ناسيونال، الذي كانت تديره المافيا حينئذ، قمّةّ لزعماء عالم الجريمة الأميركيين، بغية وضع الأسس لتحويل كوبا إلى مركز تهريب للهيرويين.
مع نجاح ثورة كاسترو وحركته "26 يوليو"، عام 1959، والتي أطاحت باتيستا، تحوّلت كوبا إلى أول دولةٍ شيوعية في العالم الغربي. عندها قام كاسترو بتأميم الشركات في كوبا، وأمسى شخصيةً مثيرةً للجدل على الصُّعد كافة، وصيداً ثميناً للولايات المتحدة الأميركية. كما نجا من أكثر من 600 محاولة اغتيال، نفّذتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أيه)، بحسب الـ "BBC".
أجبر كاسترو زعماء المافيا وغيرها من المجموعات "الشاذة"، على المغادرة إلى الولايات المتحدة، على متن أول طائرةٍ مغادرة، بحيث وصلوا إلى ميامي. وتعليقاً على هذا الحدث، قال كاسترو: "أُرسِل المصعد ثانيةً إلى الولايات المتحدة، وهو ما سيُفرغ السجون الكوبية من هؤلاء المجرمين عقلياً، بحيث ستساعدهم عودتهم كي يصبحوا هناك إما لوردات المخدِّرات، وإمّا قوادين".
خليج الخنازير.. عملية عسكرية أميركية فاشلة
أثار موضوع تأميم الشركات الأميركية في كوبا حفيظة أميركا. لذلك، عملت على قلب نظام الحكم من خلال عملية "غزو خليج الخنازير"، التي نفّذتها واشنطن في نيسان/أبريل 1961، عبر استخدام مرتزقة كوبيين. وتطوّرت هذه الأزمة إلى أزمة دولية بين أميركا والاتحاد السوفياتي.
بدأت أميركا تنفيذ العملية عبر حملةِ قصفٍ جوّي شنّتها طائرات أميركية الصنع، يقودها متمردون كوبيون، واستهدفت القواعد الجوية الكوبية، ثم أُتْبِعت بهجوم بري يوم 17 أبريل/نيسان. وقوبل الهجوم البري بمقاومةٍ عنيفة من القوات المسلَّحة الكوبية، التي كانت تفوق عدداً قواتِ المتمردين. وفي 19 نيسان/أبريل 1961 انتهت العملية بفشلٍ ذريع، بحيث تم اعتقال 1100 شخصٍ منهم.
فشلت العملية، المدعومة أميركياً، بسبب تسريب المعلومات عنها قبل بدئها، وسوء الأحوال الجوية، بالإضافة إلى عدم دعم الجماعات المتمرّدة لوجستياً وسياسياً، لئلا يبدو الأمر كأنه تدخّل مباشِر من أميركا في الشأن الكوبي.
أزمة الصواريخ السوفياتية والحرب النووية
كان من تداعيات "غزو خليج الخنازير" غير المباشِرة ظهورُ أزمة الصواريخ السوفياتية الشهيرة، والتي بدأت بعد عامٍ واحد، وكادت هذه الأزمة تجرّ العالم إلى حرب نووية.
عام 1962، زار راؤول كاسترو، الأخ الأصغر لفيدل، الاتحاد السوفياتي، واتفق مع قادته على نشر صواريخ بالستية سوفياتية متوسطة المدى على أراضي بلاده، لتمكين موسكو من الدفاع عنها، ولمنع واشنطن من التفكير في أيّ محاولة أخرى لغزو كوبا، أو لقلب نظام الحكم الشيوعي فيها.
ردّت واشنطن على الخطوة السوفياتية بفرض حصار بحري على كوبا لمنع سفن الشحن السوفياتية من الوصول إليها، وبتسيير طلعات استطلاع جوية للمقاتلات الأميركية فوق مواقع منصّات الصواريخ.
وكإجراءٍ احترازيّ، نصبت وزارة الدفاع الأميركية صواريخ أرض/جو حول العاصمة واشنطن، لمواجهة أيّ هجوم مرتقَب، وكاد هذا الأمر يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة.
أزمة الصواريخ السوفياتية انتهت خلال أسبوعين بحلٍّ سلمي، عندما أمرت موسكو بسحب صواريخها ذات القدرات النووية الهجومية من كوبا. عندها، سحبت واشنطن صواريخ "جوبيتر" التي نصبتها في تركيا، وتعهّدت عدم غزو كوبا، وهذا الأمر دفع أميركا إلى فرض حصارٍ اقتصادي خانق، ومستمرٍّ حتى اليوم على كوبا وشعبها.
الحصار الأميركي لكوبا أطولُ حصارٍ في التاريخ الحديث
بعد أزمة الصواريخ عام 1962، ارتأت أميركا معاقبة كوبا، بحيث فرضت عقوبات سياسية واقتصادية قاسية عليها، حكومةً وشعباً، مُعلِّقةً عضويتها في منظمة الدول الأميركية.
