تمرد "الحريديم" على إجراءات كورونا : الحيثيات.. الانقسامات والانتقادات
على خلفية محاولات الشرطة الاسرائيلية تشديد فرض الإغلاق المحكم بسبب كورونا في المدن والأحياء ذات الغالبية الحريدية، ورفض معظم الحريديم إغلاق مدارسهم التوراتية وكُنسهم، شَهِدت تلك المدن والأحياء اتساعاً ملحوظاً لظاهرة المواجهات العنيفة مع الشرطة الإسرائيلية، مواجهات سُرعان ما أخذت أبعاداً سياسية واجتماعية.
ومع أن الاحتكاكات بين الحريديم والشرطة، ليست بالأمر الجديد، إلا أنها اكتسبت خلال الأيام الماضية، أبعاداً عنفيّة غير مألوفة، صدرت عن الطرفين، منها إطلاق الرصاص الحي في الهواء لتفريق المتظاهرين، كما أثارت حادثة إحراق حافلة ركاب في مدينة "بني براك"، ذهولاً وخشية من انفلات الوضع في الشارع.
خروج الصدمات عن سياقها، والاهتمام الاعلامي الذي حظيت به، دفعت الأحزاب الحريدية إلى التحرّك لتهدئة النفوس ولجم "المشاغبين"، وبالتوازي تحميل الشرطة جزء من المسؤولية.
وظهر انقسام في الرأي بين مختلف التيارات الحريدية، بين من دعا إلى المزيد من الاحتجاجات، ومَن نفض يده من المحتجين باعتبارهم من "الغرباء ومثيري الشغب".
ومع عودة السجال بين الحريديم وبقية الجمهور العام حول سياسة الكيل بمكيالين، وتقاذف مسؤولية التسبّب بالكارثة الصحية والاقتصادية، وقعت الشرطة مجدداً، بين مطرقة الحريديم وسندان عامة الجمهور، التي يتهمها الفريقان بأنها تميز ضدهم في تطبيق الاغلاق وفرض القيود.
وسرعان ما تسللت انعكاسات المواجهات في الشارع إلى طاولة الحكومة، المنقسمة على نفسها أصلاً، بين حزب الليكود الذي يحاول مسك العصا من طرفيه. متجنباً إغضاب الحريديم قبل أقلّ من 60 يوماً على الانتخابات، وبين حزب "كاحول لفان"(أزرق أبيض)، الذي يطالب بإقفال مؤسسات التعليم الحريدية أُسوة بمؤسسات التعليم الرسمي.
مجريات الأحداث
وعلى وقع موجة اتهامات للشرطة الاسرائيلية، بأنها تكيل بمكيالين، في تطبيق الاغلاق المُحكم الذي فرضته الحكومة الإسرائيلية، بسبب جائحة كورونا، بين المناطق ذات الغالبية الحريدية، وغيرها من المناطق، وعلى وقع تسارع تفشي الوباء في أحياء المتدينين ومدارسهم الدينية، عمدت الشرطة الإسرائيلية إلى محاولة تشديد إجراءات الاغلاق في مناطق وأحياء الحريديم.
لا سيما إغلاق المدارس الدينية، أسوة بباقي المناطق والمؤسسات التعليمة الرسمية، الأمر الذي أدى إلى تأجيج الصدامات العنيفة، ووقوع إصابات في الطرفين، واعتقالات في صفوف المتظاهرين الحريديم، وترافق ذلك مع بعض الظواهر غير المألوفة، كمحاولة الاعتداء الجسدي على رجال الشرطة، وتحطيم الاملاك العامة، وقيام عناصر الشرطة باطلاق النار الحي في الهواء في أكثر من حادثة.
ذروة الأحداث سُجِّلت ليل الأحد-الاثنين عندما قام محتجّون بإحراق حافلة لنقل الركاب بالكامل، بعد أن حاولوا الاعتداء على سائقها الذي تمكّن من الفرار.
إلا أن مشاهد ألسنة اللهب تتصاعد من الحافلة، وانقطاع التيّار الكهربائي في أجزاء من مدينة "بني براك" التي يسكنها الحريديم، بسبب الحريق، وإجلاء عدد من سكان المباني المجاورة أثار قلقاً شديداً، لدى مختلف الأوساط، وعلى الأثر أُطلقت دعوات لتهدئة النفوس، لا سيّما بعد أن امتدّت المواجهات إلى مدينة أشدود في الجنوب، والقدس المحتلة في الشمال.
