صالح العاروري... آخرُ المعارك أكبرُها
جُمعت هذه السيرة عن الشهيد صالح العاروري قبل شهر واحد من "طوفان الأقصى". آنذاك سبق اسمه في "اللائحة الأولى" للاغتيال داخل "حماس" كلاً من يحيى السنوار ومحمد الضيف. بات لا بدّ من معرفة أعمق بالرجل. ومع أن السنوار والضيف عادا سريعاً بعد "طوفان الأقصى" ليكونا في رأس تلك اللائحة، فإن ذلك لم يجعل "إسرائيل" تنام عن العاروري يوماً، أو حتى ساعة واحدة.
لا شكّ في أننا أمام مسيرة حافلة. فمنذ اللحظة الأولى لاستشهاد العاروري كتب كثيرون عنه. لكن لا يكفي مجرد معرفة تسلسل حياته أو سرد بعض الحوادث لفهم عميق لشخصية صالح محمد سليمان خصيب، الشهير بالعاروري، نسبةً إلى قريته عارورة وسط الضفة المحتلة، بل لا بدّ من البحث في شخصيته الفكرية وشخصيته السياسية.
قبيل "طوفان الأقصى"، ومع تصاعد العمليات الفدائية في الضفة المحتلة وتأثيراتها الكبيرة في "دولة" الاحتلال، وإدخال "جيش" الاحتلال حالة من الاستنزاف الدائم، كانت تعالت التهديدات بحق نائب رئيس المكتب السياسي لـ"حماس"، لكونه فعّالاً في أهم ملفات المنطقة: إعادة إحياء المقاومة في الضفة.
اللافت أن ما حدث تزامن مع اقتراب الدورة الانتخابية للحركة، وكان العاروري من المرشحين الأقوياء ليخلف إسماعيل هنية، وخصوصاً أن النظام الداخلي يمنع الأخير من الإكمال في المنصب بعد إمضائه دورتين. وخلال العام الماضي زادت شعبية العاروري حمساوياً وفلسطينياً بعد أن صار خروجه عبر الشاشات محفزاً للعمليات في الضفة، بل بات كل خروج له يُتبع بعمليات قوية ونوعية.
وما زاد في شعبيته أيضاً أن عمل الجناح العسكري، "كتائب القسام"، في الضفة، صار معلناً، إذ تبنت الحركة عبره أكثر من سبع عمليات كبيرة ونوعية قبل "طوفان الأقصى". هذا المسار التصاعدي كله وصل الذروة بعد التهديدات الصريحة له من بنيامين نتنياهو، فرد عليها بصورة عسكرية له وعقد لقاءين تلفزيونيين: الأول عبر قناة "الأقصى"، وبعدها بيوم عبر قناة الميادين في 25/8/2023.
المنظومة الفكرية
على عكس التعريفات التقليدية، سندخل في العمق من البداية. لقد تأثر العاروري بعدد من الشخصيات القيادية في "حماس"، وخصوصاً مؤسسها، الشهيد أحمد ياسين، الذي التقاه عدة مرات قبل تأسيس الحركة، بالإضافة إلى شيخه سعيد معطان الذي أدخله جماعة "الإخوان المسلمين" قبل ذلك.
كان معطان محفزاً له على نشر العمل الإسلامي في رام الله، كما كان مؤثراً في فهم الشيخ صالح، حركياً وفكرياً. ومعطان يسميه الحمساويون الضفيون "سيّد قطب" من جراء أكثر من خمسة وعشرين عاماً من تأثيره فيهم، وهو أحد مبعدي مرج الزهور، واعتقلته قوات الاحتلال أكثر من مرة.
كذلك، كان للقيادي في "حماس" خليل القوقا تأثير كبير في شخصية العاروري عندما كان حلقة الوصل بين قيادتي غزة والضفة، فكان اتصال الشيخ صالح به مباشراً قبل إبعاد القوقا. وهنا كان له تأثير كبير فيما يتعلق بالموقف بشأن طبيعة الصراع مع الاحتلال.
بعد إبعاد القوقا انتقل العاروري إلى تكوين علاقات بالشيخ جمال منصور كحلقة وصل. وعلى رغم أن تنظيم "حماس" في الضفة كانت له ارتباطات بامتداد "الإخوان" في الأردن، لكن العاروري كان حريصاً على أن تبقى علاقته بقيادة غزة، وخصوصاً الشيخ ياسين.