اقتصادياً، عملت واشنطن على فرض قيودٍ على عددٍ من الصادرات الكوبية إلى السوق الأميركية. وفي عام 1967، أحكمت أميركا حصارها الشامل والمُطْبِق، والذي شمل جميع مرافق الحياة.
أثّر انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 في قوّة كوبا، الأمر الذي دفع واشنطن إلى تعزيز العقوبات الاقتصادية. فعام 1992، مُنعت مؤسسات تابعة لشركات أميركية في بلدان أجنبية من القيام بأنشطة أعمال مع كوبا، وتم تقييد دخول أيّ سفن زارت موانئ كوبية، إلى الموانئ الأميركية.
تفاقمت حدّة التوتر مرةً أخرى، بعد أن أسقطت كوبا طيّارتين يقودهما كوبيون يعيشون في الولايات المتحدة، في شباط/فبراير عام 1996. ورداً على هذا الأمر، فرض البيت الأبيض قانون "هلمز - بورتن" في آذار/مارس من العام نفسه، لتشديد الحصار الاقتصادي على كوبا.
في أيار/مايو 2004، أعلن الرئيس الأميركي آنذاك، جورج بوش الابن، خطةً جديدة ضد كوبا، ليشدّد مرة أخرى القيود المفروضة على هذه الدولة. وتنصّ الخطة على أنه سيتم تخصيص 59 مليون دولار أميركي لتمويل أنشطة مناهضة لكوبا، خلال فترة مدتها عامان، وخفض الحوالات النقدية من الأميركيين من أصل كوبي إلى النصف، وفرض قيود على زيارات الأُسر بين البلدين.
شهدت ولاية الرئيس الأميركي باراك أوباما انفراجة قصيرة، من خلال اتفاق بينه وبين كوبا، قضى بتخفيف العقوبات عليها، وتطبيع العلاقات الدبلوماسية، إلا أن هذه الفترة لم تطل، حيث قرر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب نقض الاتفاقية، إثر فوزه في الانتخابات، وأمر بتشديد العقوبات الاقتصادية والحصار على كوبا من جديد.
مع بداية تفشي فيروس "كورونا" عام 2020، ندّدت السلطات الكوبيّة مراراً وتكراراً بآثار الحصار الأميركي الذي يزداد قسوةً. وقال مدير العلاقات الدوليّة في وزارة الصحّة، نيستور ماريمون، خلال مؤتمر صحافي عقده في نيسان/أبريل 2020 إنّ "الحصار من جانب الولايات المتحدة، اقتصادياً ومالياً، هو تاريخياً، نظام العقوبات الأكثر ظلماً وشدّة، والأطول مدّة".
وعلى الرغم من الحصار الأميركي الطويل الأمد، فإن كوبا قدمت نموذجاً إنسانياً بارزاً في تغليب الشأن الإنساني على ما عداه، مستفيدةً من خبرتها في مجال مكافحة الأوبئة سابقاً في أفريقيا، ونظامها الطبي الممتاز، الذي شيّده الزعيم الراحل فيدل كاسترو. وأرسلت كوبا، خلال أزمة كورونا المستمرة، طواقماً طبية إلى حوالى 21 دولة للمساعدة في التصدي للفيروس.
كما نجحت اليوم في تطوير لقاحين خاصّين بها ضد فيروس كورونا، أطلقت على الأول اسم "عبد الله"، وعلى الثاني اسم "سوبيرانا 2".
واليوم، اتهم الرئيس الكوبي، ميغيل دياز كانيل، الولايات المتحدة، بـ"اتّباع سياسة خنق اقتصادي لإثارة اضطرابات اجتماعية" في الجزيرة و"تغيير النظام" فيها.
وفي كلمة بُثّت تلفزيونياً وإذاعياً، أكد دياز كانيل، وإلى جانبه عدد كبير من الوزراء، أن حكومته تحاول "التصدي" للصعوبات "والانتصار عليها" في مواجهة العقوبات الأميركية، التي تم تشديدها في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
سبقت ذلك دعوة دياز كانيل الثوريّين الكوبيّين إلى النزولِ إلى الشوارع لمواجهة "محاولات مدعومة من الخارج لزعزعة الاستقرار في كوبا"، معتبراً أن "الإجراءات المُتخَذة من جانب الولايات المتحدة الأميركية ضد هافانا هدفها خنق الاقتصاد لفتح البلاد أمام تدخلات أجنبية تنتهي بالتدخّل العسكري".
يُعتبر الحصار الأميركي المفروض على كوبا، والمُستمر منذ 61 عاماً، انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي. فهو ممارسةٌ للإبادة الجماعية، ولاسيما في ظل انتشار فيروس "كورونا". وعلى الرغم من أن الجمعية العامة للأمم المتحدة صوّتت في حزيران/يونيو الماضي، بأغلبية مطلَقة، لرفع الحصار عن كوبا، وشمل التصويت 185 دولة، فإن الولايات المتحدة الأميركية لم تنفّذ هذا الأمر، بل سَعَت يوم أمس لإشعال المظاهرات في البلاد.