وتداعى بعض مملثي الحريديم في الحكومة، وعقدوا اجتماعا طارئاً، وصرّح رئيس الجناح اللتواني في حزب "يهدوت هتوراة"، عضو الكنيست موشيه غافني، إنه يحمل رسالة من الزعيم الروحي الحاخام حاييم كَانيفسكي، "بوقف الاحتجاجات" مقابل أن "تُوقف الشرطة الأعمال الرهيبة التي تمارسها ضد سكان بني براك الذي لم يرتكبوا أي إثم".
ترافق ذلك مع معطيات كشفتها قنوات تلفزة، أظهرت تفاوتاً كبيراً لدى الشرطة في تطبيق قيود الكورونا بين فلسطينيي الـ 48 و"العلمانيين" والحريديم، وبيّنت المعطيات أن الشرطة سطرّت خلال فترة الإغلاق الثالث 26 مخالفة لقيود كورونا لكل 10 آلاف شخص في الوسط الحريدي، مقابل80 مخالفة لكل 10 آلاف شخص من العرب، و58 مخالفة لكل 10 آلاف شخص كمعدل عام.
وتثير العلاقة الخاصّة بين نتنياهو والحزبين الحريديين "شاس" و"يهدوت هتوراه"، انتقادات لنتنياهو تحديداً، ولكبير حاخامات التيار اللتواني كَانيفسكي، في ظل المعطيات الصحية التي تشير إلى أن مراكز تجمّع الحريديم (مدنا وبلدات وأحياء ومؤسسات) هي من أبرز بؤر تفشّي فيروس كورونا، وربما من أبرز أسباب تأخير خروج إسرائيل من أزمتها الصحية- الاقتصادية الناجمة عن الجائحة.
وفي معطيات استعرضتها وسائل الإعلام خلال الأسبوع الماضي، ظهر أن نسبة الحريديم المصابين بكورونا تصل إلى 40 % من نسبة الاصابات بشكل عام، كما ذكرت وزارة الصحة الإسرائيلية أن الطلاب الحريديم يشكلون 60 % من نسبة الطلاب المصابين بكورونا بشكل عام، رغم أن نسبة الحريديم في "إسرائيل" لا تتجاوز 12% من مجموع السكان.
وظهرت في وسائل الإعلام مؤخراً عدّة مقالات وتقارير تنتقد سلوك الحريديم الذين يرفض الكثيرون منهم الالتزام بقيود كورونا، بل يدخلون في مواجهات عنيفة مع الشرطة الإسرائيلية التي تحاول فرض الإغلاق ومنع التجمعات بموجب إجراءات الإغلاق في إسرائيل، كما حدث مؤخرا. وثمة اتجاه رأي متبلور يرى أن الحريديم في إسرائيل باتوا دولة ضمن الدولة.
انقسام حريدي
أظهرت مجمل المواقف والتصريحات التي صدرت عن الممثلين الرسميين، أو غير الرسميين، للجماعات الحريدية أن ثمّة آراء متعددة ومتناقضة -على الأقل- في الظاهر، في مقاربة مسألة الالتزام بالاغلاق وتعطيل التعليم الديني بين الفِرق والتيارات الحريدية المتعدّدة، الأمر الذي عكس مستوى تشدّد كل تيار من تلك التيارات.
وفيما دعا "الجناح المقدسي" (عبارة عن أقلية انعزالية أكثر تطرّفاً من الحريديم اللتوانيين) من الحريديم إلى العصيان والتصدّي للشرطة، وضدّ "التحركات الاجرامية"، دعت تيارات أخرى إلى الالتزام بالارشادات الوقائية الصادرة عن الحكومة ووزارة الصّحة، واغلاق المدارس الدينية والكنس.
في المقابل، حاولت الأحزاب السياسية – الحريدية (شاس ويهدوت هتوراه) السير بين قطرات المطر، وهي نفضت يدها من الشبان الذين أثاروا الشغب في الشارع، في المقابل تعمل على التوصل الى حلّ وسط مع رئيس الحكومة بنيامين نتيناهو.
انتقادات لنتنياهو
أُعلن مع ذهاب "إسرائيل" إلى تمديد الإغلاق الثالث، أن نتنياهو أجرى اتصالا مع حفيد كبير حاخامات الحريديم حاييم كَنايفيسكي وطلب منه التزام الحريديم بإغلاق مؤسساتهم، وأبلغه أن الحكومة ستمدد الإغلاق 10 أيام، وطلب منه أن يقوم الحاخام كَنايفيسكي بدعوة الحريديم إلى الالتزام بقيود كورونا في الأيام العشرة الإضافية.
