هكذا حوّلت الثورة الإيرانية وجه اقتصاد البلاد
بنجاحها في شباط/فبراير 1979 كانت الثورة الإيرانية أمام تحدٍ لا يقلُّ خطراً عن بطش سلطات الشاه رضا بهلوي، وهو بناء الدولة - التي كانت لا تزال متخلفة اقتصادياً رغم التحديث الشكلي الذي بدأه الشاه الطامح حينها لتشييد دولة على الطراز الأتاتوركي - وفق رؤية جديدة متوافقة مع العقيدة الثورية التي كانت تجمع بين الاستقلال الاقتصادي والسياسي، والإيمان بضرورة توزيع الثروة بشكل عادل، وإنماء الأنحاء الفقيرة، وبناء اقتصادي فوق قاعدة الأخلاق الدينية.
منذ ذلك الحين، بدأت إيران رحلة وعرة في عالم الاقتصاد والسياسية، فالبلاد شهدت 8 سنوات من الحرب الباهظة الثمن، وضغوطاً دولية وإقليمية ثم خلافات محلية حول أولويات الاقتصاد؛ النمو والانفتاح أم التوزيع العادل. أما السؤال الذي شرعه دستور ما بعد الثورة الداعي إلى "منع الهيمنة الأجنبية على اقتصاد البلاد" فلا يزال شاهداً حتى اليوم: كيف نفعل ذلك؟
الثورة مستمرة بـ"الاقتصاد المقاوم"
حافظت إيران الإسلامية على منهج وسطي في بناء اقتصادها، مستفيدةً من التجارب المعاصرة ومن الطروحات الشرعية التي نصّت على ضرورة احترام الملكية الخاصة مع ضمان المنفعة العامة للمجتمع وتضييق الفروقات بين طبقاته وذلك من خلال تعزيز تحكم الدولة بالاقتصاد ومنع تحوله إلى مطية بيد أصحاب رؤوس الأموال، ولذلك قضت المادة 44 من الدستور بملكية الدولة للصناعات الثقيلة والموارد الطبيعية٬ وقطاع المصارف والتأمين٬ كما وإدارة الإعلام والاتصال والملاحة والطرق والسكك الحديدية.
وشهدت البلاد حقبات اقتصادية متفاوتة وفقاً لتبدل الظروف الدولية وتعاقب الرؤساء ذوي التوجهات السياسية والاقتصادية المختلفة، لكن العقوبات والحصار الاقتصادي والمالي دفع البلد نحو الإيمان بأهمية التأقلم مع أصعب الظروف العالمية والمحلية وذلك من خلال "تثوير الاقتصاد" أي نقله إلى مستوى يناسب التطلعات السياسية لإيران الرامية إلى الاستقلال عن الغرب والصمود بوجه الاعتداءات.
مما لا شك فيه أن استقلال قرار إيران السياسي يستدعي استقلالاً اقتصادياً يجعلها قادرة على فكّ الارتباط ولو نسبياً بالدول المهيمنة، ولذلك كان من الواضح منذ البداية أن اقتصادها الذي عانى من فقاعة ارتفاع أسعار النفط خلال الستينات وحتى العام 1973 وفشل في تحقيق الأهداف التي أعلن عنها الشاه حينذاك بتخطي حجم اقتصاد كل من ألمانيا وفرنسا مع نهاية القرن العشرين، لن يتمكن من الازدهار إذا بالغ في الاعتماد على موارد النفط المتقلب الأسعار (بلغ سعر البرميل أقل من 10 دولارات عام 1999، وأكثر من 145 دولار عام 2008).
المسألة الأساسية هنا، أن النفط والثروات الطبيعية الأخرى قد تمنح أي بلد نمواً كبيراً وسريعاً، لكنها نفشل في منحه نمواً مستداماً وصلباً، وهذا ما تظهره "الثورة البيضاء" التي أطلقها الشاه محمد رضا بهلوي في مطلع ستينات القرن المنصرم، والتي اعتمدت على خصخصة القطاعات العامة والاستناد على عائدات النفط والربح السريع، وهذا ما انتهى بتدمير القطاع الزراعي والنزوح الواسع إلى المدن وأدى إلى خسارة الخزينة في عقد لكل الأرباح التي جناها كبار المستثمرين في أعوام قليلة، بل وساهم لاحقاً في تزخيم عناصر الثورة التي أطاحت ببهلوي.
عند انتصار الثورة كانت ميزانية الحكومات الإيرانية تعتمد على صادرات البترول ومشتقاته بنسبة تبلغ 90%، وهذا ما جعلها رهينة علاقاتها بأكبر مستهلكي النفط وبالاستقرار العالمي والإقليمي، لكن إيران أخذن بالتخلي تدريجياً عن هذا الارتهان بتحويل عائدات النفط نحو دعم القطاعات الانتاجية المختلفة، وإن تطلب ذلك عقوداً من العمل (قبل فرض العقوبات الأميركية عام 2006 بلغ اعتماد طهران على النفط نحو 70% ثم تدنى إلى 27% عام 2019).
