"طوفان الأقصى"... كيف يحارب الإعلام العسكري السرديات أيضاً؟

نجحت المقاومة حتى اللحظة في خوض غمار الحرب الإعلامية بالتوازي مع العمل المقاوم، ما دفع الغرب إلى المسارعة في التصدي لسرديات المقاومة في وسائل التواصل الاجتماعي، والتشديد على حذف المواد المتعلقة بالمعركة الدائرة في فلسطين. 
  • كيف يحارب الإعلام العسكري السرديات أيضاً؟

"اليوم، العدو وقادة العدو ومستوطنو هذا العدو. هؤلاء اليوم يثقون ويصدّقون إعلام المقاومة أكثر ممّا يصدّقون قادتهم وإعلامهم. لماذاوصلنا إلى هذه النتيجة؟ نتيجة الصدق، نتيجة التجربة الطويلة والوقائع التي ظهرت أمام أعينهم".

كلمة الأمين العام لحزب الله في افتتاح مؤتمر تجديد الخطاب الإعلامي وإدارة المواجهة 2021.

في جميع المعارك التي قادتها المقاومة، غالباً ما كان هناك داخل المعركة نفسها من يسمع ويسجّل الملاحظات والمشاهدات لتأريخ ما يحدث، ومن يحمل كاميرته ليسجّل بالصوت والصورة ما سيصبح بالضرورة حدثاً.

كانت الحاجة إلى توثيق ما تقوم به المقاومة ضرورية، ولا سيّما أن الاحتلال الإسرائيلي له باع طويل في خوض "المعارك الإعلامية"، ولعل أبرز ما روّجه سابقاً و"ثبته"، وخصوصاً عند الغرب، هو نظرية "الجيش الذي لا يقهر"، علماً أن حركات المقاومة أثبتت في كثير من المواضع والعمليات، ليس آخرها معركة "طوفان الأقصى"، أن هذا الجيش يقهر، وهو مقهور عملياً، وقد لا يخرج من دائرة القهر هذه.

مع تراكم المعارك والتجارب في المجال الإعلامي، خُلقت الحاجة إلى وجود من يحمل أدواته الإعلامية في يده إلى جانب سلاحه في المعركة، لأن هناك سرديات بحاجة أيضاً إلى أن تحارب أو أن يتم إثبات ما يخالفها، وهو تماماً ما ميّز عملية "طوفان الأقصى".

النقطة الرابحة التي امتلكها وعمل عليها الإعلام المقاوم في معاركه السابقة هي مصداقيته في مقابل أكاذيب العدو. تخوض المقاومة غمار الحروب النفسية، وهذا صحيح ومطلوب، لكن المواد التي تتكئ عليها هي مواد حقيقية وواضحة، فقد أثبت الإعلام المقاوم من خلال تراكم التجارب والخبرات لدى المتابعين والمشاهدين، الأصدقاء والأعداء، أنه إعلام حقيقي وصادق.

في المقابل، كان الإعلام الإسرائيلي، وعلى مرّ سنين الصراع، يخترع ويهذي ويضخّم. كم مرة أعلن العدو أنه دمّر البنية العسكرية للمقاومة في لبنان وفلسطين؟ آلاف المرات، وهذا لم يحدث على أي حال.

"طوفان الأقصى".. ما زال مستمراً

منذ فجر السبت، ومع بدء عملية "طوفان الأقصى"، كان على المشاهدين في العالم أن يتابعوا أيضاً. 

ميدانياً، عملت المقاومة على الاقتحامات وكسر الجدار وأسر جنود العدو والاستهداف المباشر للمستوطنات وتجهيز مسرح العمليات. بالتوازي، قام جنودها بتوثيق أغلب ما يحدث عبر تصوير مقاطع فيديو وبث صور من قلب الحدث، بشكل مباشر أو غير مباشر، إضافة إلى عرض صور من المعركة مع شعارات وآيات من القرآن الكريم وجمل ثورية تصب كلها في رفع الروح المعنوية، للناس وعناصر المقاومة على حد سواء.

لم يقتصر العمل الجهادي هذه المرة على الفعل المقاوم، بل تعداه إلى أوجه خلقتها المقاومة لنفسها ونجحت فيها، ولم يكن التحدي لدى المقاومة هو الحضور الإعلامي وحده. كنا أمام عمل إعلامي نوعي في المكان والزمان.

فجر السابع من تشرين الأول/أكتوبر، بدأت وسائل الإعلام الإسرائيلية تتناقل أن حدثاً أمنياً ما يحدث في غزة، والمعلومات من هناك غالباً ما تكون وفق السردية الإسرائيلية، لأن الأخيرة هي التي تعلن أن أحد "المخربين" وصل إليها مثلاً، وأنه تمكّن من طعن أحد الجنود، وتكون الإصابات أيضاً، وفق السردية الإسرائيلية، غالباً طفيفة، وتشرح كيف تمكَّن "الجندي الخارق" من "تحييد" المنفّذين وقتل 3 منهم (ولو كانوا اثنين)، وكيف قضى سريعاً على منزل "المخرّب"، ثم تنتهي القصة.

