توفيق زياد في ذكرى رحيله: معايير زمن مغاير
أول ما عرفنا توفيق زياد كان من خلال أغنية أنشدها الشيخ إمام، مغني الثورة منذ ستينات القرن الماضي. تبدأ الأغنية بـ: "سلبوني".. لنكتشف بعدها أن كاتبها هو الشاعر الفلسطيني توفيق زياد، الذي لم نعرف عنه كثيراً في حينه، إلاّ أن وقعاً خاصاً كان للقصيدة - الأغنية، فظلت تتردّد على الألسنة لسهولة صياغتها، وبساطتها، لكن بتعابير عالية الرمزية، عنونها بـ"مليون شمس".
تقول القصيدة: "سلبوني الماء والزيت وملح الأرغفة.. وشعاع الشمس.. والبحر وطعم المعرفة.. سلبوني كل شيء.. عتبة البيت وزهر الشرفة.. سلبوني كل شيء.. غير قلب وضمير وشفة.." وتتواصل القصيدة معبّرة عن واقع الفلسطيني في تهجيره، إن في أرضه تحت الاحتلال، أو في شتاته، وعن إصراره على مقاومة المحتل مهما تكن الظروف.
توفيق زياد وُلد عام 1929، في "الناصرة" في فلسطين. بدأ نضاله مبكّراً ضد الاستعمار البريطاني، ونظّم مع زملاء له مسيرات مناهضة للاستعمار قبل عام 1948. وفي النكبة، تشبّث زياد بالأرض، وشارك مع الأحزاب الفلسطينية، ومنها الحزب الشيوعي الذي كان عضوا فيه، في التصدي لمحاولات الترحيل. وانتُخب سكرتيراً للحزب في مدينته، عام 1953.
للراحل أنشطة سياسية واسعة، منها أنه انتُخب بالإجماع رئيساً لبلدية الناصرة عام 1975. وكان من المبادرين إلى تأسيس "الجبهة الوطنية للسلام" عام 1977.
تاريخ زياد، سياسياً ونضالياً، حافل بالمعارك والسجالات السياسية، التي حملت في طياتها إشكالات اختلاف وجهات النظر في القضايا المطروحة آنذاك في الأرض المحتلة. لكنّ ما يُسجَّل لتاريخه النضالي السياسي أنه اعتُقل عدة مرات، بينها عام 1967، أي بداية حرب النكسة. تُسجَّل له أيضاً قصة تعذيبه، وصلبه في مدينة طبريا عام 1954. كما تعرض للاغتيال، في أيار/مايو 1977، ونجا منه، وقال فيه "قد يخترق الرصاص جسد الإنسان، ولكن لا يخترق محبة الإنسان لشعبه".
سيرته السياسية طويلة، ومليئة بالإشكالات، وخصوصاً موقفَه من "اتفاق أوسلو"، الذي انتقده كثيرون عليه، ومنهم ابنه أمين، الذي أفاد "الميادين نت" "كان توفيق زياد من دعاة مشروع "أوسلو" لأسباب كان فيها نوع من المنطق في حينه، وكان لذلك الزمان ما يمكن أن يبرّره، ربما وافق كثيرون معه عليه، أو اختلف آخرون في بعضه أو كله آنذاك".
يُذكر أن "اتفاقية أوسلو" وُقّعت في أيلول/سبتمبر 1993، في ظل عالم وحيد القطب، تحت سيطرة الولايات المتحدة الأميركية، في إثر سقوط الاتحاد السوفياتي.
ويقول أمين زياد "انهار هذا المشروع (أوسلو) برأيي منذ أَعلنت الانتفاضة الثانية فشله، بعد 6 سنوات على وفاة توفيق زياد، وسبع سنوات بعد "أوسلو"".
ويتابع زياد الابن "رسالتي هذه موجَّهة في الأساس إلى فلسطينيي الداخل، حتى أبرّئ توفيق زياد من هذا التسطيح، وأقوم بدوري المتواضع في تنبيه ذلك الشباب الثائر، الذي يحمل في يده مليون شمس، وكبرياؤه أعنف من كل جنون العجرفة، ومن الخديعة".
فأمين زياد يتحسّس "أزمة قيادة، وأزمة أحزاب، وأزمة فكر في الداخل (الفلسطيني)"، كما يقول، ويعتقد أنها "لا تَخفى على أحد مِمن ما زال يتاجر بـ"أوسلو" حتى في هذه الأيام.. يُقنعون كوادرهم وجماهيرهم بأن "أوسلو" هو "كتاب الله المنزل" فيما يتعلّق بعلاقتنا بالكيان.. يرون أنفسهم شركاء في هذه "الدولة"، وصراعهم معها صراع مواطَنة، وليس صراعاً قومياً وجودياً، وصراعَ حق ضد باطل، ناسين أو متناسين أن مواطنتهم لن تُحصَّل إلاّ على حساب اللجوء الفلسطيني، وهذه قمة الأنانية".
ويؤكد أمين أن والده لم يكن ليُباع ويُشترى من جانب أحد، ولا كان ليجاري "أوسلو" بعد اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، وهروب "إسرائيل" من لبنان في السنة نفسها. ولا كان سيؤمن بـ"أوسلو"، وبعُلوّ أيدي الطغاة بعد هزيمة الاحتلال النكراء في عام 2006. ولم يكن ليتخذ موقفاً سلبياً من النظام السوري، ومن دعم المقاومة له في حربه على إرهاب أميركا والخليج، والذي نعتقد أنه لم يكن إلاّ ردة فعل على هزيمة "إسرائيل" غير المسبوقة في تموز/يوليو. ولا كان سيقف في عام 2008 مع سرقة "فتح"، وعلى رأسها محمود عباس، السلطةَ في رام الله، حين رفضت احترام القرار الفلسطيني، فانفصلت غزة عن الضفّة”.
ويستدرك أنه لو حدث ذلك في حياة والده توفيق، لكان أقرب إلى "غزة" (الثورة) من "رام الله " (السلطة)، "ببذخها، وفجورها، وتنسيقها الأمني". ولو كان حياً "لرفض تصرُّف من يُسمون اليوم "القيادات الفلسطينية" في الداخل، ولرفض النهج والمسار التطبيعيَّين لهذه القيادات، والمستمرّين منذ نحو عقدين".
ويختم "في ذكرى رحيله، أقول إن إنسانية توفيق زياد تجاوزت حدود وطنه، وإن انتماءه إلى الإنسانية بدأ من حبه بيتَه، وتوسّع حتى بلغ كل الأرض. أحببت فيه جرأته، وحدّة طرحه، ونظافة يديه، وانتماءه إلى المسحوقين وأصحاب الحق أينما وُجدوا. ومما سبق، نستطيع أن نتوقع ما كان سيفعله، أو كيف سيكون موقفه من حَراك اليوم لو كان حيّاً".
توفيق زياد لم يكن سياسياً فقط، بل كان شاعراً وأديباً. كتب الشعر والقصص الشعبية. تناول في شعره معظم القضايا الوطنية والنضالية، والتي واجهت الفلسطينيين. عُرف شعرهُ في الخمسينيات بشعر المقاومة. وهو ممّن أسسوا حركة الشعر الفلسطيني بعد نكبة عام 1948. وساهم في ترسيخ الأدب المقاوم، الذي أطلقه غسّان كنفاني في كتابه الشهير " الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 – 1968 "، وتناول فيه عدداً من التجارب الشعرية، ومنها الشاعر توفيق زّياد، وشعراء أمثال محمود درويش، وسميح القاسم، وآخرين.