أزمة النيجر.. بين خسارة الولايات المتحدة والنقمة على فرنسا

يقف الغرب وعلى رأسه أميركا وفرنسا في حيرة من أمره في كيفية التعامل مع المجلس العسكري في النيجر، فهو من جهة غير قادر على إعادة حليفه المعزول إلى السلطة، ومن جهة أخرى، لا يمكنه اللجوء لسلاح العقوبات.
  • أزمة النيجر.. بين خسارة الولايات المتحدة والنقمة على فرنسا

بعيداً عن الاتهامات لروسيا والتحذيرات من سقوط منطقة الساحل الأفريقي "تحت نفوذ موسكو"، والتي كان أطلقها رئيس جمهورية النيجر المعزول محمد بازوم، الحليف الموثوق والأقرب إلى الغرب، وتحديداً للولايات المتحدة. لا يزال المشهد السياسي والأمني في تلك الدولة، ضبابياً بعد الإطاحة ببازوم، وسيطرة المجلس العسكري على مقاليد الحكم، وسط تخبّط واشنطن وباريس في كيفية التعامل مع الوضع المستجد، وقلقهما المتصاعد من خسارتهما لهذا البلد الذي يضم قواعد عسكرية أميركية وفرنسية، فضلاً عن احتوائه ثروات معدنية ثمينة.

من هنا، يمكن القول، إنّ الأزمة في النيجر دخلت مرحلة مختلفة على الصعيد الدولي والأفريقي، ولا سيما أن البلاد تشتهر باليورانيوم الخام، الذي من المرجّح أن يتحوّل إلى مادة للصراع المستقبلي بين الأقطاب الكبار في العالم.

قصة النيجر مع اليورانيوم

يُعد الخام المشعّ من الصادرات الرئيسية للنيجر. فعلى مرّ العقود، خطفت تلك الدولة الأضواء العالمية، ولا سيما عندما زُجّ اسمها من قبل واشنطن في العام 2003، عبر فبركة وتضليل معلومات استخبارية مُختلقة وكاذبة حول شراء عراقي محتمل لـ 500 طن من اليورانيوم النيجيري "الكعكة الصفراء"، كانت قد استخدمت كذريعة لشن غزو همجي "استباقي" على العراق، نجم عنه قتل وجرح مئات الآلاف من الأطفال والمدنيين الأبرياء وتدمير البلاد.

أكثر من ذلك، تصنّف النيجر سابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم، وهي تمتلك خامات اليورانيوم عالية الجودة في أفريقيا، وتُعدّ أحد المصدّرين الرئيسيين لليورانيوم إلى أوروبا، وفرنسا، المستعمر السابق للبلاد، والمستورد الرئيسي لليورانيوم من النيجر، الذي يساعد في تشغيل الصناعة النووية المدنية الفرنسية الضخمة.

علاقة فرنسا باليورانيوم في النيجر

في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، اكتشفت حملة استعمارية فرنسية اليورانيوم في النيجر، خلال بحثها عن النحاس في هذا البلد. ولاحقاً وضعت الشركات الفرنسية وتحديداً "شركة أورانو" للطاقة النووية المدعومة من الدولة، المعروفة سابقاً باسم "أريفا"، يدها على تلك الثروة الطبيعية في البلاد واحتكرتها لمدة نصف قرن.

تمتلك أورانو حصصاً كبيرة في 3 مناجم لليورانيوم في النيجر، على الرغم من تشغيل واحد فقط. تقع المناجم في أقصى شمال العاصمة نيامي، بالقرب من الحدود الترابية مع الجزائر.

لكن الأكثر أهمية هنا، هو أنه في جزء من العالم شديد الحساسية للإرث الاستعماري الفرنسي، يمكن أن يكون استخراج اليورانيوم قضية مشتعلة. إذ وثّق المراقبون البيئيون على مرّ السنين حوادث ناتجة عن الإهمال وسوء المعالجة (من قبل فرنسا) لهذه المادة الفائقة الخطورة، حيث تُركت مستويات خطيرة من النفايات المشعّة بين السكان المحليّين الذين يعيشون بالقرب من المناجم. 

وفي وقت سابق من هذا العام، وجد المحقّقون المقيمون في فرنسا، أن 20 مليون طن من النفايات المتبقيّة بالقرب من منجم مستنفد مؤخراً، تنشر غازاً إشعاعياً مميتاً يُعرف باسم الرادون، ويتسبّب بتلويث المياه الجوفية، فضلاً عن أنه يعرّض للخطر أكثر من 100 ألف شخص، يعيشون في المجتمعات المدنية المجاورة.

احتكار باريس لليورانيوم

قبل عقد من الزمن، عمدت شركة أورانو إلى خفض العوائد التي منحتها للنيجر مما أثار غضب الأخيرة، ودفع حكومتها إلى الدخول في مفاوضات مطوّلة مع شركة أورانو لصياغة عقد جديد.

ونظراً إلى الغبن اللاحق بالنيجر نتيجة التسلّط الفرنسي وسرقتها لثروات هذه الجمهورية الصغيرة، سلّطت منظمة أوكسفام (مجموعة مناصرة دولية) الضوء على الصدام، بين واحدة من أفقر دول العالم، وأورانو، ووصفته بأنه صراع "طالوت ضد جالوت".

