سلاح الطاقة والعقوبات لمواجهة سوريا.. الحصار الأميركي العربي (1)
في شباط/فبراير 2016، اتجهت أنظار السوريين إلى تقدم الجيش السوري باتجاه المحطة الحرارية في مدينة حلب. شكلت المحطة علامة تبعث على التفاؤل لدى صناعيي المدينة وتجارها، كما كانت بارقة أمل لأهالي حلب الذين أملوا أن تكون محطة إنتاج الكهرباء "العاملة على الغاز والنفط الثقيل" سبباً لإنهاء حالة انقطاع الكهرباء عن عاصمة سوريا الاقتصادية حلب.
في مؤتمره الصحافي من مدينة حلب، أكد وزير الكهرباء حينها، عماد خميس، الذي ترأس الحكومة لاحقاً، أن عودة المحطة الحرارية ستنهي حرمان حلب من الكهرباء، وستساعد على التخفيف من أزمة سوريا بشكل عام، فالمحطة تتضمن 5 عنفات، تنتج الواحدة منها ما يقارب 110 ميغاواط كهربائي يومياً، أي أنها قادرة على إنتاج 1100 ميغا يومياً، وتتميز بأنها تعمل بأكثر من 70% على النفط الثقيل، بخلاف نظيراتها العاملة على الغاز فقط.
لم تطُل هذه الآمال. تحرّرت المحطة الحرارية بعد مؤتمر الوزير الصّحافي بأقل من أسبوع، ولم يتمكن تنظيم "داعش" من تفجيرها، رغم أن عناصر التنظيم فخخوها قبل انسحابهم منها، لكن المفاجأة تمثلت في أنه دمّر نواة العنفات الخمس، ما يعني فقدان أي فرصة لإمكانيّة ترميمها أو إصلاحها. دخلت مؤسّسة الكهرباء إلى المحطة، لتكتشف أنّها بحاجة إلى 5 عنفات جديدة بكلفة تناهز مليار يورو تقريباً.
هنا، انهار جبل الأحلام لدى الحلبيين خاصة، والسوريين عامة، فالخلاص من أزمة الكهرباء بات أمراً شبه مستحيل، ذلك أن البلاد في ظل الحرب لا طاقة لها على تحمل كلفة مليار يورو لإعادة بناء المحطة من جديد، كما أن الشركة الألمانية التي أنشأتها لم يعد بإمكانها العودة للعمل في سوريا في ظل العقوبات الغربية الأميركية على البلاد.
أدرك السوريون أنهم أمام أزمة كهرباء طويلة، وبدأت وزارة الكهرباء إثر الواقع المستجد بالتفكير في كيفية إنقاذ حلب من فقدان التيار الكهربائي بالكامل، فكان مشروع مد خط التوتر 230 الذي يصل من حماه إلى حلب عبر طريق أثريا خناصر، بكلفة تجاوزت مليار ليرة حينها (ما يقارب 3 مليون دولار).
هذا المشروع تكلل بالنجاح بعد عام من العمل مطلع العام 2018. وفي مطلع العام 2020، أعيد تفعيل خط نقل الكهرباء من حماه إلى حلب، المعروف بخط "540 KVA"، وشهدت المدينة عودة تدريجية للتيار الكهربائي، لكنها لم تتمكّن من تلبية الطموح، فكان شتاء العام 2020 قاسياً على سوريا عامة وحلب خاصة.
شكلت أزمة المحروقات التي ظهرت بوادرها في آب/أغسطس من العام ذاته، نتيجة العقوبات الأميركية والحصار على سوريا، بوادر توحي بشتاء قاس، ولم تتمكن الحكومة من تأمين المحروقات اللازمة. رئيس الحكومة السورية المهندس حسين عرنوس كشف تحت قبة مجلس الشعب السوري خفايا الأزمة، فقال: "منعت ناقلات النفط من الوصول إلى الموانئ السورية، وقصفت 4 ناقلات كانت تتجه إلى الموانئ السورية، كما منعت 5 ناقلات من الوصول إلى مقصدها". شبّه السوريون ما يجري بالقرصنة المقوننة تحت مسمى عقوبات يدفع المواطن السوري ضريبتها.
من يعاقب السوريين؟
مع بداية الأحداث في سوريا مطلع العام 2011، سارعت الدول الغربية إلى إنشاء ما عرف حينها بمجموعة "أصدقاء الشعب السوري"، وهي مجموعة دول عربية وأوروبية، إضافة إلى أميركا. أقرت هذه الدول حزمة عقوبات على دمشق، بهدف إحداث شلل كامل في بنية الاقتصاد السوري، وبررت قرارها حينها بأن الهدف هو شل قدرة النظام على مواجهة من أسموهم بـ"الثوار".