لكن هذا لم يحدث هذه المرة، ولم ينتهِ الموضوع سريعاً، فالسردية الإسرائيلية كانت ضائعة على أي حال، والأخبار التي كانت تصل من الكيان متضاربة: حدث أمني، شيء ما يحدث، والاحتمالات مفتوحة.

في المقابل، كنّا كصحفيين ومتابعين ومؤيدين قد بدأنا بتكوين صورة أوضح عمّا يحصل. كانت السردية الفلسطينية أشد وضوحاً وحضوراً هذه المرة، وكانت بالتأكيد الأقرب وصولاً إلى الخبر.

من خلال رصد بسيط لقناة "كتائب الشهيد عز الدين القسام" الرسمية في "تلغرام"، سنحاول شرح ما الجديد المختلف في عمل المقاومة هذه المرة لجهة الكثافة والتوقيت.

فجر السابع من أكتوبر، الساعة 7:14 تحديداً، نشرت القناة التابعة للمقاومة أن قائد هيئة الأركان في كتائب القسام محمد الضيف سيلقي بياناً مهماً (معلومة).

عند الساعة 8:19 (أي بعد نحو ساعة)، نشرت الصفحة آية من القرآن الكريم: {فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً}. بعد ساعة أيضاً، نشرت الخطاب كاملاً مع شرح يفيد بأن عملية "طوفان الأقصى" بدأت.

صور بدء العملية كانت جاهزة ومتاحة للعالم بعد ساعة واحدة من إعلان العملية مع شرح تفصيلي لكل صورة. بعد أقل من ساعة، نشر الإعلام العسكري فيديو يوثق الاستيلاء على كيبوتس وموقع كرم أبو سالم شرق رفح (الفيديو يظهر مقتل جنود إسرائيليين).

بعدها بدقائق، نشرت القناة صورة لمقاوم يرتدي زياً يحمل شعار: "سرب صقر – سلاح الجو"، تلتها مباشرة مشاهد حصرية "لسرب صقر"؛ إحدى الوحدات العسكرية التي شاركت في عملية "طوفان الأقصى".

هدأت الصفحة نحو ساعة، ثم أعلنت عن مداخلة صوتية للناطق العسكري باسم كتائب القسام أبو عبيدة. بعدها بدقائق، نشرت صورة تحمل عبارة معركة "طوفان الأقصى". بعدها بـ10 دقائق، نشرت البيان رقم 2، وهو ألبوم جديد لمجاهدي القسام خلال سيطرتهم على مواقع الاحتلال. 

وبعد دقائق، نشرت مشاهد جديدة للاستيلاء على موقع ناحل عوز، ثم نشرت إعلاناً ترويجياً لمشاهد حصرية ستُعرض لأسر عدد من جنود العدو. وبعد دقائق، نشرت صوراً لعدد من جنود الاحتلال في قبضة "القسام".

كل هذه المواد والساعة لا تزال 12:38 ظهراً.

بعد نصف ساعة، نشرت القناة إعلاناً يقول إن مشاهد ستعرض بعد قليل لتفجير واجتياز السياج الزائل شرق خان يونس وأسر عدد من الجنود من دباباتهم. بعد ساعة، نشرت الصفحة المشاهد التي وعدت بها.

بعد ساعة، نشرت فيديو لكتائب القسام تدمر دبابة صهيونية بعد استهدافها بقذيفة من طائرة عمودية ضمن المعركة. وبعد نصف ساعة، نشرت القناة فيديو لكتائب القسام أثناء استهدافها رشاشاً "يرى ويطلق" شرق غزة.

أكملت القناة بعد ذلك على النسق ذاته: صور ترويجية وفيديوهات حية للعمليات وبدقة عالية، والكشف عن أسلحة ومنظومات جديدة. حتى الساعة الخامسة مساءً، نشرت القناة أن عدد القتلى الإسرائيليين وصل إلى 1000 قتيل، وهو ما احتاجت "إسرائيل" إلى ما يقارب 4 أيام للاعتراف به.

وهكذا، تستمر المقاومة في معركة "طوفان الأقصى" في ضخ المواد البصرية والمكتوبة التي تخبرنا بما يحدث، حتى لا تكاد تمر ساعة واحدة نكون غائبين فيها عما يحدث في فلسطين، وهذه حال العديد من الحسابات والقنوات في وسائل التواصل الاجتماعي.

الإنسانية بالتزامن مع الكثافة والحضور

كان جمهور المقاومة (قبل إدخال المقاومة العنصر الإعلامي في عملياتها) يتحدث عن القصص البطولية للمجاهدين، نقلاً عن ألسنتهم، ثم نقلاً عن فيديو بعيد أو شهود عيان. اليوم، نحمل بين أيدينا جميعاً دليل نصر المقاومة؛ دليل حضورها وإنجازاتها وبطولاتها، وإنسانيتها أيضاً. 

