آلية إيصال المساعدات.. شعارات إنسانية لتقسيم سوريا

تبرز السياسة الأميركية الرامية أيضاً إلى تمديد آلية إيصال المساعدات عبر الحدود، من دون موافقة دمشق، وبفارقٍ وحيد هو أن واشنطن تريد لهذه الآلية أن تقرّ فتح معابر حدودية تضمن تدفق المساعدات إلى منطقة شرقي الفرات الخاضعة لسيطرة مسلحي "قسد" التابعين لأميركا.
  • باب الهوى معبر مهمّ للمساعدات الإنسانية للسوريين

الجهود الأميركية والأوروبية والتركية، الرامية إلى تمديد آلية إيصال المساعدات عبر الحدود السورية، والمقرّرة في تموز/يوليو 2014، والخاضعة لقرار مجلس الأمن الدولي 2165، تُثير جدلاً كبيراً بين أطراف النزاع في سوريا، بينما تسعى أميركا وحلفاؤها للضغط على كل من روسيا والصين لإقرار تمديد للآلية، وحعلها من عدة معابر، في حين تخشى دمشق وحلفاؤها سوء استغلال شعار المساعدات الإنسانية من جانب واشنطن وأنقرة بهدف إطالة أمد الازمة السورية، الأمر الذي يمهّد مستقبلاً لفصل مناطق البلاد، بعضها عن بعض.

مطلعَ العام الجاري، أفشلت أنقرة كلّ الجهود السورية والروسية، والرامية إلى إعادة فتح المعابر الإنسانية بين إدلب ومناطق سلطة الدولة السورية، متذرّعة برفض مسلحي هيئة تحرير الشام فتح المعابر. ذرائع تركية تبدّدت مع إعلان دمشق استعدادها لفتح المعابر التي تربط حلب بمناطق سيطرة ما يعرف بمسلحي "الجيش الوطني" التابعين لتركيا. معها بدأت تزداد المخاوف من نيّات حكومة إردوغان للمنطقة الممتدة من مدينة جرابلس والباب في ريف حلب الشرقي، وصولاً إلى مدينة جسر الشغور غربي إدلب. 

قبل عامين، صيف عام 2019، أغلقت الفصائل المسلحة التابعة لتركيا جميع المعابر الإنسانية، التي تربط المناطق السورية، بعضها ببعض. حُرم ملايين السوريين من التواصل، وحالت هذه الخطوة دون تمكّن العوائل والأُسر السورية من زيارة أقربائها، أو حتى الوصول إلى ممتلكاتها، عند طرفي المعابر.

استمر التعنّت التركي الرافض فَتحَ المعابر في ظلّ عدم حاجة أنقرة إليها، مستغلة آليةَ نقل المساعدات عبر الحدود من دون الحاجة إلى موافقة دمشق. تعنّتٌ رافقه بدء أنقرة في تصعيد سرعة تطبيق سياستها التتريكية للمنطقة، فأَتْبَعت مدينتي الباب وجرابلس لوالي غازي عنتاب، في حين أَتْبَعت أعزاز وريفها لوالي كلس التركي. أمّا عفرين فأُتْبِعت لولاية لواء إسكندورن ـ أو ما يُعرَف بـ"هاتاي" ـ المحتل منذ عام 1936.

ومعها، بدأت تطبيق سياسة تتريك المنطقة. تذرّعت الفصائل التركمانية، وهي من الجماعات المسلّحة المسيطرة على ريف حلب الشمالي، بانخفاض سعر صرف الليرة السورية في مقابل الدولار، فأجبرت المحالَّ التجارية وكلَّ الفعّاليات الاقتصادية على إلغاء التعامل بالليرة السورية، لتحل محلها الليرة التركية، مبرّرة العمل بأنه مسعى للمحافظة على ممتلكات السوريين، ومتناسية انهيار العملة التركية، الذي بدأ قبل ثلاث سنوات، وبلغ ذروته العام الماضي.

كما شكّلت الكتب التعليمية والمناهج الدراسية هدفاً رئيسياً لأنقرة، فحرصت على فرض مناهج تعليم تُشرف عليها وزارة التربية والتعليم التركية. كما فرضت رفع العَلَم التركي في المدارس، وترداد النشيد الوطني لتركيا بدلاً من النشيد الوطني للجمهورية العربية السورية. كما مُنع أيّ تعليم لأطفال سوريا بمناهج محلية، وفُرضت عقوبات تصل إلى الإعدام لمن يدرّس المناهج التربوية السورية في مناطق سيطرة الفصائل المسلّحة التابعة لتركيا.