هذا الأمر أثار انتقادات شديدة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بسبب تساهله و"أدبه" وحتى "توسله" للتيار الحريدي للالتزام بقيود كورونا. فقال زعيم حزب "يوجد مستقبل" يائير لبيد إن "4142 إسرائيلياً ماتوا بسبب إدارة نتنياهو الفاشلة والجبانة لأزمة كورونا.. لأن نتنياهو يتصل ليلاً بحفيد كَنايفيسكي لطلب موافقته على فرض الإغلاق، وبدلاً من أن يقوم بذلك بناء على نسبة العدوى ومعطيات الصحة وعلى أساس علمي، فإنه يدير العملية بناء على اعتبارات سياسية وفي ظل ابتزاز سياسي".
أما زعيم حزب "أمل جديد" جدعون ساعر فقال "لو كنت رئيسا للحكومة لفرضت القانون على الجميع، ولما اتصلت بالحاخام كَنايفيسكي.. هناك حكومة وهناك مؤسسات لا تطبق القانون، ويجب فرضه عليهم بغض النظر عن انتمائهم السياسي".
ساعر قال أيضا إنه سيدعو إلى تشكيل لجنة للتحقيق في أداء حكومة نتنياهو لأزمة كورونا. واتهم الحكومة الحالية بأنها فشلت في التعامل مع هذه الأزمة منذ أكثر من عام، ولهذا السبب مات الناس ودمرت أرزاقهم، مشيراً إلى أن هناك تقصيرا كبيرا على مستويات مختلفة منها نظام التعليم والملف الاقتصادي وغيره.
بعد أن تلقى نتنياهو، سيلاً من الانتقادات لأنه اتصل بحفيد الحاخام كَانيفسكي، صرح نتنياهو قائلاً : "تحدثت مع حفيد الحاخام كَانيفسكي لتنفيذ اجراءات الاغلاق وهذا لا ينقص من احترامي"، وأضاف "إذا كان يمكن تطبيق اجراءات الاغلاق من خلال الحديث مع الحاخام الفلاني فلمَ لا".
في المقابل، وجد خصوم نتنياهو في ذلك فرصة للهجوم عليه، لأن ذلك بدا -برأيهم-كمن يتوسّل الحاخام لفرض القانون.
وبحسب تقارير إعلامية فإن أداء الشرطة المتراخي في تطبيق الإغلاق في التجمعات الحريدية، أسوة بغيرها، نابع من أن نتنياهو، ليس معنيا بإثارة غضب الأحزاب الحريدية على أبواب الانتخابات.
انقسام حكومي
الاحتجاجات والمواجهات في الشارع الحريدي سُرعان ما انعكست مزيداً من التوتر داخل الائتلاف الحكومي المنقسم على نفسه بين رئيس الحكومة من جهة ووزير الأمن من جهة ثانية. وفيما يدفع نتنياهو إلى تمديد الإغلاق المُحكم، يُعارضه غانتس ويعرقل انعقاد جلسة كابينيت الكورونا المخصصة لاقرار تمديد الإغلاق بأسبوع آخر على الأقل.
ويربط غانتس موافقته على تمديد الإغلاق، بتطبيق مساوٍ للقانون على الجميع، في إشارة إلى الزام المدارس الدينية والكنس في مناطق الحريديم بالاغلاق التام، كما بتمرير حزب الليكود قانون رفع الغرامات على المخالفين.
وتحكم حاجة نتنياهو إلى أصوات الأحزاب الحريدية، طبيعة الخطاب الذي يوجهه لهذا التيار رغم الكارثة الصحية- الاقتصادية التي يقود أنصاره إسرائيل إليها.
مع العلم، أن بقاء تحالف نتنياهو مع الأحزاب الحريدية هو خيار استراتيجي له لضمان بقائها ورقة للمساومة مع باقي الأحزاب التي يمكن أن تنضم إليه خاصة اليمينية مثل حزب "يمينا" أو "البيت اليهودي"، لكن نتنياهو حتى بانضمام "يمينا" لكتلته لن يكون قادراً على الحصول على الغالبية المطلوبة، وهي 61 مقعداً، لكنه قد يعيق تشكيل مناهضيه ائتلافاً حكومياً، كما من المتوقّع أن يوفِّر التحالف مع تلك الاحزاب لنتنياهو جزء مهم من الحصانة التي يحتاجها إزاء ملفاته القضائية.