أيضاً، تبادل العاروري وقائد "حماس" في غزة، يحيى السنوار، التأثير، أحدهما في الآخر. وشكّلت اللقاءات بينهما في السجن، ومناقشة مستقبل الحركة، أرضية للعمل بعد الإفراج عنهما، إذ وجد العاروري أن الفهم المشترك بينه وبين السنوار جعله قادراً على تنفيذ ما كانا يخططانه في السجن، فكان الاثنان يؤمنان بـ"التجهيز الاستراتيجي لتصفير ملف الأسرى"، ثم التخلص من الاحتلال.
كان العاروري يؤمن بأن تجربة "حماس" فريدة بصفتها "نموذجاً إسلامياً مقاوماً"، ولهذا رأى أنه مع تراجع "الإخوان" في المنطقة، لم يعد هناك فائدة للإيمان بفكر الجماعة. ومع أنه ظل يرى أهمية للجماعة في التحشيد لدعم "حماس" شعبياً وجماهيراً، لدى العرب والمسلمين، لكن بعد ما حدث من تجارب في مصر وتونس ترسخت لديه قناعة بأن الاعتماد على "الإخوان" لن يقرب الحركة والفلسطينيين من تحرير فلسطين.
البديل لديه كان أن على الحركة التفكير في استراتيجية تستند إلى تجاربها التاريخية. ولهذا، جاء قراره منذ البداية المحافظةَ على العلاقات بالإيرانيين وحزب الله، فكان داعماً أساسياً لعودة العلاقات بالدولة السورية، وهذا ما حدث بعد سلسلة من اللقاءات غير المعلنة، والتي حلّ فيها أغلبية الإشكالات.
هذا أصلاً نابع من طريقة تفكيره، فهو منذ بداية عمله كان يؤمن بالانفتاح على الآخر، وحتى كان يتمتع بعلاقات ودية بالقيادات المحلية في "فتح" والحركات اليسارية، بل يتدخل لحل الإشكالات بين عناصر "حماس" والفصائل الأخرى.
الأكثر غرابة، مقارنة بالسلوك السياسي الفلسطيني، أنه كان يؤمن بأن من حق جميع الشبان الفلسطينيين الانتساب إلى "حماس" بعيداً عن الشروط التي تفرضها الحركة، وكان من أوائل القادة الذين جندوا شباناً بعيداً عن هذه الشروط، واعتمد على عدد منهم في الجانب الجماهيري، وآخرين في الجانب العسكري.
في تفاصيل العمل، كان الشهيد يؤمن بأن الجهاز العسكري يمثل العمود الفقري للمقاومة ولـ"حماس" في فلسطين، ولهذا اعتمد على الشخصيات التي انخرطت في العمل العسكري، كما أن أغلبية العاملين معه في دائرته الأولى هم من الأسرى المحررين والمنتمين إلى الجناح العسكري.
أكثر من ذلك، كان يعتقد أن طبيعة المرحلة الحالية في الضفة تحتاج إلى تفعيل العمل، عسكرياً وأمنياً، أكثر من الاهتمام بإعادة بناء الجهاز الدعَوي، وأن الجهود يجب أن تنصبّ على تشكيل الخلايا العسكرية وتصعيد العمل لتجاوز الجهد، أمنياً وعسكرياً، ضد المقاومة، لكنه لم يكن يؤمن بالصدام مع الأجهزة الأمنية للسلطة.
على مدار أعوام سَجنه داخل سجون الاحتلال، كان العاروري متابعاً جيداً للوضع الداخلي الإسرائيلي، ويطّلع يومياً على الصحف العبرية وما يُكتب فيها. وبطبيعته، كان يشارك في المبادئ والأفكار الاستراتيجية العامة مع المحيطين به، لكنه لا يتحدث كثيراً عن مخططاته تفصيلياً، وهو ما جعله مفهوماً للمحيطين به، لكن في التفاصيل لا يستطيع أن يتنبأ كثيرون بما يفكر فيه.
التحوّل العسكري
عام 1990، تعرّض لأول اعتقال، مدته أربعة أشهر، تعرف خلالها إلى أبرز قادة العمل العسكري في الضفة: عادل عوض الله وإبراهيم حامد. اتفق الثلاثة على بناء الجناح العسكري بعد الضربات التي تعرضت لها الحركة في أثناء محاولاتها السابقة إنشاء خلايا عسكرية.
