السودان-جنوب السودان.. عام على الإنفصال
لم تفلح إتفاقية السلام الشامل بين السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان (الحاكمة في دول جنوب السودان بعد الإنفصال) والتي وقعت عام 2005 في وضع حدٍ نهائي للحرب بين الشمال والجنوب. وبالرغم من أن بند تقرير المصير الذي أفضى إلى ولادة دولة جنوب السودان قد شكل أهم مندرجات تلك الإتفاقية، وأعطى انطباعاً بأن السودانيين شماليين وجنوبيين قد تمكنوا من تخطي مرحلة صعبة استمرت منذ عام 1983.
أثبتت الوقائع التي جرت بعد ذلك أن الخلافات بين الجانبين أكثر عمقاً من مسألة الإنفصال، وهي تمتد إلى ملفات عديدة، منها التهديدات الأمنية المتبادلة بين الطرفين، وتبادل الإتهامات بأن كل منهما لا يزال يعمل على الإضرار بأمن الآخر، وبروز مشكلة ترسيم الحدود بعد انفصال الجنوب، وما يشمله ذلك من مناطق متنازع على الأحقية بشأنها. إضافة إلى مسألة تقاسم عائدات النفط، والمشكلات الناشئة من الفوارق في تحديد حجم الضرائب المتوجبة من الجنوب تجاه الشمال كبدل لتصدير النفط الجنوبي عبر شواطئ السودان على البحر الأحمر.
كل هذه المسائل العالقة بين الجارتين تتفاعل في ظل نشاط كبير لقوى خارجية تبحث لنفسها عن مكاسب في تلك المنطقة التي تحتوي على ثروات طبيعية كبيرة، وتلوح فيها مجالات إستثمار مغرية لأصحاب الإمكانات والإهتمامات. فإلى جانب الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية الصين الشعبية، تحاول إسرائيل مد أصابع لها في جنوب السودان، مستغلةً تعطش الدولة الوليدة إلى مشروعات تنموية، وتوجسها من نوايا الخرطوم التي تشعر بأنها سمحت بانفصال الجنوب مرغمة. وقد كان لتل أبيب مساهمة كبيرة بنشاة دولة جنوب السودان ودعمها للإنفصال عن الخرطوم، إلا أن المرحلة اللاحقة حملت توتراً في العلاقات على خلفية المتسللين السودانيين إلى إسرائيل.
النزاعات الحدودية والنفط أبرز أوجه الخلاف
لقد أعطى الإنفصال جوبا حوالي 75% من إجمالي الإنتاج النفطي السوداني، وأعطاها أبعد من ذلك أملاً بإمكانية قيامها كدولة بالرغم من أنها لا تمتلك أبسط مقومات الدولة من البنى التحتية. وفي الوقت نفسه رضيت الخرطوم بربع ما كانت تنتجه من النفط، وحاولت الإستعاضة عن ذلك برسوم تفرضها على دولة الجنوب لتصدير النفط الجنوبي من موانئها.
إن مكمن الخلاف بين الطرفين في موضوع النفط يمكن اختصاره في نقطتين أساسيتين: الأولى هي التنازع حول حقول نفق تقع على الحدود بين الشمال والجنوب، كمنطقة أبيي مثلاً. والثانية هي الفجوة الكبيرة بين ما تطلبه الخرطوم وما تعرضه جوبا من رسوم لمرور نفط الجنوب عبر أراضي وموانئ الشمال. فبينما تطلب السودان 36 دولاراً للبرميل الواحد، كان آخر عرضٍ تقدمت به جنوب السودان هو 9.10 دولاراً للبرميل، وذلك خلال المفاوضات بين الجانبين في أديس أبابا في 22 تموز-يوليو 2012.
لقد شهدت المناطق الحدودية بين الشمال والجنوب توترات عديدة منذ توقيع الإتفاق النهائي للسلام في 9 يناير/كانون الثاني 2005، وكان أول خرق كبير لوقف إطلاق النار حين حدثت إشتباكات عنيفة في أيار-مايو 2008، في منطقة "أبيي" الحدودية المتنازع عليها. وتواصلت التوترات لتجتاح القوات المسلحة السودانية المنطقة عسكريًا في 30 أيار-مايو 2011، قبل أسابيع من نهاية الفترة الإنتقالية واستقلال دولة جنوب السودان في تموز-يوليو 2011. ومنطقة أبيي تقع على الحدود بين السودان وجنوب السودان وتسكنها في الشمال قبائل المسيرية العربية، أما جنوباً فتستوطن قبائل دينكا نقوق.