كلّ ذلك استند على رؤية القيادة الإيرانية، وعلى رأسهم المرشد الأعلى السيد على خامنئي، الذي شدّد على ضرورة تقليل الاعتماد على الصادرات النفطية، وزيادة الإنتاج وتوفير فرص العمل للشباب، وتحويل الضغط والعقوبات إلى محفّز للإنتاج المحلي والتفكير بأساليب بديلة وتخفيض الاستهلاك.
ويوضح نص "السياسات العامة للاقتصاد المقاوم" الذي أرسله السيد خامنئي عام 2014 إلى المسؤولين، التوجه نحو "تكريس ثقافة جهادية" في إنتاج الثروة وإيجاد فرص عمل والاستثمار، أي رفع الاهتمام بالنشاط الاقتصادي لا عند المؤسسات فحسب بل كذلك عند الأفراد.
وتراهن السلطات الإيرانية على التشارك مع الشعب بشكل مجمل تكاليف وأعباء الحصار وجهود النهوض والصمود، وذلك بالرهان على إرث الثورة في تحسين حياة الطبقة الفقيرة والوسطى ودورها في توزيع الثروة الوطنية بشكل عادل، حيث استفاد الفقراء وسكان المناطق الريفية بشكل خاص من توسّع صلاحيات القطاع العام وتعزيز قدراته.
اقتصاد أعقد من حسابات واشنطن
حين فرض الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب "الضغوط القصوى" على إيران، كان يتوقع أن يختلّ الاقتصاد الإيراني بشكل غير قابل للمعالجة إلا بالتسليم للشروط الأميركية، لكن هذا لم يحدث لأن إيران غالباً ما كانت تتخطى التوقعات.
وكما يقول الخبير بالاقتصاد الإيراني جواد صالحي أصفهاني فإن توقعات إدارة دونالد ترامب بانهيار الاقتصاد الإيراني سريعاً على وقع العقوبات كانت متفائلة جداً، وذلك بسبب قلة المعرفة بتركيبة الاقتصاد الإيراني المتشابك وتجاهل مدى "خبرة الإيرانيين في مقاومة العقوبات".
لقد توقع عدد من المراقبين للجمهورية الإسلامية، ومنهم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أن نهاية الحرب مع العراق ووفاة السيد روح الله الخميني سيؤديان إلى التبني الزائد للسياسات البراغماتية والاقتصاد المفتوح، ولكن الأحداث بينت أن الانفتاح الإيراني والتوجه نحو تحرير الاقتصاد لم يتم على النحو المتوقع.
الأكيد أن اقتصاد إيران تضرر بشكل كبير من العقوبات المستمرة لعقود، فزاد معد التضخم، وانكفأت الشركات الأجنبية عن الاستثمار في البلاد، وبلغ معدّل البطالة نحو 24%، بالإضافة إلى تدني الصادرات النفطية والسلع الأخرى.. فإيران تعرضت لعقوبات وصفت الأشرس تاريخياً، وطالت مسؤولين الحكوميين وشركات النقل التجاري والمؤسسات الصحية والأمنية والصناعية، كما وشملت شبكات تجارة في الإمارات والصين يُزعم أنها سهلت صادرات النفط الإيرانية، بل واستهدفت العديد من البنوك والمؤسسات المالية، الأمر الذي أعاق استيراد حتى المواد الطبية والإنسانية.
لتفادي هذه العقوبات، عملت إيران على تصدير نفطها ومنتجاتها عبر الالتفاف في طرق وأساليب التوريد بالشراكة مع دول تجمعها بطهران مصالح مشتركة عديدة كالصين وتركيا والعراق. وقدّمت إيران للدول الشريكة امتيازات متبادلة على صعيد الرسوم الجمركية، كذلك نشّطت التبادل بالعملات المحلية، وشمل التعاون وع الشركاء بيع أو تمرير النفط الإيراني واستيراد البضائع المحظورة عليها، وفق مبدأ المقايضة وشطب الدولار من التعاملات الاقتصادية.
من الجلي أن عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي ستترك تأثيراً على مستقبل إيران الاقتصادي، فبحسب تقديرات بحسب معهد التمويل الدولي (IIF) سيساهم هذا الإجراء في نمو الاقتصاد بنسبة 4.4% هذا العام بعد 3 سنوات من الركود العميق التي تسببت بها العقوبات، على أن ينمو بنسبة 6.9% عم 2022 و6% عام 2023. لكن إيران لا تبدو مستعجلة جداً للعودة إلى الاتفاق - بتعبير المرشد خامنئي - ربما لأن ما "جنته" بالعقوبات أكبر مما ستجنيه بالتفاهم.