في نيسان/أبريل 2011، أقرت العقوبات الأوروبية على سوريا. أعلن الاتحاد الأوروبي، وبشكل تدريجي، أكثر من 15 حزمة عقوبات، بدأها بحظر السلاح، إضافة إلى عقوبات على القطاع النفطي الحيوي للبلاد، كما ألزمت دول الاتحاد بتفتيش كل السفن والطائرات التي يعتقد أنها متجهة إلى سوريا، لمنعها من حمل كل ما أقرته العقوبات إليها.
من جهتها، فرضت الجامعة العربية جملة من العقوبات تمثلت في حظر أي استثمار عربي في سوريا، وتشديد التعاملات مع البنك المركزي، ومراقبة التحويلات المصرفية والاعتمادات التجارية.
لم تحظَ العقوبات العربية والغربية بإجماع عربي، وسعت بعض الجهات في لبنان إلى الحفاظ على علاقتها بسوريا، كما امتنع العراق والجزائر عن تطبيقها، ما مكن البلاد من تأمين الحد الأدنى من حاجات المواطن.
في تموز/يوليو 2019، ظهرت أولى بوادر العقوبات القاسية التي تتجه الدول الأوروبية لتطبيقها على سوريا. أعلنت شرطة ما يعرف بحكومة جبل طارق التابعة لبريطانيا أنها أوقفت ناقلة نفط إيرانية متجهة إليها، وبررت الأمر بأنه تطبيق للعقوبات الأوروبية المفروضة عليها.
ردت حينها طهران باحتجاز ناقلة نفط بريطانية في منطقة الخليج، ما خلق أزمة بين إيران وأوروبا. لم تفرج طهران عن الناقلة البريطانية إلا بعد أن أفرجت بريطانيا عن الناقلة الإيرانية التي تابعت مسيرها إلى قبالة السواحل السورية، وأفرغت الحمولة عبر قوارب صغيرة.
لماذا اضطرت طهران إلى إرسال النفط عبر مضيق جبل طارق؟
لم يكن مبرراً من الناحية التجارية أن ترسل طهران النفط إلى سوريا عبر مضيق جبل طارق، فالطريق إلى سوريا يمر عبر البحر الأحمر وقناة السويس، ليأتي تصريح السفير المصري في سوريا من مدينة حلب عندما رد على سؤال الصناعيين في المدينة عن مدى استجابة الحكومة المصرية للعقوبات المفروضة على سوريا، فقال حينها: "مصر لم توقف أي شحنة نفط تتجه إلى سوريا"، ليتبين بعد أقل من أسبوع، ومن خلال رد رئيس مجلس الوزراء السوري السابق عماد خميس، أن مصر تعوق عبور ناقلات النفط عبر قناة السويس، الأمر الذي أحدث خللاً في سوريا مطلع العام 2019.
لعل هذا الأمر شكل العامل الرئيس لدمشق وطهران لدفعهما إلى التوجه إلى طريق رأس الرجاء الصالح ومضيق جبل طارق، كسبيل بديل للوصول إلى سوريا. الحادثة كشفت حجم المشاركة العربية في حصار الشعب السوري ومحاولة كسر دمشق من خلال محاصرتها ومنع وصول المشتقات النفطية إليها.
أين النفط السوري؟
تنتج سوريا 400 ألف برميل نفط يومياً، وفقاً لآخر إحصائية في العام 2010، كانت تصدّر منها 150 ألف برميل إلى أوروبا، وبلغت نسبة مساهمة النفط في الناتج المحلي للبلاد قرابة 3.2 مليار دولار سنوياً. تتركز أحواض النفط السورية في منطقة شرق الفرات، أهمها حقل العمر النفطي وحقول رميلان، وهي منطقة تخضع لسيطرة ما يعرف بميليشيا "قوات سوريا الديمقراطية" التابعة لأميركا، التي تسيطر على إنتاج نفطي يقارب 370 ألف برميل يومياً، "وهو جل إنتاج البلاد من النفط"، في حين توجد في مناطق سيطرة الدولة السورية آبار لا تصل طاقتها الإنتاجية القصوى إلى 35 ألف برميل.
توزع السيطرة مكّن أميركا من التحكم بكامل إنتاج سوريا من النفط وفرض إرادتها على المنتج الذي يستخدم منه أقل من 10% لتأمين حاجة السكان في منطقة شرق الفرات، في حين يتجه باقي الإنتاج ليباع في إقليم كردستان العراق، ومنه إلى تركيا، في وقت منعت أميركا إرسال هذا النفط إلى صاحبه الأصلي، الشعب السوري، وبررت ذلك بأنه جزء من عقوبات "قيصر" التي أقرتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
ماذا عن الغاز السوري؟ يتبع...