حرب على الذاكرة.. هكذا يُروى تاريخ الاحتلال ومواجهته
حين كانت الباحثة في علم الآثار ديسبينا ستراتيغاكوس تبحث، في تموز/يوليو 2017، عن خطط لمشاريع بناء أوروبا الواقعة تحت الاحتلال النازي، عثرت على وثيقة بالغة الأهمية "ما كان ينبغي لأي مؤرخ العثور عليها" في السجلات البحرية للقوات المتمركزة في فرنسا، موقّعةً من المشير فيلهلم كيتل، وتحمل أمراً واضحاً من "الفوهرر" أدولف هتلر بتدمير النصب التذكارية الخاصة بالحرب العالمية الأولى -التي خسرتها برلين- في كلٍّ من بلجيكا وفرنسا.
كانت النصب التذكارية تعمل بنظر هتلر على تدمير سمعة الجيش النازي وتثبّت الكراهية ضد الأمة الألمانية، حسبما تشرح ستراتيغاكوس، وبالتالي كان تدميرها ضرورياً لاستعادة سمعة ألمانيا الجيدة وحمايتها من أجل الأجيال المقبلة. وهذا ما يمكن اعتباره "برهاناً واضحاً على أن تدخل هتلر بشكل مباشر لم يكن لتغيير الصورة المادية لأوروبا فقط ولكن لتغيير صورة الذاكرة نفسها".
ليست النازية حالةً خارجة عن سياق التاريخ ومآلاته، فمحو الذاكرة أو إعادة هندستها ديدن مختلف الحركات الإلغائية أو الدول الاستعمارية، وهذا ما تندرج تحته نماذج كثيرة بينها سرقة فرنسا وإيطاليا وألمانيا للآثار الأفريقية، نهب الآثار العراقية إبان الاحتلال الأميركي للعراق، تدمير "داعش" لآثار مدينة تدمر السورية ومدينة الموصل العراقية.
الحرب على التاريخ والذاكرة
يمكن قراءة الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين من هذه الزاوية، ففضلاً عن تهجير الشعب بقوة الإرهاب والخداع، عمل الكيان الناشئ على تدمير المعالم الفلسطينية وتغيير أسماء المدن والأحياء والشوارع وسرقة بعض مكونات الثقافة الأصلية والتلاعب بتاريخ فلسطين لتكون "أرضاً بلا شعب لشعب بلا أرض"، وفق إحدى الأساطير الصهيونية المؤسسة.
سياسة "إسرائيل" في تغيير الوقائع واستبدال تاريخ فلسطين بتاريخ متخيّل تضمنت كذلك العمل على محو آثار تاريخها الإجرامي وتدمير كل ما يشير إليه أو على الأقل صناعة "بروباغندا" تدّعي أن القوات الإسرائيلية لم تكن إلا في مورد الدفاع عن النفس، وهذا ما جرى تماماً خلال حروبها المتكررة على لبنان منذ غزو عام 1982 وحتى حرب تموز/يوليو 2006، فقد شهدت هذه السنوات سلسلة من العمليات التي تضمنت سرقة آثار من الجنوب اللبناني، تدمير مواقع عسكرية مخلاة، قصف أو تفكيك معتقلات وسجون كانت شاهدة على التعذيب الإسرائيلي ومعاناة اللبنانيين، فضلاً عن السعي لتصوير المقاومة كحالة تمرّد شاذة لا تتفق مع ما يريده اللبنانيون.
لا شكّ بأن المعركة مع الاحتلال كانت قبل أي شيء معركة حديد ونار، لكنها أيضاً معركة لتثبيت تاريخ ووجود ومحو آخر، فهذا هو الميدان الأكبر للمنافسة بين المستعمِر والمستعمَر، كما يشرح فرانز فانون، ولذلك لا تصبح هزيمة المحتل عسكرياً كافية، بل تبرز الضرورة إلى تثبيت هذه الهزيمة بالوعي وجعلها قضية قابلة للتحقق في كل مرّة.
وعت المقاومة اللبنانية جيداً هذه الحقيقة، فسعت إلى تثبيت الوجه المأساوي للاحتلال والإضاءة على محاسن المقاومة والمواجهة من خلال سلسلة مترابطة من الإنتاجات الثفافية والفنية (أناشيد، وثائقيات، مسرحيات، معارض فنية، مقاطع بصرية، تدوين مذكرات المقاتلين والشهداء..) التي ساهمت في صنع إرادة جديدة وتدوين تاريخ جديد يزخر باحتمالات غلبة المحتل.
أسس حزب الله الجمعية اللبنانية للفنون "رسالات" عام 2004، بالإضافة إلى جمعية إحياء التراث المقاوم، حيث عُنيت الجمعيتان بإنتاج مختلف الوسائط الفنية والثقافية للتعبير عن مجتمع المقاومة، بما في ذلك استصلاح سجن الخيام الإسرائيلي ليصير مزاراً عاماً، وإنشاء معلم مليتا السياحي، والحديقة التذكارية في مارون الرأس، ومتحف الأمين العام السابق لحزب الله الشهيد السيد عباس الموسوي، بالإضافة إلى مشاريع عمرانية وفنية أخرى.
سجن الخيام.. شاهد على مأساة الاحتلال
عام 1985، وعقب انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من بعض المناطق اللبنانية وتفكيك معتقل "أنصار"، قام الاحتلال بتأهيل الثكنة التي أقامها الفرنسيون، عام 1933 في بلدة الخيام الجنوبية إبان عهد الانتداب، ليوضع فيها الأسرى اللبنانيون المتهمون بمواجهة الاحتلال.
