رجاء عالم في رواية "طوق الحمام".. المتخيّل السردي في حيوات الأرض المقدّسة
الدويّ يغلب السّحر". تغذّي رجاء عالم فحولة الأرض، رغم أنها تمطر بنعومة، وتنساب بعدها بالسرد. وإن كان هذا السحر ملتفاً حول غزارة أفكارها، إلا أنّ "دويّ" بلاغتها اللغويّة، والشغف الروائي في سردها، غلبا على سحر الكلمة. تحاكي الأحداث كمن يشرب قهوته على عجل، شفّة شفّة، يدمنُ القارئ كافيينها، فتشده إلى سائر أعمالها. العبارة أعلاه هي من رواية "سِتْر" للروائية السعودية رجاء عالم، والتي لا تنفكّ عن إبداعها، حتى تأتي بالمزيد منه بروايتها "طوق الحمام".
تتنهد رواية "طوق الحمام" في بيئة مقطوعة الأنفاس، شحيحة الهواء. تسترخي الكاتبة في الوصف، فتسترجع هواء مكة المعتق بخمر التاريخ والذكريات، تعرف مخابئ العطر، فتربط الأحداث والمعالم بأزمنة قرأتها وأخرى تمنتها، والتي ولدت من رحم خيالها الباطني. جرّدت وقائع الحياة في مكة وجدة ومناطق متعددة من السعودية، من التابو، وحفظت القدسية لمكة المكرمة لكونها قبلة العالم الإسلامي.
لكن التكريم هذا لا يتعدى في الرواية إطار الباحة التي تحيط الكعبة، والفوهة التي يناجي فيها الزوار ربهم طلباً للغفران لما اقترفوه من ذنوب، تلك هي فوهة الحجر الأسود. يحفل الكتاب بالعبارات المتوهجة، المتخطية حدود السرد إلى أعماق الوجدان والتماعات الشعر. وتتأرجح الرواية بين كشف أسرار المجتمع المكاوي وإعلان الكاتبة تعلقها بهذا المكان، من خلال رسائل الحب التي تبعث بها عائشة إلى حبيبها الألماني، والتي اختبأت رجاء عالم خلفها: "لا تدّعي أنك تفهم الغابة التي تأخذك، لكنك تسير، تغوص قدماك في طينها المبلل بالمطر، تمسُّ جبينك أغصانها المحملة بأنداء البارحة، وتطالع وجهك روائح براعمها وخضرتها التي لم تمسّ، و يستسلم لنداءاتها و نسائمها الخفية.. هذه هي اللغة التي أريد أن نتعارف بها، كلمني كما تكلم طريقاً، ماشني، أمش فيّ، وخلالي، بصمت أو بفوضى".
تنتمي رجاء عالم إلى أحدث جيل من الروائيات السعوديات منذ ظهور الرواية في السعودية في النصف الثاني من القرن العشرين، واستطاعت بعدد من الأعمال الروائية المتميزة، مثل "سِتْر" و"سيدي وحدانة" و"خاتم" و"موقد الطير"، أن تحتل موقعاً مهماً على خريطة الرواية العربية، وحصدت روايتها "أربعة صفر" جائزة إبن طفيل للرواية من المعهد الإسباني العربي للثقافة في تونس، وفازت عن مجمل أعمالها بجائزة الإبداع العربي لعام 2007. في وقت حازت روايتها "طوف الحمام" الجائزة العالمية للرواية العربية "بوكر" العام الماضي، مناصفة مع رواية "القوس والفراشة" للمغربي محمد الأشعري. غير أن فوز رجاء عالم بهذه الجائزة، لا يعد مكسباً خاصاً للأدب السعودي وحسب، بل يمثل أيضاً التتويج الأول للرواية النسوية العربية في جائزة البوكر.
فى روايتها "طوق الحمام" والصادرة عن "المركز الثقافي العربي"، يبدو للقارئ مدى شعور الروائية بالخوف من أشباح كبيرة تغزو ليالي المدينة ونهاراتها، تبعثر الفراغ السماوي بين الأبنية، وتحدها بحواجز وفواصل وأعمدة كهرباء وأبنية ضخمة، تهدد بفقدان البريق الباطني الديني الذى ينبعث من أرجاء هذه المدينة المقدسة، وتاريخها، وآثارها العريقة، بالإضافة إلى زحف الأسواق ببضائعها الأجنبية، والمطاعم والعربات وأنفاسٍ ضالة في دروب المدينة، لتحبس الشهيق الطاهر للحرم المكي، وتخنق هواءه القدسي. وهذا الأمر واضح من خلال الرسوم الزخرفية التي اختارتها لتكون على غلاف روايتها، والتي تعكس رؤية مؤلفتها للمقدّس، تمجيداً لأصالة مدينتها وتاريخها العريق.
