هافانا تستضيف قمة "الـ77 والصين".. كيف تؤدي كوبا دورها في قيادة عالم الجنوب؟
"جميع الشعوب الحرة في العالم تستطيع الاعتماد على دعم كوبا التي تشكّل منارة للعدالة الاجتماعية للبشرية"، الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل في ختام منتدى باتريا في كوبا، آذار/ مارس 2023.
ساعات تفصل كوبا عن حدثٍ سياسي لم تشهده البلاد من قبل، وهو قمّة "هافانا" لرؤساء دول وحكومات مجموعة الـ"77 والصين". للمرة الأولى في تاريخها، تستضيف كوبا قمةً بهذا الحجم، إذ من المتوقّع أن يصل إلى هافانا أكثر من 100 وفد دولي، بمشاركة أكثر من 30 رئيس دولة والأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش.
تحت عنوان "تحديات التنمية الحالية: دور العلم والتكنولوجيا والابتكار"، تأتي القمة المرتقبة في ظلّ ظروفٍ دولية خاصّة، وتضافر لجهود ومسارات العمل المشترك الثنائي والمتعدّد الأطراف لتجاوز الهيمنة الغربية والمؤسّسات والمنتديات المرتبطة بها.
وفودٌ من جميع أنحاء العالم ستجمعهم العاصمة الكوبية، لمناقشة التحديات التي تواجه الشعوب النامية، فيما تأمل هافانا بأن تكون هذه القمة منصة انطلاق لتحقيق أهم أهداف المجموعة، وهي الدفاع عن استقلال الدول النامية وسيادتها، ومكافحة الفقر فيها.
كوبا ومجموعة الـ77.. تاريخٌ طويل
من أجل فهم أهمية استضافة كوبا لهذا الحدث، لا بد من العودة إلى مجموعة الـ 77 وأهداف تشكيلها. تُعتبر المجموعة أكبر تحالفٍ للدول النامية داخل الأمم المتحدة، وهي تمثّل ثلثي أعضاء الأمم المتحدة، و80% من سكان العالم.
وتهدف المجموعة بشكلٍ رئيسي إلى ترقية المصالح الاقتصادية لأعضائها بشكلٍ جماعي، إضافة إلى خلق قدرةٍ تفاوضية مشتركة ضمن نطاق منظمة الأمم المتحدة، ومحاربة الفقر للحفاظ على التنمية المستدامة.
وعلى الرغم من أنّ كوبا لم تترأس المجموعة من قبل، إلا أنها تولّت رئاسة فروعٍ مختلفة: جنيف 2001 و2010، ونيروبي عام 2005، وروما 1987 و2001، وحقّقت في قيادتها نتائج لافتة على الصعيد العالمي.
وتولّت هافانا الرئاسة المؤقتة للمجموعة مطلع العام الحالي، وكانت هذه هي المناسبة الأولى التي تقود فيها الجزيرة الكاريبية هذه الكتلة التفاوضية، وتتولى الالتزام المهم بتعزيز وحدة وحضور ونفوذ مجموعة الـ 77 والصين.
وخلال هذه الفترة، وعلى الرغم من الحصار ومحاولات العزل التي واجهتها كوبا على مدار الأعوام الفائتة، إلا أنّها نجحت في إدارة عملها كرئيس مؤقت بطريقة مرنة وبنّاءة خلال فترة محورية، وذلك لوضع الرؤية التحويلية التي دعت إليها المجموعة موضع التنفيذ.
وخلال عام 2023، استضافت هافانا أيضاً أحداثاً بارزة تتعلق بمجموعة الـ 77 والصين، بما في ذلك اجتماعات وزراء التعليم والعلوم والبيئة والثقافة والسياحة في المجموعة.
وبعد أكثر من نصف قرن من وجودها، تمكّنت هذه الكتلة من البقاء متحدة، مع اعتماد التعددية كمبدأ توجيهي لاستراتيجيات التعاون بين بلدان الجنوب. وداخل المجموعة، أدّت كوبا دوراً نشطاً منذ تأسيسها في عام 1971، ومن بين مساهماتها الرئيسية تعزيز التعاون فيما بين بلدان الجنوب، باعتباره طريقاً لتحقيق التنمية العادلة للبلدان.
