الحوار مع إيران يتجاوز النووي
هبّ إعصار على الشرق الأوسط، سمّي ربيعاً. إعتقد كثيرون أنهم يستطيعون تجييره لأشرعتهم، لكن رياح الأعاصير غادرة عصيّة على التطويع. وخلال أقل من ثلاثة أعوام، تفجرت براكين بعضها ينفث غازات سامة تهدد بالإنتشار مخترقة كل الحدود السياسية والجغرافية والثقافية. براكين إعتقد الأميركيون أنهم أخمدوها قبل عشرة أعوام فقط في أفغانستان والعراق وباكستان في حروب لم تضع أوزارها بعد. الفكر السعودي التكفيري أنبت أشواكاً وقنابل موقوتة في كل مكان من أندونيسيا إلى نيجيريا، ومن كينيا إلى السويد. لم يعد ملك الغاب قادراً على ضبط الضباع أو حتى الجواميس. والسباع تعرف لعبة توازن القوى تماماً وتتكيف حسبها. إنها تتردد في مهاجمة جاموسة إذا علمت أنها مصممة على المقاومة، فقرونها جارحة بل معطّلة مع أنها سمينة يسيل لها اللعاب.
في هذا الإطار تحاور الولايات المتحدة وأوروبا إيران. لم تكن المحادثات تحتاج إلى توقيع إتفاقات ومعاهدات ولا إلى مراجعة المبادئ والنظريات. إنهما لم يفعلا ذلك عام 2001 عندما سهلت إيران قيام تحالف الشمال في أفغانستان وحسمت المعركة ضد القاعدة وطالبان في أيام. ربما قدم العرب القواعد والتسهيلات العسكرية كلها لغزو العراق، لكن كان يكفي وقوف إيران على الحياد لكي تحقق واشنطن أهدافها وتسقط النظام. سقوطه كان حاجة إيرانية أيضا، والطرفان كانا يدركان ذلك من دون حوار مباشر أو غير مباشر.
ما جرى في جنيف ليس حوارا حول النووي الإيراني، لأن إيران لم تنو في الأساس إنتاج قنابل نووية، والغرب يعرف ذلك تماما. إنه حوار من أجل الإعتراف بموقع إيران ودورها الإقليمي كقوة تحفظ التوازن في مقابل جحافل الإرهابيين الذين لم يعد ممكنا ضبطهم بقوات تهبط بالمضلات من قارات أخرى. هكذا برهنت تجربة الصومال واليمن ومالي ونيجيريا. تلك الجحافل نفسها نقلت إلى سوريا عبر تركيا التي يسهل منها العبور إلى أوروبا، كل أوروبا. كابوس أمني لم يحسب له حساب عندما جرى لعاب الغرب وإسرائيل من أجل نهش البقرة السورية الجريحة.
المحللون الإستراتيجيون في الولايات المتحدة يضعون الحوار مع إيران في إطار خطة تمتد لعقود. يرون أن إدارة الرئيس باراك أوباما أنهت حساباتها وبدأت بالعودة إلى القوة الإيرانية التي خسرتها بعد سقوط الشاه عام 1979. وشبهوا ما يجري مع إيران حاليا بما فعله الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون مع الصين في بداية السبعينيات. لم يكن محبة بماو تسي تونغ، لكن خشية من الإتحاد السوفياتي الذي كان يهدد كلا من حلف الناتو والصين معا. مجرد الحوار مع الصين كان كفيلا بأن تعيد موسكو حساباتها. واليوم التحالف غير المعلن بين موسكو وطهران وبكين جعل الغرب يعيد النظر ويدرك أن المعركة على سوريا معركة خاسرة، ومن المؤكد ستكون لنتائجها تبعات إستراتيجية تقوض قدرة الولايات المتحدة على الإحتفاظ بمركز ريادي عالمي. الإرهاب لم يعد يعبر من تركيا وحسب، بل ينبع منها أيضا. هذا يضع الأتراك في موقع المراقبة من قبل المخابرات الغربية إلى جانب أنه يهدد المجتمعات التركية والأوروبية وحتى الأميركية بتفشي إرهاب من حيث لا يحتسبون. كان لا بد من مراجعة قبل فوات الأوان.