وتكشف في روايتها عن تاريخ المملكة العربية السعودية الإجتماعي والإنساني، معبرة عن شغفها بكل ما يحيط بالمدينة، تبحث في أرجائها عن الغيب، وكأنها رحلة إلى أغوار الإنسان الدفين. وهكذا ربطت بين الواقعي و المتخيل في الإعراب عن مخاوفها على المدينة.
تدور أحداث الرواية حول جثة، في لغة مفعمة بالصور والمجاز. سرد بوليسي ميلودرامي، تجول من خلاله بين أمكنة وأزمنة لا تربط بينها سوى دأب الكاتبة للحفاظ على هالة تراث الأرض المقدسة. تختلج في سطورها لوعة العشق، وتؤججها الحرقة على مكة. وعشاق المكان متباينون، موؤودات تخنقهنّ زحمة القيود، وشباب بأحلام مجهضة، في مقابل آخرين يشوهون عراقة "أم القرى"، ويتاجرون بالمقدس، ويعتبرون أنفسهم ورثة مكان لا يملكه أحد. الجثة التي عثرت عليها إحدى شخصيات الرواية "معاذ المصور"، وُجدت عارية ومشوهة الوجه. تدخل الكاتبة في دهاليزها بغية البحث عن القاتل، السبب، و هوية الجثة التي رشّحت واحدة من بين فتيات زقاق "أبو الرووس" الغائبات عنه أن تكون هي! الجثة التي أضحت في الرواية محرك الوعي و حافز تعرية الفساد السلطوي.
أما مكان أحداثها، فيسمى زقاق "أبو الرووس"، شاهد وراوٍ، وليس مجرد مكان يسجل ساكنوه انطباعاتهم عنه. يجول خلف الأبواب المغلقة، ينصت إلى أسرار الفتيات، ينهل من الماضي ليسقي عطش الحاضر توقاً لمستقبل يليق بالمدينة. ينظر الراوي بعين حزينة تئن وجعاً على ما يصيب مدينته، القتل و الإحتيال و نصب المكائد حول هذا الحرم المكي، بغرض الإستثمار والكسب المادي.
و تشرح رجاء عالم في الرواية سبب تسمية الحي "أبو الرووس"، فترجعه إلى واقعة شهيرة في عهد أحد أشراف مكة، إذ علقت في أطراف الزقاق أربعة رؤوس لرجال أدينوا بتهمة سرقة كسوة الكعبة، بعد ما استغلوا فرصة الاحتفال بموكب المحمل المصري، وخروج الشريف وعسكره لإستقبال المحمل مع أعيان مكة، فسرقوا الكسوة القديمة، ولكن ألقي القبض عليهم، وعلقت رؤوسهم في الزقاق.
يسعى المحقق والضابط ناصر إلى تبديد غموض الجريمة، فيقوده ذلك إلى ولوج عوالم عائشة وعزة، ابنتي الزقاق الغائبتين، إذ يعثر على رسائل إلكترونية خاصة بعائشة، كتبتها إلى حبيبها الألماني، ويظل ناصر يطالعها في كثير من صفحات الرواية: " لنتذكر أن الحب كالحياة، أوله هزل وآخره جد. وأنه يعدي بالصوت والرائحة، لذا يجب أن لا نحاربه، بل نفتح حواسنا ونشحذها لتلقي غزوه، ونستسلم له حين يعيد صياغتنا وتحويرنا".
