في الذكرى الـ17.. كيف تجلت الملامح الأولى لانتصار تموز التاريخي؟

أراد الاحتلال "القضاء على المقاومة "في عدوان تموز عام 2006، إلا أنّه فشل فشلاً ذريعاً في ذلك.. كيف تجلّى نصر تموز منذ البداية؟ وكيف تعاظم بعد 17 عاماً؟
  • في الذكرى الـ17.. كيف تجلت الملامح الأولى لانتصار تموز التاريخي؟

لم يكد وقف إطلاق النار يُعلَن، بعد 33 يوماً من الحرب، حتى اكتظّت الشوارع اللبنانية، يوم الـ14 من آب/أغسطس 2006، بسيارات المواطنين المتوجهين من مختلف المناطق إلى قراهم ومدنهم، التي دمّر الاحتلال الإسرائيلي كل ما فيها.

وعلى الرغم من الدمار الذي لحق بالبنية التحتية، ونقص الإمدادات، والخطر من جراء القنابل العنقودية التي أسقط الاحتلال أكثر من 1.2 مليون منها، فإن السكان ساروا في مواكب احتفالية نحو قراهم، عابرين بقايا الجسور والطرقات التي طالها القصف، على مدى أكثر من شهر.

وفي الضاحية الجنوبية لبيروت، تحوّلت المباني إلى أكوام من الركام. ولم يعد للمواطنين أماكن صالحة للسكن، ولا مرافق للعمل أو الاستشفاء، إلا أنّ ذلك لم يَحُل دون عودة الأهالي، محتفلين بالنصر الذي حققته المقاومة.

يقول المعماري اللبناني، رهيف فياض، إنّه دُهش، بعد زيارته المناطق المجاورة لقلب حارة حريك المدَّمر، "بتدفق الناس المنتشرين في كل الأمكنة: في الدكاكين، وفي المتاجر، وفي المقاهي الصغيرة، وعلى الأرصفة، وفوق الشُّرفات". 

ويتابع فياض، الذي كان عضواً في الهيئة الاستشارية لمشروع "وعد": "غابت المدينة، كما يقول مسميليانو فوكساس، وعمّت الحياة الأمكنة. حياة صلبة، مقاومة، متفائلة".

  • مواطن لبناني على الركام الذي خلّفه القصف الإسرائيلي

قوبل الدمار الهائل والمعاناة الإنسانية اللذان خلّفهما العدوان الإسرائيلي على لبنان، باحتفالات شعبية عارمة، ضمّت الكبار والصغار، المحتشدين في السيارات والشاحنات والباصات، ومعهم أمتعتهم التي حرصوا التي إعادتها إلى أماكنها أيضاً.

ومشاهد اللبنانيين العائدين إلى قراهم، رافعين شارات النصر وأعلام لبنان وحزب الله، وصور أمينه العام، السيد حسن نصر الله، ومشاهد الحشود التي تجمّعت لسماع خطاب النصر في 22 أيلول/سبمتبر، ليست سوى واحدة من تجليات نصر تموز، الذي بدا واضحاً، منذ اللحظات الأولى، وتعاظم خلال الأعوام اللاحقة. 

"وعد" أعاد الناس إلى بيوتهم

هذا ما حدث إنسانياً واجتماعياً. أما مادياً، فحرصت المقاومة، في أعقاب توقف الحرب، على العودة السريعة للسكان، إلى أماكن إقامتهم وأعمالهم، بأقل التكاليف، فكان مشروع "وعد"، الذي أُطلق في أيار/مايو من عام 2007، ووصفه الباحث الأميركي سكوت بولينز، بأنّه "متجذر في الأعماق الاجتماعية والإنسانية في حياة المدينة التي يجري تخطيطها".

وواجه مشروع "وعد" عراقيل كثيرة أدت إلى أن تستغرق إعادة الإعمار نحو 5 أعوام. من هذه العراقيل، كانت صعوبة الحصول على خرائط كثير من الأبنية، الأمر الذي دفع إلى البحث عن مستندات بديلة. كما انسحبت الشركات الأجنبية من المناقصات، بسبب انتماء المشروع إلى مؤسسة "جهاد البناء"، التي صنّفت بعد الحرب، بموجب عقوبات أميركية، "إرهابيةً". 

