مرحلة ما بعد "بريكست".. خلافات عالقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي
طوت بريطانيا صفحة نصف قرن من الانصهار مع أوروبا، بعدما مضت قدماً بانفصالها عن الاتحاد الأوروبي. اكتمل الانفصال أخيراً مع قرار خروج بريطانيا من السوق الأوروبية الذي اُتخذ في شباط/فبراير عام 2020، وتنجح بعدها في التوصل لاتفاقية تجارية مع الاتحاد الأوروبي أواخر نيسان/أبريل الفائت، لتصل بذلك إلى "المحطة الأخيرة في رحلة طويلة"، بحسب تعبير رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون.
إلا أنّ بعض المسائل التجارية لا تزال عالقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، كنتيجة لهذا الانفصال الذي لم يحظَ بتأييد من التكتل الأوروبي.
شهدت التجارة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي تراجعاً حاداً في أول شهر من تطبيق العلاقات الجديدة بين الطرفين بعد انسحاب بريطانيا من التكتل، وسط انخفاض قياسي في الصادرات والواردات من السلع بين الجانبين. بطبيعة الحال، أدى الانسحاب إلى إضعاف التجارة بينهما، وتسبب أيضاً في نشوء خلافات، رغم وجود اتفاقية تجارية بين الطرفين. بعض الملفات لا تزال تشكّل حساسية في التعامل معها، في حين أدت أخرى إلى تصادم مباشر بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي.
بروتوكول إيرلندا الشمالية
تواجه إيرلندا الشمالية (بصفتها جزءاً من المملكة المتحدة) صعوبات في التعامل مع تبعات خروج بريطانيا من التكتل الأوروبي. نتيجةً لذلك، تصاعد التوتر السياسي في إيرلندا الشمالية في الشهور الأخيرة، إثر استياء القوميين الموالين لبريطانيا من القيود الجديدة على التجارة مع باقي المملكة المتحدة، والتي تزايدت منذ دخول "بريكست" حيز التنفيذ بالكامل.
وهناك خلاف قائم بين لندن والاتحاد الأوروبي حول الترتيبات التجارية الخاصة بإيرلندا الشمالية، رغم وجود اتفاق بين الطرفين، البريطاني والأوروبي، على "بروتوكول" خاص لتنظيم التجارة مع إيرلندا، كجزءٍ من اتفاق الانفصال بينهما، من أجل منع إقامة حدود "صلبة" في "جزيرة إيرلندا" التي لا تزال جزءاً من المملكة المتحدة، وجارتها في الاتحاد الأوروبي جمهورية إيرلندا.
إلا أنّ البروتوكول لا يحظى بشعبية بين الوحدويين الموالين للمملكة المتحدة، إذ يضغط مشرعون من الحزب الاتحادي الديمقراطي على رئيس الوزراء جونسون لإلغاء العمل بالبروتوكول.
وفي هذا الإطار، اشتعلت التوترات بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، في أوائل أيار/مايو الماضي، عندما قررت الحكومة البريطانية من جانب واحد تمديدَ فترات السماح لسلعٍ مثل اللحم المفروم والدواجن والبيض للنقل إلى إيرلندا الشمالية من بقية أنحاء المملكة المتحدة دون أي فحوصات صحية.
وكان من المفترض، بحسب الترتيبات التجارية السابقة بين بروكسل ولندن، أن تخضع مثل هذه السلع للفحص اعتباراً من 1 تموز/يوليو، للحفاظ على "حدود ناعمة" (بإجراءات مخففة للتنقل ونقل البضائع) بين إيرلندا الشمالية، وجمهورية إيرلندا، لكن الحكومة البريطانية أرادت تأجيل هذا البند "على الأقل حتى عام 2023". وتتفاوض مع بروكسل لمحاولة تغيير الطريقة التي يتم من خلالها تطبيق البروتوكول.
خلاف بريطاني - فرنسي على حقوق الصيد
لا يزال وصول الصيادين الأوروبيين إلى المياه البريطانية يسبب توترات رغم الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين لندن وبروكسل، والمطبق منذ الأول من كانون الثاني/يناير الماضي.
وتوتر الوضع بين لندن وباريس بشأن حقوق الصيد بين البلدين، حيث تعتبر الحكومة والصيادون الفرنسيون أنّ "لندن لا تلتزم باتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي".