المتهم الأول بالجريمة هو يوسف، إبن الزقاق، صحافي في إحدى الجرائد السعودية، عاشق لتراب مكة ولعزّة حبيبته، الثائر الذي اتهم بالجنون و الإلحاد رغم أنه أخذ من الحرم بيتاً له، و خصوصاً بعد ما اقتحم المسجد في صلاة الفجر، واختطف مكبر الصوت من الإمام، وقال: "أنتم أهل الزقاق يا من أحب وأكرس مقالاتي لطرح قضاياهم الخاسرة. أنتم سرقتم حياتي. خنقتم كل روح شابة في الزقاق. أنتم عصبة ضد الحياة، من المنافقين والكاذبين. تسموننا نحن شباب أبوالرووس، تحولتم لزقاق من الجواسيس تتجسسون على أشد نوايانا وأحلامنا حميمية، ولقد نجحتم في تحويل لحظاتنا الخاصة إلى جحيم، ومع ذلك تجرأون على الوقوف بين يدي الله في صلاة تذاع بمكبرات الصوت خمس مرات يومياً، تصلون متوسلين أن يدخلكم فسيح جناته وقد ضيقتم علينا الحياة.." موجهاً احتقاره إلى الشيخ مزاحم: "أنت بيسراك تبني سجناً وبيمناك تبني مسجداً وتخطب مبشراً بالإيمان، أي إيمان؟ الإيمان ببنت تئدها كل يوم، يعلم الله أنك ستحاسب أمامه يوم الدين على هذا الركوع والسجود.. لا أحد منا يدرك معنى أن نكون مجاورين لبيت الله الحرام، وما يقتضيه هذا الجوار من أن نحتفل بالحياة أم نحاربها؟". فينهال رجال المسجد عليه بالضرب فور انتهاء كلمته. و ينتقل بعد ذلك إلى مستشفى الأمراض النفسية. تصوّر الرواية جو انقباض الروح في المستشفى، والعالم الصعب الذي يعيش فيه المرضى. يتعرض يوسف لجلسات كهربائية كثيرة، ويخرج بعد فترة".
هناك ما يشبه الإجماع في المشهد السردي العربي على كون تجربة رجاء عالم هي الأكثر تميزاً والأكثر تعقيداً، ليس على مستوى تقنيات السرد فحسب، بل أيضاً على مستوى الموضوع واللغة. إنها تمثل تجربة سردية منفردة. جاءت رواية "طوق الحمام" لتعرّي الخدش الذي أصاب مدينتها. تدرك أن لمكة جسداً متعدد المعاني، يسلبها سلاسة عيشها. وكذلك في أعمالها السابقة، تغوص المؤلفة في رؤى كونية رحبة، بروح فنية تجريبية، ونزعة تمردية على الواقع، وتعيد قراءة التاريخ السياسي والاجتماعي لبلادها بوعي مسنون.
لا سلطان على ورقة رجاء عالم، سلطانها حب الأرض، والتمسك بالمقدس لتطهير التشويه الذي أصابه. في روايات سابقة لها، كان الحبّ باباً لتتسلل متعتها إلى شوارع جدة والرياض. غادرت إلى نفسها، بحثاً عن شغفها في تقمصها شخصيات رواياتها، الغارق بعضهم في الفساد. تحاول بكلماتها خلق قصائد روائية. نستطيع أن نطلق عليها "شاعرة الرواية".
الروائيات السعوديات مثل: بدرية البشر ورجاء الصانع و سمر المقرن و غيرهن، اختلفت قضايا رواياتهنّ عمّا طرحته رجاء عالم، فرفعت بدرية البشر شعار "لا"، معترفة بأن مهنة الكاتب هي "صناعة القلق"، ودفع القارئ إلى التغيير. وتطرح أعمالها مفهوم الحرية، وتواجه التقاليد المجتمعية البالية، وثقافة "غسل الأدمغة"، التي تحد القدرة على الإختيار والفعل والحب. رجاء الصانع تخصصت بالغوص على حيوات النساء المطلّقات ومواقف المجتمع منهنّ، كما في روايتها "بنات الرياض". بالإضافة إلى قضايا مناصرة المرأة وكشف ما تتعرض له من قمع، خصوصاً من المتحدثين بإسم الدين، وقد تطرقت الكاتبات أيضاً بجرأة إلى حياة النساء داخل السجون.
اعتنقت رجاء عالم في روايتها "طوق الحمام" فكرة العيش بـ"حياة" و ليس ذاك العيش في أطر ميّتة: "لايموت الموتى بذهاب العمر وإنما بفراغ الخيوط التي تربطهم بالأحياء". و"هل قلت لك: عائشة في العربية تعني التي تعيش وليس التي تحيا!". وتبدأ بعد حين رحلة صراع جديدة لحياة المقدّس في مكان مصدّع مشوّه، يعيش شعبه على أنفاس الذين رحلوا. لا حياة جديدة تحت شمس مكة، سوى في فوهة الحجر الأسود!