بينما كانت تتشكل مجموعات عسكرية للحركة شمالي الضفة، شرع العاروري في تشكيل الجناح العسكري في رام الله والخليل، ونظّم عدداً من الشبان، وأقام مجموعات وتولى تزويدها بالسلاح. كما فتح خط اتصال بشمالي الضفة، عبر المسؤول عن عدد من المجموعات العسكريّة هناك، زاهر جبارين، وأثمر ذلك عن عملية محمد بشارات في "التلة الفرنسية" في القدس المحتلة، عام 1991، والتي أسفرت عن مقتل جندي إسرائيلي.
خلال تلك الأعوام انتقلت مجموعة من المطارَدين من غزة إلى الضفة، وعلى رأسها الشهيد عماد عقل ومحمد الضيف (القائد العام حالياً) وآخرون. عمل الضيف مع خلايا الكتائب في وسط الضفّة وشماليها، بينما عمل عقل مع خلاياها في الخليل، ونفذ عمليات إطلاق نار.
فتحَ العاروري مع رفقائه خط اتصال بقيادة الحركة في الخارج، وخصوصاً في الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، وصل إلى الضفة أحد القادة، والذي عُرف باسم "أبي أحمد الأميركي"، وأجرى لقاءات مع عدد من القادة والكوادر في الحركة والكتائب، في الضفة وغزة، وزوّد العاروري بمبالغ لتوفير الدعم اللوجستي لخلايا الكتائب.
عام 1992، تعرّض العمل العسكري لضربة موجعة، إذ تكشفت الخلايا واعتقل الاحتلال الشيخ صالح في تلك الضربة، وتعرض لتحقيق قاسٍ استمر أشهراً في مركز "المسكوبية" في القدس المحتلة وسجن طولكرم المركزي.
يُشار إلى أن علاقة العاروري بالضيف تعززت خلال التسعينيات، وخصوصاً عندما تعزز تنسيق العمل العسكري بين مجموعات "حماس" في غزة والضفة، فنشأت علاقة مميزة بينهما، ثم تعززت بوحدة الموقف والاتصالات غير المباشرة بعد الإفراج عن العاروري عام 2010.
بعد أعوام طويلة، ومع الإفراج عن عدد كبير من الأسرى في "وفاء الأحرار" عام 2011، أسس مكتب الضفة في قطاع غزة والخارج ليكون نقطة انطلاق لعمل "حماس" في الضفة، كما صار يمثل الأب الروحي والمرجع لأسرى الصفقة، وخصوصاً من الضفة، ثم جاء الحدث الأبرز حين اتهمته "إسرائيل" بأنه يقف خلف عملية أسر المستوطنين الثلاثة في الخليل عام 2014، والتي اندلعت على إثرها الحرب مع قطاع غزة.
أولوية التحرير
كان العاروري يؤمن بأن فلسطين لن تتحرر من غزة وحدها، ولهذا رأى أنه يجب "سحب الشعب الفلسطيني والأمتين العربية والإسلامية إلى المواجهة مع الاحتلال"، وألا تكون المواجهة مقتصرة على الفلسطينيين وحدهم، وإنما يمكن تفكيك الاحتلال بالتدريج، وعبر معارك كبيرة مُعَدّ لها جيداً، على أن تعمل كل الجبهات بالتزامن على نحو يشتت الاحتلال ويجعله غير قادر على التعامل مع التهديدات التي تواجهه.
لهذا، نظر إلى "محور المقاومة" بصفته حليفاً استراتيجياً منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وخصوصاً إيران وحزب الله وسوريا، وكان يقول إن مواقف هذه الأطراف ودعمها المقاومة كبيرة، وسببٌ في نهوض الجانب العسكري للحركة. ولولا هذا الدعم، لما استطاعت سد ثُغَر كبيرة.
في هذا الجانب، كان يتوافق مع رؤية قيادة غزة بشأن تعزيز التعاون مع إيران، ليصير الدعم الذي تحصل عليه الحركة مساوياً للدعم الذي يحصل عليه حزب الله، وخصوصاً في مجال الأسلحة والقدرات العسكرية، بالتوازي مع تنمية المقاومة في الضفة لتصبح عصية على الاحتلال.