وبموجب الاتفاق، يستمر الصيادون في الاتحاد الأوروبي بالتمتع ببعض الحقوق في الصيد في مياه المملكة المتحدة، كجزءٍ من فترة انتقالية حتى عام 2026. ومع ذلك، يجب أن تحصل قوارب الاتحاد الأوروبي التي ترغب في الصيد على بعد 12 ميلاً من ساحل المملكة المتحدة على ترخيص، وإثبات أنّ لديها تاريخاً في الصيد في تلك المياه من أجل الاستمرار في العمل، أي تقديم أدلة على أنشطة الصيد الماضية.
ولم تمنح جيرسي (جزيرة بريطانية) تراخيص لبعض القوارب الفرنسية التي تقدمت بطلبات للصيد في مياهها. وتُعد جيرسي أكبر الجزر البريطانية، هي تابعة للتاج البريطاني ويتم الدفاع عنها وتمثيلها دولياً من قبل حكومة المملكة المتحدة.
ونشرت بريطانيا في أيار/مايو الفائت سفينتين للقيام بدورية في جزيرة جيرسي "كإجراء احترازي" لحمايتها من تهديدات "بالحصار" من قبل قوارب الصيد الفرنسية، حيث تقع الجزيرة قبالة ساحل شمال غرب فرنسا، لتقوم باريس بالرد عبر نشر سفينتين فرنسيتين في موقع غير بعيد عن الجزيرة.
وكانت فرنسا التي تمدّ الجزيرة بنحو 95% من حاجتها من الكهرباء هددت بقطع الإمدادات عنها، إذا لم يتم السماح للصيادين الفرنسيين بالعمل في مياهها.
أسترازينيكا وحرب اللقاحات
إلا أنّ الخلاف السياسي بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي لم يقتصر على المجالات التجارية فقط، بل كان له تداعيات أيضاً في الجانب الصحي، وفي ذروة جائحة كورونا، حيث يواجه اللقاح البريطاني-السويدي "أسترازينيكا" أزمة ثقة وتقبّل في أوروبا، بسبب "السمعة السيئة" التي حصل عليها. فقد أثارت حالات تجلط الدم النادرة التي سجلت في أكثر من دولة، مخاوف العلماء، وأدت إلى تعليق بعض الدول الأوروبية لاستخدام اللقاح لفترة وجيزة.
وبدلالة على أن المشكلة المتعلقة باللقاح لها خلفيات سياسية وليست طبية فقط، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تصريحاً لمدير وكالة الأدوية الإيطالية، أكد فيه عدم وجود خطر في اللقاح البريطاني، مؤكداً أنّ قرار تعليق استخدامه كان "لأسباب سياسية" داخل أوروبا.
وبالرغم من تمتع لقاح أسترازينيكا بسعر منخفض (أقل بـ 70 في المئة من فايزر الأميركي)، إلى جانب سهولة حفظه وإمكانية إنتاجه بكميات أكبر مقارنة باللقاحات الأخرى التي حصلت على موافقة الاتحاد الأوروبي حتى الآن، إلا أنّه لا يتمتع بالصدارة في أوروبا.
على العكس، فإنّ الكثير من سكان القارة الأوروبية يتخوفون منه ويشككون في فعاليته. وفي هذا الصدد، كشف الاتحاد الأوروبي في آذار/ مارس الماضي أنّ 28 بالمئة فقط من جرعات اللقاح البالغ عددها 7.3 مليون جرعة تمّ استخدامها، وهو ما يعتبر "ضعف استخدام لمورد غالٍ"، وفقاً للمركز الأوروبي لمراقبة والوقاية من الأمراض.
هذه الشكوك التي تم تعزيزها بتصريحات من سياسيين وقرارات بتعليق استخدام اللقاح أو توقيفه، كانت نتيجة حرب إعلامية وسياسية تعرضت لها الشركة المصنعة. فقد ركزت وسائل الإعلام الأوروبية بشكلٍ كبير على الأخبار المتعلقة بحالات تعرضت لتجلطات في الدم ووفيات بعد تلقي لقاح أسترازينيكا، وذلك لضرب سمعة الشركة البريطانية، الأمر الذي أدى إلى تكوين انطباع سلبي لدى الناس حوله، وتخوف من تلقيه، ليصبح اللقاح بذلك ضحية خلافات سياسية وحروب تجارية.