ويتمحور الخلاف بين الشمال والجنوب في منطقة أبيي مطالبات الجنوبيين بأن لا يعطى أفراد قبيلة المسيرية العربية حق التصويت في استفتاء تقرير المصير، ذلك أنهم يعتبرون هذه القبيلة غير مستقرة في أبيي بل تقوم بالإنتقال إليها للرعي لمدة بضعة أشهر كل عام ثم تهاجر شمالاً بقية العام. أما وجهة النظر الشمالية فتقول أن ابيي هي أرض المستقر للمسيرية وأن هذه القبيلة تهاجر شمالاً بسبب الظروف المناخية التي تؤثر على المراعي ثم تعود إلى موطنها في أبيي. وبالتالي فمن حقهم التصويت في تقرير مصير أبيي كمواطنين يسكنون هذه المنطقة قبل أن تأتي قبيلة "دينكا نقوك" إليها.
أحيل ملف أبيي إلى محكمة التحكيم الدولية بلاهاي التي قضت في تموز-يوليو 2009 بإعادة ترسيم الحدود، وقد وافق الطرفان على الحكم دون الإلتزام به إلتزاماً كافياً لمنع تكرر أحداث العنف بينهما.
وبعد أن جاء حكم محكمة التحكيم الدولية بشأن أبيي شبيهاً بالوقوف في منتصف الطريق من مطالب الطرفين. عاد الصراع المسلح واجتاح الجيش السوداني المنطقة، قبل أن يتم الإتفاق على نشر قوات إثيوبية تحت غطاء الأمم المتحدة.
منطقة هجليج التي تبعد نحو 45 كلم إلى الغرب من منطقة أبيي شهدت أيضاً آخر المعارك الضارية بين الجيش السوداني وجيش جنوب السودان عندما تمكن هذا الأخير من السيطرة عليها في العاشر من نيسان-أبريل 2012، وما لبث أن انسحب منها تحت ضغط الإدانات الدولية، ليتولد عن ذلك هدوءً نسبياً غير متين في تلك المنطقة.
وهجليج هي منطقة غنية بالنفط، تحتوي على إنشاءات نفطية سودانية أساسية مثل محطة المعالجة الرئيسية، ومحطة الضخ الأولى في الأنبوب الناقل للنفط لمسافة ألف وستمائة كيلومتر إلى موانئ التصدير على البحر الأحمر. وتتبع هجليج ولاية جنوب كردفان السودانية، وبالتالي فإن المعارك فيها لم تندلع بسبب مطالبات جنوبية بها كما هو الحال بالنسبة لآبيي. بل أن دخول الجيش الجنوبي إليها حدث على أساس تعرض الجنوب لقصف شمالي إنطلاقاً منها. ولم يتوقف العنف هناك إلا بعد أن أصدر مجلس الأمن الدولي قراراً هدد بموجبه الدولتين بفرض عقوبات عليهما في حال عدم الإمتثال للدعوة إلى وقف إطلاق النار.
في الوقت نفسه، تواصل الحركات المتمردة في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان أعمالها وتتهم الخرطوم جوبا بدعم هذه الحركات وتعزيز النزعات الإنفصالية لدى مواطني الشمال. وفي السياق نفسه تبدو الأيدي الإسرائيلية غير بعيدة عن أحداث الولايات المتوترة في السودان.
إهتمام دولي متزايد بالإستثمار في جنوب السودان
يبدو الإهتمام الدولي كبيراً بضمان حالة من الهدوء بين الشمال والجنوب في هذه الفترة تحديداً، وذلك لأسباب عديدة جلها يتعلق بالبعد الإقتصادي المتمثل بإتاحة الرفص لاستثمارات الولايات المتحدة والصين في منطقة حوض النيل، وفي جنوب السودان تحديداً. حيث تمتلك شركات نفطية حكومية من الصين والهند وماليزيا حصص أغلبية في ثلاثة تحالفات تستخرج النفط في جنوب السودان. كما أن الصين هي التي بنت معظم المنشآت النفطية في السودان وجنوب السودان. وبعد الزيارة التي قام بها سيلفاكير ميارديت إلى الصين في نيسان-أبريل 2012، عرضت الأخيرة تمويلاً بقيمة ثمانية مليارات دولار لمشروعات تنمية رئيسية في جنوب السودان. وستقدم الأموال خلال العامين القادمين وستتولى شركات صينية تنفيذ المشروعات. مع العلم أن الصين هي أكبر مستثمر في حقول النفط في جنوب السودان من خلال شركتي "تشاينا ناشيونال بتروليم كورب" (سي ان بي سي) و"سينوبك" الحكوميتين العملاقتين في مجال النفط.