اللافت للانتباه، أنه في السنوات التي تلت ذلك النزاع، لم تكتفِ الشركة الفرنسية بممارسة الاحتكار، بل إنها أيضاً تورّطت في قضايا فساد. 

مستقبل الاحتكار الفرنسي لليورانيوم

بالنظر إلى حالة عدم اليقين السائدة في الوقت الحالي، فإن أسئلة جديدة تحيط بصناعة اليورانيوم في النيجر مثل: ماذا سيحدث لمصالح فرنسا؟ هل ستعثر الدول الأخرى، بشكل رئيسي روسيا، على تسوية مع المجلس العسكري والامتيازات في الموارد الطبيعية؟ أمّا الإجابة فيمكن تلخيصها بالآتي:

على الرغم من أن الخارجية الفرنسية حاولت في بيان التخفيف من وقع ما قد يحصل في المدى المنظور، بتأكيد أن "انخفاض اليورانيوم من النيجر سيكون له تأثير ضئيل، لأن إمداداتنا متنوّعة للغاية"، إلا أن بعض المحلّلين الغربيين، أشاروا إلى أن المأزق قد يكون له نوع من تأثير كرة الثلج، مما يجبر الحكومات الأوروبية على إعادة النظر في المزيد من الإجراءات العقابية ضد روسيا، أحد أكبر مصدّري اليورانيوم في العالم. وجزم هؤلاء أنه يمكن أن تكون لها عواقب على مستوى الاتحاد الأوروبي ككلّ.

وتعليقاً على ذلك، قال فوك فينه نجوين، خبير الطاقة في معهد جاك ديلور في باريس، لصحيفة بوليتيكو: "اليورانيوم، والطاقة النووية بشكل عام، لا يزال غير خاضع للعقوبات" وأضاف "إذا ساء الوضع في النيجر فإن هذا سيعقّد بالتأكيد تبنّي عقوبات على اليورانيوم الروسي على المدى القصير".

ما تجدر معرفته هنا، أنه قبل الأحداث الأخيرة في النيجر، كانت الأخيرة تستكشف بالفعل خيارات للاستثمار في الطاقة، بما في ذلك إنشاء منجم يورانيوم جديد مع الصين. 

أهمية النيجر بالنسبة للولايات المتحدة

تعتبر النيجر شريكاً موثوقاً لواشنطن في القارة السمراء. فمنذ العام 2012، أنفقت الولايات المتحدة 500 مليون دولار لتدريب وتسليح القوات المسلحة في النيجر، كما يوجد نحو 1100 جندي أميركي في تلك الدولة، كثير منهم من الكوماندوز للتدريب وتقديم المشورة للقوات الخاصة.

علاوة على ذلك، في العام 2019، افتتح البنتاغون قاعدة جديدة للطائرات من دون طيار في مدينة أغاديز في النيجر، زاعماً أن مهمتها تنحصر بضرب الجماعات الإرهابية في جميع أنحاء غرب وشمال أفريقيا. 

وإذ كانت هذه المنشأة التي تستضيف طائرات MQ-9 Reaper من دون طيار، كلّفت 100 مليون دولار أميركي لتشييدها ونحو 30 مليون دولار للصيانة، فإن مصير القاعدة حالياً معلّق على المحك: قد تُجبر القوات الأميركية بموجب القانون على المغادرة، أو قد ترغمها الحكومة الجديدة على الرحيل.

كيف تتعامل واشنطن مع أحداث النيجر؟

تتوخّى القوى الغربية، وعلى رأسها فرنسا والولايات المتحدة، مزيداً من الحذر في التعامل مع الحالة القائمة، حرصاً على عدم تأجيج نيران المشاعر المعادية للغرب التي اندلعت بعد الانقلابات في بوركينا فاسو ومالي المجاورتين.

فالوضع صعب بالنسبة إلى الرئيس الأميركي جو بايدن ومساعديه، ناهيك عن أعضاء الكونغرس وغيرهم ممن يريدون استخدام المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأميركية بروية. إذ لا ترغب وترفض إدارة بايدن حتى الآن تصنيف ما حدث في النيجر رسمياً على أنه "انقلاب"، لأن هذا الوصف من شأنه أن يؤدي إلى إعاقة فورية للمساعدات الأمنية التي تقدّمها واشنطن لدولة، يُنظر إليها على أنها حصن ضد التهديدات الإرهابية، والنفوذ الروسي الطارئ في البلاد. 

وتعقيباً على ذلك قال كاميرون هدسون، رئيس الأركان السابق للمبعوث الأميركي الخاص للسودان، لصحيفة "وول ستريت جورنال": "إنها ضربة قوية للولايات المتحدة"، مضيفاً أن "النيجر قد ذهبت الآن... بحزم من المعسكر الغربي، إلى نموذج للانتهازية الروسية".

في المحصّلة، يقف الغرب وعلى رأسه أميركا وفرنسا في حيرة من أمره في كيفية التعامل مع المجلس العسكري في النيجر. فهو من جهة غير قادر على إعادة حليفه المعزول إلى السلطة، ومن جهة أخرى، لا يمكنه اللجوء لسلاح العقوبات، كون ذلك سيدفع المجلس العسكري إلى حضن أي من هذه الدول الثلاث: روسيا أو الصين أو إيران. وهذا آخر ما تريده باريس وواشنطن.

المصدر: الميادين نت