المواجهة الروسية - الأطلسية تنتقل إلى البحر الأسود.. المنطقة على فوهة بركان

أصبح البحر الأسود منطقة خطرة جاذبة بشكل متزايد للتوترات العسكرية والجيوسياسية، لا سيما بعد قرار موسكو الشهر الماضي بإنهاء صفقة الحبوب.
  • صورة لقطع من البحرية الروسية في البحر الأسود (رويترز)

منذ اندلاع المواجهة الأطلسية - الروسية في أوكرانيا، نظر أطرافها الثلاثة إلى الصراع في المقام الأول على أنه حرب برية، وليس صراعاً بحرياً، لكن التطورات والأحداث المتسارعة في الآونة الأخيرة تؤكد يوماً بعد يوم بما لا يدع مجال للشك في أن "البحر" أصبح عنصراً رئيسياً في المعركة القائمة، وربما قد يولّد الشرارة الأولى لحرب شاملة لا تستثني الناتو نفسه.

وتبعاً لذلك، تقوم السفن الحربية الروسية بدوريات في البحر الأسود، وتطلق صواريخها على الوحدات الأوكرانية العسكرية، وتفرض عليها حصاراً فعلياً.

في المقابل، تعمل الطائرات من دون طيار الأوكرانية على تحميل المتفجرات خلسة وقذفها نحو الموانئ والسفن الروسية. أما في المجال الجوي للبحر الأسود، فتحلق طائرات الاستطلاع والمسيرات التابعة لحلف شمال الأطلسي وحلفائه فوق المياه الدولية للمنطقة لجمع المعلومات الاستخبارية المستخدمة لعرقلة عمليات موسكو العسكرية، حتى في الوقت الذي تملأ روسيا السماء بطائراتها الخاصة.

أهمية البحر الأسود لروسيا

لقرون عدة، كان البحر الأسود في قلب جهود روسيا لتوسيع نفوذها الجيوسياسي والاقتصادي، ما أدى إلى صدامات مع القوى العالمية الأخرى، بما في ذلك الحروب المتعددة مع الإمبراطورية العثمانية.

على الدوام، سهلت الموانئ على طول المياه الدافئة التجارة على مدار السنة؛ فموقع البحر الأسود أتاح لروسيا مكاناً لإبراز قوتها السياسية في أوروبا والشرق الأوسط وما وراءهما.

من هنا، ولسنوات، سعى الرئيس فلاديمير بوتين إلى زيادة نفوذ موسكو حول البحر الأسود وصب الأموال الحكومية على تطوير الموانئ الساحلية والمدن السياحية، إضافة إلى بناء القوة العسكرية الروسية في المنشآت البحرية في المنطقة، فكان أسطول موسكو الجنوبي.

الأكثر أهمية هنا أن الكرملين تمكن منذ العام 2022 من فرض هيمنته في حوض البحر الأسود، بعد نجاحه في إبعاد القوة البحرية الغربية من المنطقة، وتشمل سمات السيطرة الروسية التي تم تحقيقها حديثاً ما يلي:

1- هيمنة عسكرية غير متنازع عليها في هذا المسرح، باستثناء أطرافه الجنوبية، فضلاً عن منع أوكرانيا من الوصول إلى البحر واستخدامه لشن هجمات صاروخية على قوات الخصم في البر الرئيسي لأوكرانيا.

 2- إعلان مناطق الحظر في المياه الدولية (بحسب الظروف) والتدخل في التدريبات البحرية في المناطق الاقتصادية الخالصة للآخرين.

 3- إعادة رسم الحدود البحرية من جانب واحد بحكم الواقع، وفرض مراعاتها الضمنية من قبل الأطراف الأخرى، وتقييد حرية الملاحة بشكل انتقائي أو تنظيمها من جانب واحد بما يراعي المصالح الروسية.

4- إمكانية تقييد الصادرات الزراعية الأوكرانية من البحر الأسود إلى الأسواق العالمية، والضغط على الأطراف المعنية للوفاء بشروط موسكو للسماح بأحجام الصادرات المحدودة.

الوجود العسكري لحلف الأطلسي في البحر الأسود

بالمثل، يتمتع هذا البحر بالقدر نفسه من الأهمية لحلف شمال الأطلسي، إذ إن هناك 3 دول أعضاء في الناتو -تركيا ورومانيا وبلغاريا- تحدّ البحر الأسود نفسه مع 4 موانئ مهمة، وتوجد 5 دول شريكة للحلف في المنطقة، هي: أرمينيا وأذربيجان وجورجيا ومولدوفا وأوكرانيا.

وبالرغم من تلك الأهمية، انسحب الغرب الأطلسي من البحر الأسود مع نشوب الحرب، تاركاً الإمرة للروس حتى إشعار آخر. لذلك، لم تدخل أي سفينة حربية من دولة غير مطلة على البحر الأسود منذ كانون الأول/ديسمبر 2021، ولم تجر أيّ مناورات بحرية بمشاركة الغرب في هذا البحر بدءاً من تموز/يوليو من العام ذاته، وهذا بدوره يعدّ وضعاً استثنائياً نادراً للغاية في التاريخ الحديث. وبالتالي، بات أسطول البحر الأسود الروسي يتمتع بحرية عمل واسعة، وحوّل أوكرانيا عملياً إلى بلد غير ساحلي.