فيما يتعلق بالجانبين الديني والعقائدي، عملت تركيا على إنشاء مدارس دينية تُشرف عليها وزارة الأوقاف التركية، تدرّس الفكر الديني القريب من حزب "العدالة والتنمية". ويضاف إلى ما سبق افتتاح جامعات تركية داخل سوريا في مدينتي الباب وأعزاز.

تؤكّد الإحصاءات أن العدد المستهدَف من هذه السياسة التركية يتجاوز 500 ألف طفل سوري في مناطق سيطرة مسلحي "الجيش الوطني" فقط، ليتجاوز المليون إذا أُضيف إليهم الأطفال الموجودون في المخيَّمات، وفي مناطق سيطرة "هيئة تحرير الشام". 

نهاية العام الماضي ومطلع العام الجاري 2021، بدأت المرحلة الثانية من مخطط التتريك لشمالي سوريا. استغلّت تركيا أسماء عدد من الجمعيات، التي أُنشئت سابقاً في ماليزيا وباكستان والكويت وقطر، لتبدأ مخطَّطها في بناء مستوطنات على طول الشريط الحدودي مع سوريا. أكثر من 25 مشروعاً استيطانياً في عفرين وحدها، من المقرَّر أن تؤمّن أكثر من 2000 منزل تتوزَّع على قرى عفرين وبلداتها، كقرى تجاور القرى الكردية في المنطقة. وحرصت تركيا على أن توزع هذه المساكن على مسلحين من أصول تركمانية، بهدف بناء خط تركماني عند الحدود بين سوريا وتركيا، بعمق يتراوح بين 4 و9 كم.

على خط بناء التجمعات السكنية، دخلت قطر إلى جانب تركيا، ليُعلَن بَدءُ تنفيذ مشروع ضخم في منطقة أعزاز شمالي سوريا، تحت اسم مشروع "مدينة الأمل"، تتألف من 1400 شقة، ومن جامع ومدرسة ومركز طبي ومحطة كهربائية. ويتم هذا الأمر من خلال التعاون المشترك بين "هيئة الإغاثة الإنسانية التركية" و "جمعية قطر الخيرية".

مشاريع "خيرية" واقتصادية تحمل في طيّاتها سياسةً تمهّد لفصل الجغرافيا السورية، بعضها عن بعض، وخصوصاً في ظل فرض العزل المجتمعي، المتمثّل بمنع تواصل العوائل السورية، بعضها مع بعض، بعد فصل الجغرافيا واغلاق المعابر المحلية، الأمر الذي منع تنقُّل السوريين في أرض بلادهم.

أمام هذا المشهد، تتصاعد في الآونة الأخيرة المطالبات بضرورة التمديد لآلية إيصال المساعدات المقرَّرة عام 2014، والتي أشرنا إليها في بداية المقال. أصوات تستخدم الإعلام وسيلة للضغط، وتعتمد على أعداد نازحين ما كانت لتكون كبيرة، إلى هذا الحدّ، لو سُمح للسوريين بالعودة إلى قراهم ومدنهم. عوائق وإغلاق معابر فرضتها تركيا، ضمنت لها احتجاز أكثر من مليوني سوري في إدلب وريف حلب الشمالي، ليشكّل هذا العدد عامل ضغط وورقة تستخدمهما تركيا لتمرير سياستها في تقسيم الجغرافيا السورية من جهة، وتُشهرهما في وجه المجتمع الدولي لاستصدار قرارات أُممية تخدم مصالحها المشار إليها. ولا ضير لديها في استخدام ورقة هؤلاء لابتزاز أوروبا، كما سبق لها أن فعلت، ولتهدد بفتح الأبواب أمام تدفق اللاجئين إلى أوروبا.

أمام هذا المشهد، تبرز السياسة الأميركية الرامية أيضاً إلى إقرار تمديد آلية إيصال المساعدات عبر الحدود، من دون موافقة دمشق، وبفارق وحيد، هو أن واشنطن تريد لهذه الآلية أن تقرّ فتح معابر حدودية تضمن تدفق المساعدات إلى منطقة شرقي الفرات، الخاضعة لسيطرة مسلحي "قسد" التابعين لأميركا.

المشهد متطابق تماماً مع تركيا. فرض مناهج تربوية خاصة، ومنع تدريس المناهج التربوية والتعليمية السورية، بالإضافة إلى منع الطلاب من الوصول إلى جامعاتهم، وبدء العمل على إنشاء شبكة اتصالات خاصة في المنطقة. الخطوات واحدة، والأدوات مغايرة ومتعددة، لكن تصبّ جميعها في منحى واحد يهدف إلى تقسيم سوريا وإضعافها، بصفتها الدولة العربية الوحيدة المتبقية من دول المواجهة.

 

المصدر: الميادين نت