عملت السردية الغربية منذ بدء عملية "طوفان الأقصى" على الترويج لفكرة مفادها أن المقاتلين الفلسطينيين يقتلون الأطفال والعجز وينكّلون بالأسرى في مقابل "إنسانية إسرائيل"، علماً أن قول الناطق باسم قوات الاحتلال إن "تركيز إسرائيل في هجماتها كان على إلحاق الضرر، وليس على الدقة"، خير دليل على أن "إسرائيل" المصابة في قلبها العسكري جنّ جنونها وهي تنتقم وتدمّر من دون أي حسابات، وهذا ما يثبته عدد الأطفال الذين استشهدوا في غزة حتى اللحظة، والذين تجاوزوا 500 طفل، والعدد في ازدياد.

أكّدت المقاومة مرة جديدة زيف السردية الإسرائيلية من بوابة الإعلام العسكري، فقد نشرت صفحات المقاومة عبارة كتبها أحد المجاهدين على أحد الجدران، جاء فيها: "إن القسام لا تقتل الأطفال". وقد نقلت القناة 12 الإسرائيلية الخبر، فالإعلام الإسرائيلي يصدّق أيضاً بالتجربة والدليل الإعلام المقاوم، ولو كان يسعى جاهداً لتكذيبه.

أيام فقط مرّت على بدء معركة "طوفان الأقصى". وقد نجحت المقاومة حتى اللحظة في خوض غمار الحرب الإعلامية بالتوازي مع العمل المقاوم، والغرب بدأ بالتصدي للسرديات المقاومة في وسائل التواصل الاجتماعي، وبدأ بمحاولة حذف المواد المتعلقة بالمعركة الدائرة في فلسطين. 

قبل أشهر، نشر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأميركي تقريراً مفصلاً تحدّث فيه عن عمل الحركات المقاومة في وسائل التواصل الإعلامي، وكشف عن "وحدة حكومية إسرائيلية مخصصة تعمل مع شركات التواصل الاجتماعي للإبلاغ عن محتوى الجماعات المناهضة لإسرائيل، مثل حماس وحزب الله، وتقدم آلاف الطلبات كل عام". ويؤكّد التقرير أن "انتصار حماس وحزب الله في وسائل التواصل سيكون محدوداً وسط عمليات الإزالة المستمرة التي تمارسها شركات التكنولوجيا اليوم".

لا شكّ في أن "إسرائيل" ومن يقف وراءها سيحاولون خنق السرديات المقاومة والعمل على محوها أو التشكيك فيها في المعركة اليوم، وسيبقى على الإعلام العسكري محاولة خلق سرديات جديدة للتغلب على السرديات الغربية وسياسات القمع التي تمارسها الدول الغربية، وخلفها "إسرائيل"، لإخفاء الحقيقة.

العوامل التي ستساهم في صنع النصر ستكون متشعبة، والأكيد أن الإعلام والحروب الإلكترونية ومعركة السرديات ستكون كلها عنصراً أساسياً فيه.

الجميع سمع ولم يرَ أحدٌ

تحاول الدعاية الإسرائيلية منذ بداية "طوفان الأقصى" أن تصدّر للعالم الغربي سردية مفادها أن مقاتلي حركة حماس يقتلون الأطفال والنساء. وقد كرّست لتثبيت ادعاءاتها هذه جميع وسائلها الإعلامية وناشطيها في مواقع التواصل. وللأسف، تنجح هذه السردية إلى حدّ ما في الولوج إلى العقل الغربي حتى يرفع حدة "التضامن مع إسرائيل".

وقد بات يتردد في العالم أن المقاومة تستهدف "المدنيين" والنساء والأطفال، لكن اللافت والواضح كذلك أنه لم يرَ أحدٌ أين الأطفال الذين تمّ قتلهم، وأين النساء. لا توجد أي صور أو إثباتات. على العكس، ظهر إلى العلن نموذج المستوطِنة التي تحدثت عن أخلاقيات المقاومة التي قال رجالها بوضوح: "نحن مسلمون لا نؤذي النساء والأطفال"، لكن مثل هذه الحقائق يغيّبها الإعلام الغربي لأنها لا تخدم مصالحه بتظهير حماس عدواً يقتل بلا رحمة أو هوادة.

في المقابل، يعمل الإعلام العسكري للمقاومة على نشر أسماء الأطفال الشهداء في غزة وصورهم وسجلاتهم العائلية ومقاطع فيديو توثق لحظة استشهادهم. وقد نجح -مع المؤثرين الذين يدعمون المقاومة- في فرض سرديته الخاصة والوصول إلى قلب الإعلام الغربي والعربي، وهذا ما يفسّر التضامن في عدد من الدول العربية والغربية مع فلسطين هذه المرة، وتحوّل المعركة إلى قضية عالمية تتجاوز المنطقة والإقليم.

المصدر: الميادين نت