الإنتخابات الأميركية: أصوات اليهود الأميركيين بين الأساطير والوقائع
رافق مفهوم حقيقة أصوات اليهود ونفوذهم في أميركا بعض الضبابية وأسهم في إرساء ظلال من الشك على بديهيات الأمر لما يتعلق بمسار الإنتخابات الأميركية بشكل عام، والرئاسية بشكل أدق. أولى المفاهيم الضبابية هي التسليم بدعم الرئيس الأميركي، أي رئيس، لإسرائيل ينبع من تقديره لدور الأصوات الإنتخابية لليهود.ثانيها إن الحصول على دعم الأصوات اليهودية أمر بالغ الدقة والحساسية وحيوي في عدد من الولايات التي لم تحسم مسبقاً لصالح أحد الحزبين المتصارعين. أيضاً، تضخيم موقع الناخب اليهودي وقولبته في إطار أنه عادة ما يكون مثقفاً بدرجة كبيرة وثرياً بنفس الوقت. لا شك أن القضايا المشار إليها تنطوي على قدر من الصحة، إلا أن واقع الأمر مغاير بعض الشيء.
لا يجادل أحد في أهمية وحيوية كسب أصوات اليهود، لاسيما وهم يشكلون زهاء 2% من مجموع السكان الأميركيين، ويتضاعف حجم ثقلهم الإنتخابي إلى 4% مقارنة مع النسبة العامة للناخبين. خاصة وأن تقديرات المشاركة العامة في الإنتخابات الرئاسية المقبلة قد تصل إلى نسبة 80% من الناخبين مقارنة بنسبة بلغت 57% في جولة الإنتخابات السابقة عام 2008.
خلفيات بروز الجالية اليهودية في المجتمع الأميركي
وللتوصل إلى إدراك وفهم دقيق لتوزيع ودور الأصوات اليهودية في حملة الإنتخابات الجارية، ينبغي على المرء التوصل إلى خلفية بروز الجالية اليهودية في المجتمع الأميركي، والتي تمثل أكبر كتلة لليهود خارج فلسطين المحتلة؛ بينما يقطن مدينة نيويورك وضواحيها زهاء ثلث مجموع عدد اليهود في أميركا، وذلك إستناداً إلى دراسة أعدت مؤخراً رصدت التحولات والمتغيرات في الجالية اليهودية منذ عقد من الزمن.
خضعت الجالية اليهودية لتغيرات وموجات نزوح ديموغرافية، أسوة بغيرها من التجمعات السكانية. وتوصلت الدراسة إلى تفنيد وتخطئة الصورة النمطية بأن اليهود عادة ما يميلون للتيار الليبرالي سياسياً، وجلّهم من الأثرياء ويتمتعون بمستوى عال من التعليم.كما رصدت الدراسة التضاؤل السكاني الذي أصاب المناطق الميسورة المحيطة بمدينة نيويورك، ورحيل شريحة النخبة من المثقفين اليهود، مقارنة مع المجموعات الأرثوذوكسية من اليهود والمعروفة بـ"الحسيدية" التي تنامت عددياً وتقطن قسم بروكلين من مكونات مدينة نيويورك الخمسة، لكنها تتميز بمعدلات فقر بلغت 43% بين أفرادها وتضاؤل عدد حملة الشهادات الجامعية بينهم. وأضافت الدراسة أن نحو 40% من سكان المدينة اليهود يصنفون أنفسهم "أرثوذوكس،" أي بزيادة بينة عن عام 2002 إذ بلغت 33%. أما الأطفال وجيل الناشئة في المدينة فالأرثوذوكس يشكلون نحو 74% منهم. وإن واحداً من بين كل اربعة من اليهود مصنف في خانة الفقر إستناداً الى المعايير الحكومية المعمول بها، بما يشكل ارتفاعاً عن عام 2002 إذ بلغت النسبة آنذاك واحد إلى خمسة.
بحكم التوجهات المحافظة لفئة الأرثوذوكس فهي مرشحة لتبني سياسات متشددة في مواضيع شتى، ومنها معاملة سلطات الإحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين. وأشار استطلاع للرأي أجرته جامعة "سيينا" في نيويورك إلى أن نسبة دعم اليهود في نيويورك للرئيس أوباما بلغت 51% مقابل 43% لصالح خصمه الجمهوري. تجدر الإشارة إلى أن أوباما يحظى بدعم نحو 59% من عموم سكان مدينة نيويورك، مقابل 35% لخصمه الجمهوري. ما يشير إليه الإستطلاع هو تراجع الصورة النمطية لتوجهات اليهود بأنهم في معظمهم يميلون لتأييد الحزب الديموقراطي.