من جراء ذلك، قاد حراكاً كبيراً بعد عام 2017 داخل "حماس"، بالتنسيق مع السنوار، من أجل تغيير توجهات الحركة والعودة إلى "محور المقاومة"، وتعزيز العلاقات به. كما كان من المخططين مع السنوار للمصالحة وإعطاء "فتح" كل ما تريد، بما في ذلك المعابر، لترتيب البيت الداخلي، قبل الانطلاق بالمقاومة في وجه الاحتلال.
كان العاروري يحمل النظرة الإيجابية نفسها لدى قيادة الجناح العسكري تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إذ كان مطّلعاً على جهود طهران في دعم المقاومة والمجموعات العسكرية للحركة في التسعينيات والانتفاضة الثانية، وبعد الإفراج عنه ووجوده في سوريا وتركيا ولبنان.
حتى استشهاده، حظي الشيخ صالح بتوافقات كبيرة داخل أطر الحركة في الضفة، وخصوصاً في رام الله وجنوبي الضفة، وتحديداً في الخليل، وكذلك شمالي الضفة في نابلس وجنين، إذ يُنظر إليه على أنه من القادة الذين ضحوا كثيراً ولم يتركوا العمل أو يتراجعوا، وممن تحمّلوا الكثير من الأعباء للمحافظة على الحركة في الضفة.
في الوقت نفسه، كان يحظى بمحبة واحترام كبيرين من القيادات العسكرية، ولم يكن هناك أي اعتراض بينهم على أن يكون قائداً للمكتب السياسي خلال الدورة الانتخابية المقبلة، بل يحظى بتأييد الجناح العسكري، وبتأييد التيار الدعَوي أيضاً.
في الداخل، كانت نظرية الشهيد أنه كلما تعزّزت العلاقات بـ"فتح" يمكن تخفيف حالة الاحتقان والضغط الأمني الممارَس على المقاومين في الضفة. ومع ذلك، يجب، بأي وسيلة، وقف تفرد "فتح" بالقرار وبـ"منظمة التحرير"، مع تقديم تنازلات مرحلية للدخول للمنظمة وتغيير واقعها. أمّا في الضفة، فرؤيته مفادها أن تطوير العمل المقاوم أولوية، والوصول إلى القدرة على إيذاء الاحتلال واستنزافه هدف أساسي لإجباره على الاعتراف بحقوق الفلسطينيين الوطنية والسياسية.
وفق مقربين إليه، كان الرجل يُظهر الغضب عند الاعتداءات التي يرتكبها الاحتلال، وخصوصاً بحق الأسرى والمقدَّسات. وعندما يكون حديثه عن الاحتلال لا يتوانى عن إظهار حالة التحدي بسبب إيمانه بأن "إسرائيل" ضعيفة، ويمكن هز أمنها وقادتها، عبر أعمال بسيطة.
في النتيجة، كان يرى أنه لا بد من مزيد من مراكمة القوة لتمتلك المقاومة الأدوات العسكرية التي تستطيع عبرها تحرير أراضٍ من الاحتلال، أو إرغام الاحتلال على تحقيق مطالب الحركة، وخصوصاً الانسحاب من الضفة، وأن الاستراتيجية الأفضل هي مراكمة القوة داخل غزة، وتعزيز القدرات العسكرية، وخصوصاً الصاروخية والطيران المسيّر، وهذا ما أنتج "طوفان الأقصى".
من أجل استنزاف الاحتلال ووقف مشروعه الاستيطاني، كان يصر على أن تتحرك الضفة لأن تأثيراتها كبيرة، وهذا ما قُتل من أجله، لتكون آخر معاركه أكبرها.
السرّ في الطفولة
وُلد الشيخ صالح في عارورة في 19/8/1966، ودرس الابتدائية والإعدادية في مدارس القرية، وكان طالباً مجتهداً. منذ الطفولة، بدأ ارتباطه بالمسجد، إذ كان كثير التردد إلى مسجد حارتهم، والمعروف بـ"الكبير". وكان والده الشيخ محمد متديناً يحفظ القرآن الكريم. من هنا، كان تدينه مساراً طبيعياً لتنشئة اجتماعية في أجواء العائلة والمسجد. وبعد المرحلة الثانوية، انتقل ليدرس في كلية الشريعة في جامعة الخليل، وبدأ نشاطه من قريته عارورة، حيث وزع البيان الأول للحركة.