وتأكيداً على دور الصين في المنطقة، حثت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بكين على المساعدة في إنهاء الأزمة القائمة بين السودان وجنوب السودان، والمساهمة في الجهود الرامية إلى إنهاء أعمال العنف قبل ثلاثة أشهر عندما اندلع القتال بين الجانبين في هجليج. وتحمل دعوة الولايات المتحدة دولة جنوب السودان (في الذكرى الأولى لانفصالها) لإبرام إتفاق نفطي مع السودان تجنباً لتفاقم أزمتها الاقتصادية، حرصاً أميركياً على هدوء الدولة الجديدة تحضيراً لإطلاق استثمارات واسعة هناك، مع العلم أن جنوب السودان تعتمد على صادرات النفط بنسبة عالية جداً، تكاد تشكل المصدر الوحيد لدخلها.
إسرائيل تحاول مد رأسها في جنوب السودان
أما بالنسبة للدور الإسرائيلي المريب في جنوب السودان، فإن هذا الدور قد بدأ قبل الإنفصال بفترةٍ طويلة من خلال دعم الحركات المتمردة، ودفع الحراك الشعبي في منطقة الجنوب نحو الإنفصال، علماً أن الزعيم الراحل للحركة الشعبية لتحرير السودان جون غرنغ كان ينادي بالوحدة بين الشمال والجنوب، وقد توفي بظروفٍ غامضة إثر سقوط المروحية التي كانت تقله في جبل الأماتونج فى 30 تموز-يوليو عام 2005. وقد ثارت الشبهات حول الإسرائيليين بتنفيذ عملية اغتيال ضد غرنغ بسبب عدم قبوله تنفيذ خطط لفصل الجنوب عن السودان.
وبعد الإنفصال تحسنت العلاقات بين دولة الجنوب وإسرائيل، وترجم ذلك في الخطاب العاطفي الذي ألقاه سيلفاكير في تل أبيب، شاكراً الإسرائيليين على مساعدتهم التي مكنت الجنوبيين من تحقيق الإنفصال.
وفي سياق التناغم بين الطرفين، أعلنت إسرائيل في أواخر تموز-يوليو الفائت عن توقيع وزارة الطاقة والمياه الإسرائيلية مع وزارة الري والمياه بجنوب السودان إتفاقية تقضى بنقل الخبرات الإسرائيلية فى مجال تحلية ونقل المياه وإقامة بنية تحتية للصرف والري وإقامة مشروعات أخرى لاستخراج الطاقة. وذلك خلال حفل أقيم فى الكنيست الاسرائيلي في 23 تموز- يوليو الفائت.
غير ان هذا الود بين الطرفين عكرته أزمة صغيرة من نوع هروب متسللين سودانيين بطريقةٍ غير شرعية للعمل في إسرائيل. وقضية المتسللين هذه ليست بالجديدة ولكنها زادت تعقيداً بعيد استقلال جنوب السودان، حيث يعيش خمسة عشر ألف سوداني حالياً في إسرائيل، يتجمع معظمهم في مدينة إيلات في أقصى الجنوب على البحر الأحمر.
والمشكلة بالنسبة لإسرائيل أنها ترى في هؤلاء المتسللين مجرمين محتملين أو عبء على الإقتصادي الإسرائيلي لا داعي له. وبينما يواجه السودانيون الشماليون معضلة كونهم لا يستطيعون العودة إلى بلدهم بسبب نص القانون السوداني على تجريم دخول إسرائيل، تحاول دولة الجنوب استعادة أعداد من المهاجرين غير الشرعيين في إسرائيل.
هل يكون الذهب مصدر قلق جديد؟
إن أدوار القوى الإقليمية والدولية في السودان لا تقتصر على وجود النفط فقط، أو التدخل ضمن أجندة سياسية، بل أن فرص الإستثمار الكبيرة هناك تحفز الجميع على الإنخراط بدورٍ ما. حيث أن الآمال بأن يكون المخزون غير المكتشف من الذهب واحداً من أكبر احتياطيات الذهب في أفريقيا، وقد منحت الحكومة عقود تنقيب لمئات شركات التعدين للبحث عن الذهب ومعادن أخرى. وإذا ما صحت هذه التقديرات فإن سبباً إضافياً للتوتر في السودان يكون قد وجد.