في ضيافة القاعدة ـ الحلقة السادسة والأخيرة

يروي الزميل أبي ولد زيدان رحلته إلى الشمال المالي حيث تسيطر حركات إسلامية مسلحة علي ذلك الإمتداد الصحراوي من الحدود الموريتانية حتى الجزائر. الرحلة لا تخلو من مفارقات ومواقف يرويها على حلقات.
  • تمبكتو بين الأمس واليوم

... كانت رسالة السيد رضوان واضحة... واضحة جداً... "إن تعاونتم معنا ستكون لكم حظوة خاصة ... هي فرصة تاريخية، فهكذا استطاع الصحفيون الكبار الحصول على السبق الإعلامي". قلت له "طيب، ما دمت تريد بـ"التعاون" الموضوعية في نقل الخبر والمعلومة، فثق أننا أصبحنا أصدقاء، وبعد مغادرتي لتومبكتو ستضع مؤسستي الإعلامية "الميادين" على رأس اللائحة، أنا واثق من ذلك، أما إذا كنت تريد بالتعاون مفهوماً آخر فرجاء، إكشف لي عنه حتى تتضح الصورة أكثر".

هنا تدخل أبو تراب، منهياً الحديث في هذه النقطة التي بدا أنها هي الهدف الرئيسي من الاجتماع، قائلاً "لا نريد إلاّ الموضوعية في نقل الخبر والمعلومة".

هزّ رضوان رأسه موافقاً وانتهى الإجتماع.

ذهبنا إلى قسم الشرطة الإسلامية لاستلام الكاميرا و مراجعة محتوىات الشريط، كما أخبرنا رضوان، وبسبب العلاقة الحميمية مع "الأصدقاء الجدد" في قسم الشرطة (آدم وأبو ذر والحسن وطلحة..)، لم يستغرق الأمر كثيراً من الوقت. لحظات فقط، وعدت من جديد إلى شوارع تمبكتو...

"..هاهي الطرق التي مرّ عليها المصلون في اتجاه مسجد "جنكر أبير" قائمة ، وكذلك المسجد الذي مازال صامداً منذ أنشأه كانكان موسى في القرن الرابع عشر ميلادي: إنه صرح واسع مبني من الحجارة والطين، أبراجه مخروطية وشرفاته الرائعة مازالت تستقبل المؤمنين داخل صحونها الإثني عشر، وفي الجهة المقابلة "مسجد سانكورا" - الذي تؤكد التقاليد أن محيط أبنيته يساوي محيط الكعبة في مكة المكرمة - وهو يلقي بظله على الشرفات المحيطة.وهاهو جامع "سيدي يحي" المبني في نهاية القرن الخامس عشر ميلادي صامد يحميه باب قديم مصفح بالحديد، على الطراز الهندسي لأبواب بيوت تمبكتو...طرق تمبكتو نظيفة وواسعة إلى درجة تسمح بمرور ثلاثة خيالة معاً...الكثير من الأكواخ مصنوعة من القش بشكل دائري، والطرق التي كان يتجول فيها الطوارق بسيوفهم لم تتغير منذ القرن الماضي، وكذلك الأفران المصنوعة من الطين.

حين يصبح "تاريخ تمبكتو" تحت رحمة الجغرافيا ولعبة الأمم

"مازالت المنازل المبنية منذ قرون على الطراز نفسه تؤمن استمرار الماضي.."، من يصدق اليوم أن هذا الوصف للكاتب والمستعرب الفرنسي رينى كاييه حينما زار المدينة في العام 1828؟!

نعم وكان رينى كاييه كتب هذا الوصف قبل اسبوع. فقط، الباب القديم في مسجد سيدي يحي نزعه الحكام الجدد وجعلوا مكانه جداراً من الإسمنت، وتمثال السلام جدّ على المدينة من بعده..إنه نصب تذكاري مبني بالرخام بمناسبة انتهاء ثورة الطوارق عام 1966 حيث احرق المتمردون ثلاثة آلاف قطعة سلاح بعد توقيع اتفاق السلام مع الحكومة المالية، إيذاناً لدخول المدينة لعهد جديد، عهد لم يستمر طويلاً فها هي الثورة تعود من جديد ولكن هذه المرة بحكّام جدد خرجوا من رحم الثوار الأول تحت مسمى "أنصار الدين"، ولكن تحت الاسم الجديد تجول القاعدة وتصول في المنطقة بعد ان أحكمت سيطرتها على المناطق الرئيسية في الإقليم بلا منازع.

لم تعد تومبكتو مدينة "الثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ولياً" فقد سويت قبور بعضهم مع التراب في مقبرة"الأولياء الثلاثة" أما الآخرون فضاع ذكرهم مع ذكر "الفاروق" .. الفارس الأبيض والرجل الاسطوري الذي كان يحرس المدينة ويوقظ ساكنيها لأداء صلاة الفجر، كسر الحراس الجدد تمثاله في قلب المدينة وأوكلت مهمة إيقاظ الناس إلى صلاة الفجر لشركة الكهرباء التي تنهي حصة الدوام مع الساعة الرابعة فجراً.