أسباب إخلاء الناتو للبحر الأسود

عملياً، هناك عدد من العوامل وراء إخلاء الغرب الأطلسي منطقة البحر الأسود لمصلحة روسيا يمكن تلخيصها بالآتي:

1- البيئة الخطرة التي خلقتها الأعمال العسكرية الروسية في البحر الأسود في الفترة التي سبقت الحرب وأثناءها.

2- سياسة الولايات المتحدة وحلفائها المتمثلة بتجنب الاتصال الحركي مع القوات الروسية بأي ثمن تقريباً.

3- قرار تركيا عقب اندلاع الحرب بمنع دخول السفن الحربية من الدول غير المطلة عبر مضيق البوسفور إلى البحر الأسود.

أكثر من ذلك، تشير وثائق قمة الناتو الأخيرة في فيلنيوس، والبيان الصادر عن اجتماع مجلس الناتو وأوكرانيا في 26 تموز/يوليو الفائت، إلى أن القوى الغربية المتحالفة لا تنوي في الوقت الحالي تغيير قرارها إبقاء سفنها الحربية بعيدة عن البحر الأسود، على أن الإجراء الوحيد الذي جرى اتخاذه لحفظ ماء وجه الناتو تمثل باستجابة الولايات المتحدة وحلفاء الأطلسي من الدول المطلة وغير المطلة على البحر الأسود للقيام بأنشطة المراقبة والاستطلاع ودوريات الشرطة الجوية وتطوير الدفاعات على الشاطئ.

هل يمكن أن ينفجر الصراع في البحر الأسود؟

في الواقع، أصبح البحر الأسود منطقة خطرة جاذبة بشكل متزايد للتوترات العسكرية والجيوسياسية، ولا سيما بعد قرار موسكو الشهر الماضي بإنهاء صفقة الحبوب، ثم استهدافها لاحقاً مواقع على نهر الدانوب على بعد بضع مئات الأمتار من رومانيا، العضو في الناتو، ما فاقم المخاوف من انجرار التحالف العسكري الغربي إلى صراع مع موسكو، إذ إن موقع هذا البحر يضع روسيا ودول الناتو في نوع من القرب الجغرافي -القابل للاحتكاك المباشر في أي لحظة- الذي لا يوجد في مسارح الحرب الأخرى.

وتعقيباً على ذلك، قال إيفو دالدر، سفير الولايات المتحدة السابق لدى الناتو الذي يدير مجلس شيكاغو للشؤون العالمية، "إن البحر الأسود الآن منطقة نزاع - منطقة حرب وثيقة الصلة بحلف الناتو مثل غرب أوكرانيا".

إضافة إلى ذلك، يؤدي الغرب الأطلسي دوراً مركزياً في تأجيج الصراع في البحر الأسود، من خلال تقديمه معلومات استخبارية لأوكرانيا في تلك المنطقة، إلى جانب شبكات جمع المعلومات الاستخبارية الواسعة الخاصة بالحلف، والتي تستخدمها كييف في اختيار أهدافها ضد روسيا.

ليس هذا فحسب، فقد زودت دول الناتو في الفترة الأخيرة أوكرانيا بأسطول من الطائرات المسيّرة الفعالة والحديثة التي عملت كييف على استخدامها لمهاجمة الأسطول البحري الروسي، وقبلها جسر القرم وأهداف داخل الأراضي الروسية، حيث ضربت سفينتين روسيتين في نوفوروسيسك في 4 آب/أغسطس الحالي. كما أصدرت أوكرانيا تحذيراً من أن 6 موانئ روسية على البحر الأسود ستعتبر مناطق "خطر الحرب" حتى إشعار آخر.

تداعيات الصراع في البحر الأسود على أسواق الطاقة العالمية

يمكن أن يكون لمعركة السيطرة على البحر الأسود تداعيات على أسواق الطاقة العالمية والإمدادات الغذائية العالمية؛ فقد أدى هذا الصراع أيضاً إلى تصعيد المخاوف بشأن ارتفاع أسعار النفط الذي قد يصدم الاقتصاد العالمي، بالنظر إلى الموقع الجيوسياسي الفائق الأهمية لهذا البحر، إذ ينتقل أكثر من 3% من النفط العالمي عبره.

ويمر تاريخياً نحو 750 ألف برميل من النفط الخام الروسي أو 20% من صادراتها الخام عبر البحر الأسود، مع أن البلاد خفضت هذه الشحنات إلى ما بين 400 ألف و575 ألف برميل يومياً، بهدف دعم الأسعار مع شريكها السعودية. كما أدت العمليات العسكرية إلى توقف الصادرات الزراعية الأوكرانية التي تعبر هذا البحر، والبالغة نحو 46.7 مليون طن، حتى 12 حزيران/يونيو الماضي.

في المحصّلة، صحيح أن الناتو يرغب علناً في تجنب المواجهة المباشرة مع روسيا، غير أن مخاطر وقوع حادث غير مقصود قد يخرج عن نطاق السيطرة ترتفع مؤشراته مع احتدام المواجهة العسكرية في البحر الأسود، والمرشحة إلى التصاعد أكثر فأكثر.

المصدر: الميادين نت