استطاع "وعد" أن يحقق الهدف الأساس من إطلاقه: عودة الناس إلى بيوتهم. وبفضل المشروع، أعيد تشييد آلاف الشقق السكنية المهدّمة، وأُدخلت تحسينات كبيرة في مواصفات المباني، لتصير أكثر تلبيةً لشروط السلامة العامة، وأُضيفت مرائب للسيارات، كما زُوِّدت المباني بمولدات وآبار ارتوازية، مع تشجير بعض الطرقات والساحات العامة.

اقرأ أيضاً: تهديد السيد نصر الله بإعادة "إسرائيل" إلى العصر الحجري يتصدر إعلام الاحتلال

"إسرائيل" لم تفز باعتراف إعلامها

في مقابل مشهد الانتصار الذي حققته المقاومة في لبنان، كان الاحتلال الإسرائيلي مضطراً إلى التعامل مع إخفاقاته والخسائر التي تكبّدها، والتي لا تزال تشكّل هاجساً يلاحقه، إذ تستمر نتائج حرب تموز في إلقاء ظلالها الثقيلة عليه. وفي صحيفة "يديعوت أحرونوت"، قال ناحوم برنيع، إنّ "إسرائيل لم تفز"، واصفاً إعلان وقف إطلاق النار بـ"المدمّر والمضطرب".

لم يكن العدوان على لبنان مجرد "عملية قتالية برية محدودة"، كما قال المحلل الإسرائيلي بن كاسبي، في صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، بعد شهر من اندلاع الحرب. بدلاً من ذلك، كان ما يجري "حرب وجود مصيرية"، وكان للحدث قسوة مماثلة لما واجهه الاحتلال في حرب أكتوبر.

هذا التعبير في الإعلام الإسرائيلي يدلّ على حجم الهزيمة الكبيرة التي مُني بها الاحتلال، وهو ما لا يزال يعبّر عنه حتى الآن. ومؤخراً، عشية الذكرى الـ17 للانتصار، تحدّث الإعلام الإسرائيلي، عن أنّ تعاظم قدرة حزب الله، على مدى الأعوام الماضية، هو الإخفاق الأكبر، الذي لم ينجح أحد في معالجته. ويأتي ذلك في ظل تزايد الخوف الإسرائيلي من أي حرب قائمة مع المقاومة اللبنانية، يكون الاحتلال غير مستعد لها، وهو ما يبرزه الإعلام الإسرائيلي بصورة لافتة.

إعلام غربي: "نصر الله ربح الحرب"

أمّا في الإعلام الغربي، فوصفت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، في الـ14 من آب/أغسطس 2006، مقاومي حزب الله بـ"الاستثنائيين، الذين وقفوا في وجه الجيش الإسرائيلي مدة شهر في تلال جنوبي لبنان"، مشيرةً إلى "مزيج غير اعتيادي من الحماسة والعلوم العسكرية المنضبطة".

كما نقلت الصحيفة عن جندي إسرائيلي قوله: " إذا كنت تنتظر ظهور علم أبيض من مخبأ حزب الله، فيمكنني أن أؤكد لك أنّه لن يأتي". بدورها، قالت مجلة "ذا إكونومست"، في 17 آب/أغسطس 2006، إنّ السيد نصر الله "ربح الحرب"، مرفقةً هذه العبارة بصورة شاب يحمل صورةً للأمين العام لحزب الله.

  • غلاف مجلة "إكونوميست" في 17 آب/أغسطس 2006

تقرير "فينوغراد": أداء "الجيش" معيب

إخفاقات الاحتلال، التي ظهرت عند وقف إطلاق النار، تناولها "تقرير فينوغراد" بعد نحو عام على الحرب. أشار التقرير إلى الثُّغَر الأمنية والعسكرية التي شابت الأداء العسكري لقوات الاحتلال خلال عدوانها. وورد مصطلح "إخفاق" 156 مرة في التقرير، وهو ما يدل على الشعور الإسرائيلي بالهزيمة، ويؤكد عجزه عن التعافي من نتائج  الحرب.

رأى التقرير أنّ حرب تموز انطوت على "تفويت خطير"، وانتهت من دون تحقيق "انتصار عسكري واضح". ووفقاً له، كانت صورة الحرب الشاملة نتيجةً لجملة عوامل، هي التصرف "المعيب" للمستويين السياسي والعسكري والتعامل بينهما، والأداء "المعيب" من جانب "جيش" الاحتلال. 