في هذه المراجعة تكسب إيران مجموعة أمور دفعة واحدة جراء الصمود الأسطوري الذي سجلته والدعم المكلف الذي تحملته لقوى المقاومة من أفغانستان إلى بيروت وغزة. المفاوضات تأخذ طابعا حميميا منذ البداية لأن الأهداف حددت مسبقاً. ستخفف عنها العقوبات المؤلمة إلى أن ترفع تماما. وبالإتفاق الذي وقع قبل أسبوع مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية تم الإعتراف بها دولة نووية مع كل ما يستتبع ذلك من مكانة بين الدول النووية المتقدمة على كافة الصعد العلمية والتقنية والإقتصادية والمعنوية. وبعدم طلب منها تفكيك أي منشأة نووية أو جهاز طرد مركزي واحد إحترمت هيبتها وكرامتها، وهو بمثابة إعتراف صريح بها كلاعب إقليمي إستراتيجي في أطار دولة ذات تاريخ عريق يضبط الفوضى الإقليمية. فوضى تقترب من مشايخ وإمارات تطمح لأن تصبح دولاً، لكنها فوتت على نفسها الفرصة على مدى عقود النفط والغاز الستة أو السبعة التي نعمت بها، ولم تعرف خلالها سوى التلهي بأبنية تشبه المدن العريقة.
في مرحلة الحوار المقبلة ستسعى إيران إلى الإستفادة من الولايات المتحدة وأوروبا في تطوير الإقتصاد، وجلب الإستثمارات لقطاعاتها الصناعية المختلفة، بالأخص لقطاع الطاقة الذي سيستفيد من الإنفراج الدولي في مدّ خطوط إمداد طاقة إلى أوروبا والشرق الأقصى وصولا إلى الصين. كما ستعزز إيران دورها كمعبر رئيسي للدول الآسيوية الوسطى نحو المياه الدافئة على الخليج، سواء بخطوط أنابيب أم بخطوط سكك حديدية.
أيضاً يحتاج القطاع المصرفي الإيراني إلى تطوير يسمح بإنعاش البورصة الوطنية التي تمكن من جذب الإستثمارات الإيرانية والإقليمية نحو إيران وتوفير مجالات عمل كبيرة للمواطنين.
الولايات المتحدة، عدا عن الإستفادة من كل هذه الفرص الضرورية لشركاتها المتضورة لدخول سوق إيران الضخمة، تحتاج إيضا إلى قوة إيران الردعية ضد الدول الخليجية التي تتصرف بطيش وعبثية تهدد مصالحها واستقرار المنطقة باستخدام عصابات إرهابية.
وفي هذه المعادلة يصبح دور كل من السعودية وإسرائيل هامشياً إلى حد كبير. وهناك تهديد كبير بأن يرتد السحر الإرهابي على الساحر بعد فشل المشروع الوهابي في سوريا. السعودية وأخواتها تتصرف في هذه الحالة بارتباك وعصبية من شأنهما إثارة ردود فعل داخلية بين السنة قبل الشيعة والزيدية. كما أن الدول الغربية الوصية عليها لن تتساهل مع أي عناد أو عمليات تخريب تطال مشاريعها السياسية من قبل أنظمة هي تعرف باطنها أكثر منها.
لكن يطرح السؤال، ماذا عن شيطنة إيران للولايات المتحدة؟ وماذا عن وضع إيران ضمن محور الشر؟ أسئلة يتم الرد عليها بشعرة معاوية. نظرية في السياسة سبقت ميكيافيلي وتوليران في فهم المصالح والضرورات بعيداً عن كل المبادئ. الخصوم غالباً ما يتحاورون عندما تصل الأمور إلى مرحلة تصبح معها الخسائر أكبر من المكاسب. لكن لا أحد يتصور أن يحاور ذئب نعجة، والعرب وضعوا أنفسهم في موقع "النعاج"، كما قالها صراحة رئيس وزراء قطر السابق، حمد بن جاسم آل جبر. ذلك السياسي الذي كان وأميره من أول ضحايا التغلغل الإرهابي في الشرق الأوسط.