كوبا تبني نموذج عالم الجنوب
لا شكّ في أنّ القمّة الحالية تكتسب أهميةً خاصة، لعددٍ من العوامل، منها ما يتعلق بمكان انعقادها، حيث تحدّثت بعض المنافذ الإعلامية الغربية أنّ كوبا "برئاستها للقمة، ستسعى إلى قيادة الدول ذات التفكير المماثل في الوقوف ضد الولايات المتحدة".
كما تبرز أهمية هذه القمة مع انشغال العالم بالحديث بشأن الجنوب العالمي، وما ترمز إليه المجموعة من أصالةٍ وتاريخ في تمثيلها لدول الجنوب. هذا إلى جانب أنها تنعقد في ظروف استثنائية، ولا سيما أنها ستجري بعد قمتي منظمة "بريكس" ومجموعة العشرين الأخيرتين، وقبيل انطلاق أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.
كوبا ذات التاريخ الثوريّ والنضاليّ، شكّلت نموذجاً فريداً من نوعه، في التحرّر من الهيمنة الأميركية، وتحدّي العقوبات المفروضة من جانب الولايات المتحدة والعالم على حدّ سواء، للنهوض بالمجتمع، والحفاظ على كرامته، وهويته وثقافته.
وعبر استضافتها لهذا الحدث، تؤكد هافانا، التي تعاني من أطول حظرٍ تجاري في التاريخ، ومحاولات لا تتوقّف من تضليل الرأي العام المحلي والعالمي، أنها نموذج جبهة موحدة ضد الظلم والسعي المستمر وراء الحرية. ويبرز اجتماع هذا العام في كوبا في ظلّ تحولاتٍ لافتة على المستوى العالمي، بينما يتعاظم دور التكتلات السياسية والتحالفات الاقتصادية المواجهة للهيمنة الغربية على الساحة الدولية.
في الأعوام الأخيرة، تسبّب التناقض الحادّ بين دول الجنوب والسياسات الغربية بتوترٍ متزايد في السياسة العالمية. وعلى مدى عقود طويلة، تعاملت الولايات المتحدة مع دول الجنوب انطلاقاً من أنها جهات فاعلة ثانوية، عليها أن تختار الوقوف إلى جانب طرف في عالم منقسم، ويجب أن يكون هذا الجانب هو الغرب. لكن هذا النهج بدأ يأتي بنتائج عكسية، بحسب خبراء ومحلّلين.
فدول الجنوب باتت تتمرد على تفرّد وأنانية أميركيين - غربيَّين في العمل الدولي. وأصبحت أكثر تقدّماً نحو وجهة نظر دولية خاصة، وأكثر ثقةً بالنفس، ولا يمكن للغرب أن يحبط مساعيها أو يصادر سيادتها.
اللافت أنّ الولايات المتحدة كانت تتبنّى نهجاً واحداً لقتل الثورات في مهدها، لكنّ ما فاجأ واشنطن، في نموذج الثورة الكوبية، هو درجة الوعي المجتمعي خلال الثورة، إذ رفع الشعب في وجهها شعارَي: الشّعب المسلّح، والشعب الذي يقاتل. كوبا لا تُعدّ علامة فارقة في تاريخ أميركا اللاتينية فقط، بل هي أيضاً رمز للأمل والإلهام لجميع أولئك الذين يناضلون من أجل الحرية وتقرير المصير في جميع أنحاء العالم.
على الرغم من كل محاولات عزلها، ومن أزمة اقتصادية تعيشها تُعدّ الأسوأ منذ ثلاثة عقود، ها هي كوبا اليوم تحتضن أحد أهمّ التجمعات السياسية، لتبعث رسالةً واضحة من هافانا إلى كل العالم وهي أنّها قادرة على إلهام دول الجنوب، بصمودها الطويل أمام كلّ الضغوطات الخارجية والداخلية.
تعقد كوبا على هذه القمة آمالاً كبيرة، كما تعقد القمة بدورها على كوبا آمالاً أيضاً، وسيكون لهذا الحدث أهمية كبيرة في الجهود المبذولة للمضي قدماً نحو نهجٍ موحّد بين بلدان الجنوب لمواجهة التحديات الكبرى، التي تواجهها على الصعيد الدولي.