واشنطن وتل أبيب تدينان نفسيهما بالعقوبات على "الجنائية الدولية"

يبدو واضحاً أن إجراءات المحكمة الجنائية لا سيما خلال العام الجاري قد أزعجت الولايات المتحدة و"إسرائيل"، برز ذلك من خلال إجراءات الإدارة الأميركية في فرض العقوبات، وفي ردة الفعل الإسرائيلية على ذلك.
  • منذ تأسيسها عام 2002  تتعرض المحكمة لسياسات معارضة من قبل أميركا و"إسرائيل"

جاءت العقوبات الأميركية على المحكمة الجنائية الدولية لتتوج مساراً من الضغوط السياسية الأميركية ضد المحكمة وموظفيها وذلك بعد قرارتها الأخيرة المتعلقة بفتح تحقيق رسمي في "جرائم حرب" ارتكبت في فلسطين المحتلة وأفغانستان، التي دفعت الولايات المتحدة و"إسرائيل" إلى الدخول في مواجهة مباشرة مع المحكمة المستقلة عن منظمة الأمم المتحدة.

فمنذ تأسيسها عام 2002 تتعرض المحكمة لسياسات معارضة من قبل أميركا و"إسرائيل"، حيث شنتا عليها حملة دبلوماسية وسياسية طويلة ومركزة لتحصين وحماية نفسيهما من أن تطالهما الولاية القانونية للمحكمة، واستناداً لذلك، وقّعت واشنطن اتفاقيات ثنائية مع أكثر من 100 دولة في العالم تمنع هذه الدول من تسليم أو محاكمة أي مواطن أميركي، عسكرياً كان أم مدنياً، بموجب قرارات تصدرها الجنائية الدولية.

ووفق مبادئ المحكمة الجنائية الدولية فإن الأخيرة تمارس اختصاصاً على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، ويشمل ذلك معظم الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني، التي تغطيها اتفاقيات جنيف لعام 1949، والبروتوكولان الإضافيان العام 1977 سواء ارتكبت خلال نزاع مسلح دولي أو غير دولي.

وعلى عكس المحاكم الدولية الأخرى، يجوز للمحكمة الجنائية الدولية اتخاذ إجراءات ضد الأفراد ولكن ليس ضد الدول.

تحقيق بجرائم الاعتداءات الإسرائيلية في فلسطين المحتلة

من هذا المنطلق، أعلنت مدعية المحكمة فاتو بنسودا عزمها فتح تحقيق رسمي في "جرائم حرب ارتكبت بالضفة الغربية وغزة وشرق مدينة القدس المحتلة"، مشيرةً إلى اكتمال الفحص التمهيدي للوضع في فلسطين بتحديد استيفاء جميع المعايير القانونية بموجب "قانون روما "الأساسي لفتح التحقيق.

بنسودا قالت حينها (كانون الأول/ديسمبر 2019) إنه"لدي قناعة بأن هناك أساساً معقولاً للمضي قدماً في التحقيق بشأن الوضع في فلسطين"، إلا أن هذا الكلام رفضته وزارة الخارجية الإسرائيلية رفضاً قاطعاً ودعت جميع الدول لرفضه.

لكن المحكمة تابعت عملها ولم تقف مكتوفة الأيدي أمام غطرسة الاحتلال، فأقرت في شهر أيار/مايو الماضي بحق فلسطين في التوجه للمحكمة لمقاضاة "إسرائيل" على جرائمها وانتهاكاتها.

وأوضح تقريرها الأسباب والكيفية التي تمكّن المحكمة من ممارسة الولاية القضائية على الجرائم المرتكبة على أراضي فلسطين. كما يحدد التقرير الولاية الجغرافية للمحكمة على الأراضي المحتلة ويجعل من مباشرة التحقيق الجنائي أقرب من أي وقت آخر.

مقابل هذا التقرير، اعتبر وزير الخارجية الأميركيّ مايك بومبيو، أن الفلسطينيين "غير مؤهلين كدولة للحصول على العضوية الكاملة في المنظّمات الدولية بما في ذلك الجنائية الدولية". واتّهم بومبيو بنسودا بمحاولة ممارسة الولاية القضائية على الضفة الغربية وشرق القدس المحتلة وغزة من خلال رفع دعوى جديدة ضدّ "إسرائيل" بتهمة ارتكاب جرائم حرب.

وفيما دعا رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، إلى فرض عقوبات على المحكمة وبحق موظفيها معتبراً أنها تشن "هجمة شاملة" على "إسرائيل"، أكّدت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي أن حملات التشويه الإسرائيلية التي تستهدفها بشأن حيادها "لن تؤثر في مجريات التحقيق بشأن فلسطين".