اقرأ أيضاً: السيد نصر الله لقادة "إسرائيل": إذا اخترتم الحرب ضدّ لبنان.. فستعودون أيضاً إلى العصر الحجري

وحمّل التقرير "الجيش" الإسرائيلي مسؤولية الإخفاق "في توفير الرد العسكري الفعال" خلال الحرب، بسبب أداء القيادة العليا والقوات البرية، الأمر الذي أدى إلى الإخفاق في "توفير الإنجاز العسكري للمستوى السياسي". وأضاف التقرير أنّ "الجيش" يتقاسم هذه المسؤولية مع ضعف التلاؤم بين طريقة العمل والأهداف التي حدّدها المستوى السياسي.

ويرى محللون وخبراء أنّ حرب تموز جاءت لتكمل ما حققته المقاومة في أيار/مايو 2000 عند تحريرها الجنوب، وكسرها صورة "جيش" الاحتلال كـ"جيش لا يُقهَر". وهي، في الوقت نفسه، شكّلت مرحلةً مفصليةً أتاحت للمقاومة فرض معادلات جديدة وتحقيق الانتصارات حتى يومنا هذا.

المقاومة انتصرت.. والنصر يتعاظم

المقاومة عام 2006 جعلت الجبهة الداخلية الإسرائيلية جزءاً من الحرب، بعد أن كانت في منأى عن ذلك، كما أكد الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في خطابه في الذكرى الـ17 للانتصار. وبعد عام 2006، أضاف الاحتلال إلى عقيدته الأمنية عنصراً رابعاً يتمثّل بالدفاع والحماية، بحيث اضطر إلى التفتيش عن منظومات لاعتراض الصواريخ، كلّفته كثيراً من الجهد والمال.

واليوم، لا تزال معادلة الردع التي أسّسها انتصار تموز قائمةً، في مقابل تأكّل الردع لدى الاحتلال، الذي بات على خط الانحدار. وبعد أن أسقطت المقاومة مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الأميركي، عبر فرضها معادلة "ما بعد حيفا" خلال الحرب، رسمت أخرى جديدةً، هي "ما بعد كاريش"، بشأن النفط والغاز، عقب ترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة. وما بعد بعد كاريش، توجد مخازن السلاح النووي والذخر الاستراتيجي للعدو الإسرائيلي.

وبينما تستمر المقاومة في مسارها التصاعدي، أعلن الأمين العام لحزب الله فرض معادلات لحماية القدس والمسجد الأقصى، مؤكداً أنّ المس بأي منهما يعني حرباً إقليميةً، بالإضافة إلى تأكيده أنّ العدو لا يمكنه الاستفراد بساحة مقاومة من دون الأخرى، إذ إنّ استهداف إحداها يطال الجميع، الأمر الذي يشكل مصدر قلق عميق لدى قادة الاحتلال.

حدّد الاحتلال سقف انتصاره في القضاء على حزب الله في لبنان، إلا أنّه فشل في ذلك فشلاً ذريعاً. فلا المقاومة في لبنان انتهت أو سُحقت كما أريد لها، ولا حتى تراجعت بعد الحرب والدمار الذي حلّ بالبلاد. على العكس، استطاعت المقاومة أن تراكم قوتها، وتنتزع الانتصار، بعد بلوغها السقف الذي حدّدته هي، والذي يقضي بإعادة الجنديين اللذين أسرتهما عبر مفاوضات غير مباشرة.

واليوم، بعد 17 عاماً على الانتصار العظيم، ها هي المقاومة تستمرّ في فرض معادلاتها، وتعاظم انتصاراتها، بينما تتخبط "إسرائيل"، القلقة من أي تصعيد في جبهة الشمال، حيث يجول المقاومون، على مسافة صفر، وينصبون خيماً، لا يجرؤ الاحتلال على التحرك ضدها.

An error occurred while retrieving the Tweet. It might have been deleted.

اقرأ أيضاً: "خطير – معقول".. إعلام إسرائيلي يكشف سيناريو المواجهة في حرب محتملة مع حزب الله

المصدر: الميادين نت