لماذا انهار القطاع المصرفي اللبناني، وما مصير الودائع؟

عندما أعلنت الدولة اللبنانية إفلاسها عبر العجز عن سداد "اليورو بوند"، وقعت المصارف في أزمة سيولة أمام المودعين ومنعتهم من سحب ودائعهم بالعملات الأجنبية سوى بالليرة. ما هي الأسباب التي أوصلت المصارف إلى هذه الحالة، وهل تبخرت أموال المودعين؟
  • لجوء مصرف لبنان إلى تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مع هامش ضيّق كلّفه عشرات المليارات من الدولارات

القطاع المصرفي في لبنان درّة الاقتصاد وتاجه، ولطالما قدّمه المدافعون عنه كقطاع خدماتيّ أساسيّ يشكل نفط البلد واستثماره، لكنّ دوره تحول وتبدل، ومن دون سابق إنذار، من مصرف إلى كونتوار يمرّر المعاملات، ولا يعطي الناس أموالهم بالعملة الأجنبية، ويفرض أيضاً قيوداً على السحوبات بالليرة اللبنانية.

إنّ قصة القطاع المصرفي ليست فريدة، إلّا أنّ سرعة الانهيار كانت مفاجئة. بدأت القصة نهاية آب/أغسطس 2019، عندما توقّفت المصارف عن تزويد الصراف الآلي (ATM) بالدولار الأميركي بسبب عدم توفّره لديها. 

بدايةً، منعت التحويل من الليرة إلى الدولار، وحالت دون سحبه عبر ماكينات الصراف الآلي، قبل أن يختفي نهائياً منها وينحسر لدى صناديق المصارف التي ظلت تقطّره على عملائها طيلة شهر ونصف الشهر تقريباً، حتى حصلت انتفاضة شعبية في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، عندما نزل النّاس إلى الشارع اعتراضاً على فرض ضريبة 6 دولار على "الواتسآب". 

استغلّت جمعيّة المصارف حالة الغضب الشعبيّة، وأعلنت إقفال المصارف بشكل مفاجئ حتى النصف الأول من تشرين الثاني/نوفمبر بذريعة الاضطرابات. بعد إعادة فتحها، تهافت المودعون بغية سحب ودائعهم، لعدم وجود ثقة بالمصارف، إذ قُيّدت السحوبات على الدولار بحسب قيمة الوديعة، فبات من يملك حساباً يتخطّى مليون دولار يحصل في أحسن الأحوال على 1000 دولار أسبوعياً، والأدنى فالأدنى، حتى وصل الأمر أن يحصل العميل على 50 دولاراً أسبوعياً، لتتدنى هذه السقوف تدريجياً، إلى أن اختفى الدولار من المصارف، بعدما أجاز حاكم المصرف المركزي رياض سلامة منح الودائع الأجنبية بالليرة، عندما قال إنّ على المصارف عادةً أن تسدّد بعملة بلدها، لتستغل الأخيرة موقف الحاكم، وتبدأ من آذار/مارس 2020 بالتسديد بالليرة على سعر 1515، ليعود الحاكم ويعدّل السعر إلى 3900 ليرة في نهاية نيسان/أبريل، بعد أن سمح لأصحاب الودائع الصغيرة بالليرة والدولار بسحب ودائعهم وإغلاق حساباتهم، فكان بإمكان من يملك حساب بالليرة لا يتجاوز 7 ملايين ونصف المليون أن يحوّله إلى دولار، ثم يقبضه على سعر 3200 ليرة لكلّ دولار، قبل أن يرفع السعر إلى 3900 في نهاية نيسان/أبريل مع باقي الودائع، إلّا أنّ القيود المفروضة على السحوبات باللبناني استمرت مع استمرار ارتفاع سعر الصرف.

يشوعي: القطاع المصرفي فشل في رسم سياسة نقدية ناجحة

ويعزو الخبير الاقتصاديّ إيلي يشوعي سبب الحالة التي وصلت إليها المصارف اليوم بعدم الدفع بالعملات الأجنبية للمودعين في حديث إلى "الميادين نت"، إلى عدة أسباب، على رأسها النظام المصرفي القائم في لبنان، والمكوّن من البنك المركزيّ والمصارف التجاريّة التي فشلت في رسم سياسة نقدية ناجحة، فما الهدف الّذي كان يفترض بالمصرف المركزي أن يحققه قبل أن نصل إلى هذه الأزمة؟

كان من المفترض أن يعتمد على عرض كافٍ للنقد في الاقتصاد بكلفة تناسب الاستثمارات المنتجة في القطاع الخاص، لحفظ النمو الاقتصادي، وتوفير فرص عمل، والسيطرة على التضخّم، والسهر على استقرار سعر صرف الليرة.

ويتّضح ممّا وصلنا إليه أنّ المصرف المركزي خرج عن كل هذه الأهداف، ولم يحقق شيئاً منها على الإطلاق، واختزلها كلها بهدف واحد هو تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مع هامش ضيّق، ما كلّفه عشرات المليارات من الدولارات جرّاء تدخلاته غير المدروسة، فتحقيق هذا الهدف تم بمسار مختلف، إذ جرى استخدام النسب العالية من الفوائد، وكان تثبيت سعر صرف الليرة بقرار مركزي بمعزل عن عمل قوى السوق، أي العرض والطلب في سوق القطع الذي يجب أن يُحكَم بتدخلات منتظمة من قبل المصرف المركزي مع ترك هامش لسعر الدولار بشكل مريح، وأيضاً جرّاء سياسة الفوائد المرتفعة التي منحتها المصارف للمودع، فقد فضّل عدم الذهاب نحو الاستثمار والمخاطرة، واختار تحصيل أرباح جرّاء النسب المرتفعة من العوائد، وهو ما دفع المصارف إلى عدم قيامها بدورها الطبيعي في الاقتصاد، من خلال بناء شراكة استراتيجية مع القطاع الخاص المنتج، فيكون هو المموّل، وتكون الشركة المنتج والمصدّر.

لم تقم المصارف بهذا الدور، واتجهت نحو الاكتتاب بسندات الخزينة من دون أي ضمانات من قبل القطاع العام، ووقعت بسببها في فخّ الفوائد المرتفعة، بعكس القطاع الخاص الذي أثقلته بالضمانات.

ويعتبر يشوعي أنّه عندما أعلنت الدولة إفلاسها عبر العجز عن سداد "اليورو بوند"، وقعت المصارف في أزمة سيولة أمام المودعين الذين لم يستطيعوا الحصول على أغلب ودائعهم من العملات الأجنبية، بل تمّ إعطاؤهم مبالغ بالليرة اللبنانية فقط.

ويلفت إلى أنّ أموال المودعين بالعملة الصّعبة لن تعود على المدى المتوسط، وخصوصاً ما لم تتغير سياسة المصارف والبنك المركزي الذي يحمّله الجزء الأكبر من الأزمة، فجلّ ما فعله هو فصل الاقتصاد عن النقد، مطالباً الناس بالضغط لاستعادة دولاراتهم.

هنا، يتأرجح المودعون بين نظام مصرفي متلاعبٍ بأموالهم وإجراءات عاجزة تفرضها الدولة، سواء على الصّعيد المالي أو القضائي أو السياسي، على الرغم من إنشاء العديد من الجمعيات التي تطالب بحقوق المودعين، ولكن من دون أي تقدّم في هذا المسار، فهل يحتاج المودعون إلى خطوة غير اعتيادية لحل أزمتهم الصعبة؟ وهل من أفقٍ لترميم الخلل الكبير في النظام المصرفي اللبناني وإعادة الثقة به؟

المصدر: الميادين نت