بالإمكان رصد إنقسام في توجهات الجالية اليهودية، إذ بينما تتنامى أعداد اليهود الأرثوذوكس هناك تراجع في هوية وإنتماء اليهود من غير الأرثوذوكس وتضاؤل الشعور بـ"يهوديتهم،" والذين يشهدون تراجعاً في الإلتزام بإحياء الشعائر والمناسبات اليهودية.إذ تشير الإحصائيات إلى انخفاض الإحتفال بعيد الفصح اليهودي، وأن نحو 14% من العائلات لم تحتفل به مطلقاً، ويعتبر هذا العدد ضعف ما كان عليه الأمر قبل عقد من الزمن.كما شهد طرفا الجالية اليهودية، الاصلاحيون والمحافظون، خسارة أربعين ألفاً من الأعضاء منذ عام 2002 ولغاية 2011؛ كما أن نحو ثلث العينة المستطلعة آراؤهم، بناء على تحديدهم بالإنتماء لليهودية، عبّروا عن عدم ولائهم لأي من الطرفين أو بأنهم لا ينتمون لأي ديانة محددة.
بين اليهود "الإسرائيليين" و"غير المتفرغين "!!
أما التغيرات في عموم الجالية اليهودية الأميركية فتشير إلى أن غالبيتها لم تطأ قدماها فلسطين المحتلة – وقد تستوي الأرقام الدقيقة لزيارة إسرائيل عند واحد من بين كل خمسة أفراد.وهذا ما يفسر إطلاق "اليهود الإسرائيليين" تسمية "اليهود غير المتفرغين" على أقرانهم الأميركيين. في المحصلة فإن التباعد بين اليهود الأميركيين و"اليهود الاسرائيليين" بلغ مدى متقدماً لا مثيل له في التاريخ الحديث.
كان هذا الأمر من بين أحد أهداف زيارة مرشح الحزب الجمهوري ميت رومني لإسرائيل. إذ بينما يرجح تصويت اليهود الأميركيين المقيمين في الولايات المتحدة إلى جانب الرئيس أوباما، فإن اليهود الاميركيين المقيمين في إسرائيل سيتجهون لمناصرة ميت رومني، على الأرجح.
تشير بعض التقديرات الى ان عدد اليهود الاميركيين المقيمين في إسرائيل قد يصل إلى 150 ألف فرد باستطاعتهم المشاركة في الجولة الإنتخابية المقبلة – وعدد لا بأس به منهم تقع دائرته الإنتخابية في الولايات المتصارع عليها.
ومن المسلم به أن أولويات إهتماماتهم تنصب على المواقف الأميركية المؤيدة لإسرائيل وانتهاجها سياسة خارجية ودفاعية متشددة. أصاب هذه الشريحة من الناخبين إحباط شديد من أداء الرئيس أوباما ويرجح ميلها لصالح خصمه ميت رومني.
دعم اليهود المقيمين في الولايات المتحدة للرئيس أوباما ليس مضموناً بالكامل، ويتعين على أوباما بذل جهود إستثنائية لاستقطابهم. علاوة على عامل التغيرات الديموغرافية في وضع اليهود الأميركيين، تبرز نواحي متعددة ينبغي الإهتمام بها من جانب حملة الرئيس أوباما الانتخابية.وقد أشار استطلاع للرأي أجري حديثاً بالتعاون مع صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" إلى تقدم نسبة الدعم لصالح الرئيس أوباما بين أوساط اليهود إذ بلغت 59% مقابل 35% لخصمه، وتأرجح نحو 6% من العينة. عند مقارنة النسبة العالية مع النسبة التي حصل عليها أوباما قبل اربع سنوات، التي بلغت 78% من أصوات اليهود، يتضح حجم التراجع الكبير في معسكر مؤيديه.
التحولات المشار اليها من شأنها تغيير قواعد اللعبة خاصة في ولايات لم تحسم نهائياً مثل فلوريدا وأوهايو وبنسلفانيا. ولم يسبقه إلى هذه النسبة المتدنية بـ"نسبة أصوات اليهود" إلاّ المرشح الديموقراطي عام 1988، مايكل دوكاكيس، الذي حصل على نسبة دعم بلغت 64%. من الجائز أن يحصد المرشح رومني نسبة دعم عالية توازي النسبة التي سبقه إليها رونالد ريغان عام 1980 والتي بلغت 39% وهي أكبر نسبة يحققها الجمهوريون منذ فترة تعود إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى.