إنها بحق جوهرة تكاد اليوم تغوص وسط الصحراء الأزوادية، ترقد على تراثها الزاخر وتقاوم زحف الرمال، تماماً كما ترفض أن يبتلع الظلام بقية ألوانها الزاهية، أو يغمر الأنين زغاريد المرأة التي تبرعت ببناء جامعة "سانكرا".

عند مداخل المدينة، إنعدمت رؤية مشهد كان حتى وقت قريب يندر أن يشاهد إلا هنا: القوافل القادمة من الشمال محملة بملح تاودني الأصيل.. كانت حتى بالأمس القريب نفس الطريق ونفس السيناريو وإن تغيرت ملامح الرجال قليلاً..

وحده المرفأ المتصل بنهر النيجر عبر قناة حفرتها يد الإنسان، مازال ينزل القوارب المحملة بالبضائع الآتية من الجنوب- حتى وان ساءت العلاقة على المستوى الرسمي- طبعاً لم تعد التجارة كما كانت، وتحولت الصحاري إلى بحر عدائي وضرب الجفاف بقوة... فلم يعد نهر النيجر، نهر الأنهار... لم يعد نهر النيجر العظيم ... لقد تحولت الحياة بشكل تام...

إنها الجغرافيا من جهة ولعبة الأمم من جهة أخرى، تأبيان إلاّ الإنتقام من عظمة التاريخ، لكن فكر تومبكتو وإيمانها وفخرها بكونها "الحي اللاتيني لبلاد السودان" مازالت تطبع بآثارها الناس والأحجار والطين.. وبحسب سنده ورفاقه هي مجرد مرحلة وانتهت فـ"مدينة تمبكتو التي بنيت على الإسلام لا يمكن أن تحكم بغير الإسلام" ولكن بحسب بعض السكان وخصوصاً على ضفاف النهر"أي إسلام؟".

.. من تمبكتو الجديدة إلى مخيمات الطوارق

  • تنتهي رحلة الميادين في تمبكتو لتبدأ في تخوم الصحراء حيث مخيمات الطوارق

أسبوع بكامله قضيته في المدينة، لم أجد أياً من سكانها كنت قد عرفته... حتى تاكسي المدينة الجميل لم يعد له من وجود وحلّ محله التاكسي الجديد .. سيارة واحدة تحمل علم القاعدة تنطلق بشكل يومي متواصل من قلب المدينة إلى نهايتها على طريق المطار ولكن للنساء فقط.

وحدها التي ترفض في المدينة اليوم، الخضوع لقانون الزمن، مخطوطات الأمس تنطق بحديث الساعة... علوم الجغرافيا وأمراض النفس حتى أمراض الجسد... عشرات الآلاف من المخطوطات النفيسة تزخر بها المدينة، وتعرف أنها من خلالها تحقق ما عجزت عنه الكثير من الحواضر العربية والإسلامية، حتى ولو كانت هذه المخطوطات تعاني التلف والضياع وعائدات الصحراء، وأخيراً خوف ملاكها عليها من أن تمسّها سلطة "القوانين الجديدة". سألت سنده عن مستقبلها فقال قانوننا الجديد "لا يضرّ إلا المعتقدات الخاطئة".

لقد طال المقام بيربه البربوشي في المدينة، ولم يعد يحب البقاء فيها وقد غيّرها حكامها الجدد بحسبه.. "لقد قتلوها ودمروها ولم تعد تومبكتو الجميلة التي عرفتها"، يقول.

أنا بدوري أنجزت ما أمكن من تقارير... فكان لا بدّ من توديع المدينة وحكامها الجدد...لقد كانوا - كأشخاص- حقاً عكس ما كان يصوّر لي عنهم ... عرفت بعضهم عن قرب وأعتز بتلك المعرفة... كان لقاء الوداع الأخير في مقر الشرطة الإسلامية لاستلام وثيقة الخروج.. خرجت ومازالت ابتسامة طلحة ماثلة في عيني تماماً كما استقبلتني لأول مرة... خرجت ومازالت علاقتي الطيبة بجليبيب وآدم وأبو ذر وأبو بكر... حافزاً يدفعني حتماً - إن شاء الله- للرجوع يوماً ما.. خرجت وفي ذهني أنني كما أنا معهم جاسوس مفترض، سأكون في موريتانيا تحت المراقبة الشديدة مادام لدي أصدقاء في تومبكتو الجديدة... هكذا هو العمل الصحفي دوماً بين نارين... خرجت من المدينة ضحى كما دخلتها، وإنطلقت إلى تخوم الصحراء، حيث مخيمات الطوارق... رجال الصحراء وشعبها الأزرق، وتلك حكاية أخرى.

المصدر: الميادين