وتكوّن السجن الذي كان يضم غرف توقيف وتحقيق وتعذيب من 5 أبنية تقع حول ساحة رئيسية؛ واحد مخصص كسجن للنساء و4 للرجال، فيما بلغ عدد الزنازين الجماعية 67، وزاد عدد الزنازين الفردية عن الـ20.
في أيار/مايو عام 2000 ومع اقتحام المقاومة للمواقع الإسرائيلية في القرى المحتلة وتحرير الشريط الحدودي من جنود الجيش الإسرائيلي وعملائه، تقدّم أهالي الجنوب ليسيطروا على سجن الخيام ويخلعوا أبواب السجون بمطارق الحديد والقبضات وليحرروا أكثر من 145 معتقلاً أمام عدسات الكاميرات التي وثقت تبشير الأهالي المعتقلين بتحقيق النصر وبالحرية القريبة.
أقل من 24 ساعة مضت على التحرير قبل أن يصبح سجن الخيام مزاراً ومقصداً أساسياً للتعرف على أساليب التعذيب وأجواء الاعتقال التي عانى منه الجنوبيون تحت الاحتلال لأكثر من 18 عاماً.
وما بين أيار/مايو 2000 وتموز/يوليو 2006 قامت لجنة من الأسرى المحررين بإدارة الموقع وصيانته بالتعاون مع حزب الله، ليبقى معتقل الخيام موقعاً تذكارياً من شأنه توعية المواطنين والسياح بمثالب الاحتلال، وذلك من خلال السرد الشفوي للأسرى لمراحل الاعتقال والتعذيب، واستخدام لافتات تعريفية باللغتين العربية والإنكليزية لشرح استخدامات مختلف معدات التعذيب، والإشارة إلى الأماكن التي استشهد فيها الأسرى، بالإضافة إلى لوحة كبيرة تضم أسماء العملاء الذين دخل بعضهم سجون الحكومة اللبنانية لأشهر قبل أن يعود ليجاور أسراه السابقين.
وبموازاة ذلك، سعى حزب الله للإضاءة على "كواليس" عملياته العسكرية وصموده في الشريط المحتل الواقع تحت رصد الأقمار الاصطناعية والطائرات التجسسية والحربية، وما يعنيه ذلك من صعوبة نقل المؤونة والعتاد ومحاذير تنفيذ عمليات هجومية ضد المواقع المحصنة والمراقبة، والتعرّض الدائم لنيران الاحتلال، واتخاذ معابر وأنفاق وغرف صخرية تسمح بإدارة العمليات والصمود لمدة طويلة.
معلم مليتا.. حكاية النصر الصعب
واحد من أهم المشاريع التي أنشأها حزب الله، في هذا الصدد، هو "معلم مليتا للسياحة الجهادية" والذي يقوم على 60 ألف متر مربع من الحدائق والأحراج ونحو 4 آلاف متر مربع من المساحات المبنية، فوق تلة مليتا التي "عاش فيها آلاف من المجاهدين الذين جاؤوا إلى هذه المنطقة وذهبوا، خدموا لشهور ولسنوات وخصوصاً في أجواء البرد القارس التي تعرفونها عن هذه المنطقة"، والتي "انطلقت منها عمليات كبيرة ومهمة جداً باتجاه كل المواقع الإسرائيلية"، وفق تعبير الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله خلال افتتاح المعلم.
"يروي معلم مليتا لكل حر ولكل الزوار والوافدين الذين تجاوزوا المليونين خلال السنوات الأخيرة حكاية الأرض للسماء، أي قصة مجموعة كبيرة من الأبطال الذين واجهوا الاحتلال"، بحسب مسؤول وحدة الأنشطة الإعلامية في حزب الله علي ضاهر، الذي يضيف: "هو ليس لجهة خاصة أو جمهور خاص، وإنما نهدف لوضعه على خريطة السياحة العالمية، وبالفعل هو أهم معلم سياحي للمقاومة في المنطقة".
يؤكد ضاهر للميادين أن "تدوين التاريخ وحفظ التاريخ وحفظ المعالم التي شهدت الملاحم خلال فترة الاحتلال وحتى التحرير" كانت هماً أساسياً عند قادة المقاومة، وهذا ما "تُرجم بمسح معالم المقاومة ووضع مخططات لسياحة من نوع جديد تنضم إلى أنواع السياحة التي يشهدها لبنان، وهي السياحة الجهادية سواء في الجنوب أو البقاع أو بعلبك".
ويشير إلى أنه وبالإضافة إلى معلم مليتا هناك مشروع "لإقامة معلم في وادي الحجير ليروي تجربة المقاومة في هذا الوادي، ومعلم آخر في منطقة حولا التي كانت تحتضن المقاومة خلال فترة الاحتلال، ومشروع في بنت جبيل وآخر في بعلبك".
يشابه تدمير القوات النازية للنصب التذكارية الأوروبية تدمير "إسرائيل" لمعتقل الخيام عام 2006، فالطرفان عملا على محو ذاكرة العار التي تلاحقهما، لكنه محوٌ لم يسمح لقوات الرايخ الثالث من احتلال ستالينغراد كما لم يسمح للجيش الإسرائيلي باحتلال شبر واحد من بنت جبيل.