التحقيق بانتهاكات حقوق الإنسان في أفغانستان

وفي أفغانستان، وبعد أيام من توقيع اتفاق بين حركة "طالبان" والولايات المتحدة في الدوحة قالت المدعية العامة إنها ستعمل على التحقيق في جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ارتكبتها حركة "طالبان" وشبكة حقاني، وجرائم حرب ارتكبت على يد قوات الأمن الوطني الأفغاني وعلى وجه الخصوص أعضاء في المديرية الوطنية للأمن والشرطة الوطنية الأفغانية.

إضافة إلى جرائم حرب ارتكبت على يد الجيش الأميركي في أفغانستان وأعضاء في وكالة الاستخبارات المركزية (سي أي إيه) في "مرافق الاحتجاز السرية" في أفغانستان وعلى أراضٍ في دول أخرى أطراف في نظام روما الأساسي، ومن حيث المبدأ تقع هذه الفترة بين 2003-2004. وأكدت المدعية العامة أن الهدف الوحيد لمكتبها هو التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المزعومة ومقاضاة مرتكبيها. 

من جانب آخر، قال مكتب بنسودا إنه بإمكان القضاء إصدار أوامر للمثول أمام المحكمة أو إصدار مذكرات توقيف "بصرف النظر عن هوية المرتكب" بسبب جرائم مزعومة ارتكبت فيما يتعلق بالوضع في أفغانستان، وهذا ما دفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب لاصدار أمر رئاسي متمثل بفرض عقوبات على مسؤولين بالمحكمة الجنائية الدولية بسبب موافقة المحكمة على فتح التحقيق.

وأشار البيت الأبيض إلى أن ترامب سمح بتوسيع قيود الحصول على التأشيرة إلى الولايات المتحدة ضد مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية، وأفراد أسرهم.

من جهته، قال وزير الخارجية الأميركي إن "المحكمة الجنائية مسيسة"، معتبراً أن "إسرائيل صديق حميم لنا ولايمكن للجنائية الدولية محاكمة من يدافع عن نفسه".

أما رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو رحب بدوره بـ"إتاحة الرئيس الأميركي المجال أمام فرض عقوبات على مسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية"، معلناً أن المحكمة الجنائية تعمل على "اصطياد الساحرات" ضد "إسرائيل" والولايات المتحدة، و"الديمقراطيات الأخرى التي تحترم حقوق الإنسان".

وتعليقاً على ذلك، قال رئيس الكنيست الإسرائيلي ياريف ليفين، إن "قرار ترامب العمل ضد محكمة الجنايات الدولية له أهمية استراتيجية لأمن إسرائيل".

تضامن دولي مع القرار

مع القرار الجائر يقف الاتحاد الأوروبي إلى جانب المحكمة الجنائية الدولية منذ زمن بعيد، مؤكداً أن المحكمة الجنائية "تلعب دوراً كبيراً في تطبيق القوانين الدولية وفرض عقوبات على الجرائم الدولية". في حين قال الناطق الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، إن المنظمة أصدرت بيانات سابقة أكدت فيها "ضرورة أن تنسجم أية قيود تتخذها الدولة المضيفة للأمم المتحدة مع معاهدة المقر الرئيسي".

وفي الوقت الذي أعربت فيه المحكمة الجنائية الدولية عن "استيائها العميق" لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مشيرة إلى أنه يحمل في طياته "إكراهاً وتهديدات"، رأى وزير الخارجية الايراني اعتبر أن المحكمة الجنائية الدولية "تُبتز" الآن من قبل "عصابة خارجة عن القانون تتظاهر كدبلوماسيين"، في إشارةٍ إلى الإدارة الأميركية.

على هذا النحو، يبدو واضحاً أن إجراءات المحكمة الجنائية لا سيما خلال العام الجاري قد أزعجت الولايات المتحدة و"إسرائيل". برز ذلك من خلال إجراءات الإدارة الأميركية في فرض العقوبات، وفي ردة الفعل الإسرائيلية على ذلك.

وإذا كانت العدالة التي تروّج لها المحكمة الجنائية تطال انتهاكات حقوق الإنسان، فإن واشنطن وتل أبيب وعلى عادتهما ستقفان سداً منيعاً بوجه ذلك، لا سيما وأن الانتهاكات الأميركية والإسرائيلية باتت واضحة أكثر من أي وقتٍ مضى، وهو ما دفع ترامب إلى اتخاذ إجراءات مباشرة تمنع "التحقيق" قبل المثول أمام المحكمة، ليدافع عن "براءةٍ" لا دليل على وجودها!

المصدر: الميادين