عند هذا المنعطف، يطرح التساؤل نفسه، ما هو العامل المحفز لليهود الأميركيين علاوة على قلقهم على مصير إسرائيل؟ إنه الأوضاع الإقتصادية. والدليل نجده في استطلاع للرأي أجرته حديثاً "لجنة اليهود الاميركيين" إذ أفاد أن القلق على الأوضاع الإقتصادية تصدّر أولويات اليهود بنسبة خمسة أضعاف قلقهم على إسرائيل.العامل الآخر بالنسبة لهم هو الرعاية الصحية التي تفوّقت بنسبة ثلاثة أضعاف على خيار مصير إسرائيل الذي صنفه نحو 6% منهم فقط في صدارة الاولويات، يتبعه نحو 4% يعتبرون البرنامج النووي الإيراني ذا أولوية على ما عداه.أما حين اعتبار مصير إسرائيل كواحد من بين ثلاث عوامل أولية فلم يحظ إلا بنسبة 15% من بين عموم اليهود المستطلعة آراؤهم.وبهذا، أصبح جلياً أن برنامج الرعاية الصحية الشامل، الذي يعرف مجازاً بـ "أوباما كير،" يعد أكثر حيوية لكسب أصوات اليهود من عامل دعم إسرائيل كما هو رائج حالياً.
يقدّم هذا الوضع تفسيراً لإصرار أوباما على رفض ترسيم "خطوط حمراء" لا ينبغي لإيران تجاوزها لتفادي هجوم إسرائيلي على منشآتها النووية. وفي معركة استقطاب أصوات اليهود، يتضح أن أوباما يحسن التمسك ببرنامج الرعاية الصحية الشامل.
تضاعف حظوظ الحزب الجمهوري في أوساط اليهود
تجدر الإشارة إلى تباين دعم اليهود لأوباما، إذ بينما يحافظ على ولاء الأغلبية منهم، فإن التبرعات المالية من قبل اليهود قد تراجعت لا سيما تلك الأرقام التي تمر عبر "لجان العمل السياسية" التي لا تسري عليها القيود، ويتعاظم دورها هذا العام أكثر من أي وقت مضى.فسياساته الداعمة لإسرائيل تحفز شريحة المتبرعين اليهود الأثرياء على تقديم مزيد من الدعم. أما حملات الدعاية المكثفة فهي تستهدف شريحة المسيحيين من الطائفة الإنجيلية التي يعد أعضاؤها من أنشط المناصرين لإسرائيل وأصواتها يحسب لها أكثر من حساب. بما أن الأجواء الإنتخابية تتسم بالإفراط في الصرف والإنفاق، فإن كسب هذه المجموعة يزداد أهمية.وعليه، فإن الإنقسام داخل الصف اليهودي أضحى واقعاً، إذ سيلجأ الأثرياء اليهود المؤيدون لإسرائيل للتبرع لصالح رومني عبر لجان العمل السياسي بغية التأثير على أصوات المسيحيين من الطائفة الإنجيلية. في المقابل، سيسعى اليهود الليبراليون للتصويت بكثافة لدرء نفوذ الطائفة المذكورة وخاصة على القضايا الداخلية الشائكة مثل زواج المثليين وحرية المرأة في تقرير الاجهاض.
التحولات الديموغرافية بين أوساط اليهود الاميركيين مثيرة للاهتمام. إذ بينما تتنامى أعداد اليهود المتدينين – الأرثوذوكس بشكل ملحوظ، يتضاءل حجم اليهود الليبراليين لأسباب تعود إلى التقدم في السن والوفاة وهم الذين يعوّل عليهم الحزب الديموقراطي لضمان تفوقه.ما يتبقى من الليبراليين اليهود يعمد لإرسال صغاره الى مدارس ذات مناهج باللغة العبرية أو الى المدارس الدينية اليهودية – اليشيفا. وتشير الإحصائيات المختلفة إلى أن زهاء نصف البالغين ممن تتراوح أعمارهم بين 18-34 عاماً في مدينة نيويورك وضواحيها قد أتم دراسته في إحدى المدرستين. وذلك مقارنة مع نسبة 16% من البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 55 – 69 عاماً. بالنتيجة، يؤشر هذا الوضع على ميول نحو التيار المحافظ بين اليهود المؤيدين لإسرائيل" في المستقبل.
في المقابل، يجري إندماج اليهود الليبراليين في المجتمع الأميركي بوتيرة سريعة، لا سيما وأن حالات الزواج المختلط بين الليبراليين في تصاعد مستمر. وقد أشارت دراسة أجريت على تلك الحالات بين أعوام 2006 – 2011 إلى أن نصف معدلات الزواج تمّت بين طرف لا يتبع اليهودية الأرثوذوكسية مع طرف لا يمتّ لليهودية ولم يتحوّل إلى الديانة اليهودية.
الثابت أن أصوات اليهود في تطور مستمر. إذ بينما يخسر البعض هويته اليهودية بالإندماج في بوتقة المجتمع الأميركي، نرى انشداد الآخرين إلى التيار المحافظ داخل الجالية اليهودية، والذي يعد حديث السن في التصنيف الديموغرافي. وعليه، باستطاعتنا القول إن نصيب الحزب الجمهوري من بين أوساط اليهود سيتعاظم في العقود القليلة المقبلة.