حرب تموز.. أيّ أثر تركته في النظام الدولي الجديد؟

شكّلت حرب تموز 2006 منعطفاً تاريخياً لافتاً في إطار الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، فأيّ أثر تركته في النظام الدولي الجديد القائم على التعددية لا الهيمنة والاستفراد الأميركي؟
  • حرب تموز.. كيف ساهمت في إعادة تشكيل النظام الدولي الجديد؟

"ما نشهده في لبنان هو آلام مخاض لولادة شرق أوسط جديد... ويجب أن نكون على يقين بأننا ندفع نحو شرق أوسط جديد، ولن نعود إلى القديم". 

وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس - تموز/يوليو 2006

من "تل أبيب"، وفيما كان الاحتلال الإسرائيلي يشن عدوانه على لبنان، خرجت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس للإعلان مجدداً عن مشروع بلادها لإعادة رسم المنطقة، مطلقة عليه تسمية "الشرق الأوسط الجديد".

شكّلت حرب تموز أولى ركائز هذا المشروع، فالقضاء على حزب الله سوف يثبت الانتصار الأميركي في لبنان، ويضعف حليفته سوريا، ويمهد الطريق من دون تردد أمام الخيار العسكري للتعامل مع إيران. وبهذا، تكون الحرب هي مخاض "ولادة شرق أوسط جديد".

فشل هذا الخيار دفع غرف القرار الأميركي إلى الاستعداد للجولة الثانية بضرب ركائز المقاومة، فكان الاختيار لسوريا عبر شن حرب دولية عليها عبر الاستعانة بالجماعات التكفيرية والعراق مجدداً باستخدام ورقة "داعش" وأخواته، فيما تلخصت الجولة الثالثة باستهداف إيران عبر زيادة الضغوط الاقتصادية عليها وبسياسة الاغتيالات، والرابعة ما يشهده لبنان منذ سنوات من حرب اقتصادية ظالمة.

حرب تموز.. إجهاض للمشروع الأميركي الأكبر

لا يمكن فصل حرب تموز 2006 عن أحداث أيلول/سبتمبر 2001، والغزو الأميركي للعراق 2003، واحتلال أفغانستان 2001، إذ إنها تأتي في سياق المخطط الأميركي لإعادة تشكيل النظام الدولي وفقاً للطموحات الأميركية، والذي يقوم في أساسه على حماية مصالحها ومصالح "إسرائيل"، من خلال تفتيت المنطقة وتقسيمها والتحكم في قراراتها وجعلها مستعمرات أميركية بهدف السيطرة على منابع النفط فيها، باعتباره إحدى أهم وسائل التحكم وأدواته في موازين القوة في النظام العالمي، وضمان أمن "إسرائيل"، وإزاحة أو ضعضعة النظم المعادية للسياسة الأميركية في المنطقة.

وفي إطار مشروعها الأكبر للهيمنة، أتت حرب تموز 2006 أو حرب "تدمير لبنان"، كما وصفها الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك، والتي لا تختلف كثيراً عن حرب تدمير العراق، وكان هدفها الأساسي والمعلن هو القضاء على حزب الله ونزع سلاحه، ومن ثم تدمير لبنان اقتصادياً ومحاولة تفتيته، وذلك في محاولة لرسم الخريطة الجيوسياسية الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط.

أرادت الإدارة الأميركية الاستفادة من حضورها العسكري الإقليمي الكبير بعد أحداث أيلول/سبتمبر، فكانت حرب تموز إحدى أهم حلقات مشروعها الأوسع والأشمل لحرب العراق، فالقضاء على القوى المعارضة لأهدافها التوسعية يعدّ ركيزة أساسية للمضي في مخططها التقسيمي للمنطقة.

المتفحص جيداً في أسباب الحرب يدرك جيداً أنّها ليست محلّ مصادفة، ولا تتعلق بقيام المقاومة الإسلامية -حزب الله بأسر الجنديين الإسرائيليين فحسب (وإن كانت هذه العملية سرّعت وأفشلت عنصر المفاجئة والمباغتة للعدو)، بل تمّ الإعداد لها منذ سنوات بعد فشل المؤامرات والخطط الأميركية السابقة في القضاء على حزب الله، سواء عبر القرار الفرنسي - الأميركي المشترك 1559 أو محاولة تسييس قضية اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري لتأليب الرأي العام الداخلي ضد حزب الله وسوريا.

وبعدما فشلت في نزع سلاح حزب الله والسلاح الفلسطيني داخل المخيمات الفلسطينية وخارجها، بفضل الأرضية السياسية الداخلية التي أمّنها تحالف المقاومة بالتنسيق والتعاون مع القوى الأخرى المعادية للنفوذ الغربي، والتي قضت باستحالة تنفيذ المشروع الغربي بنزع سلاح حزب الله إلا في إطار تفاهم وطني لبناني، كانت الخطوة التالية باللجوء إلى الضربة العسكرية.

وعلى الرغم من أن "إسرائيل" لم تكن مضطرة إلى القيام بحرب شاملة في أعقاب ذلك، فإنها، ولأسباب كثيرة، منها إعادة الاعتبار إلى هيبة "جيشها" بعد الاندحار المذل من لبنان في العام 2000، وإلى قدرته على الردع التي تتراجع منذ حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، مروراً بالانتفاضة والمقاومة في لبنان، فقد فضّلت توظيف الأزمة لتنفيذ خطط مرسومة سابقاً مع الولايات المتحدة لتغيير قواعد اللعبة في المنطقة برمتها، وهذا ما كشفه تقرير "سايمور هيرش" المنشور في صحيفة "نيويوركر" وتقرير "واين ماديسون".

وقد ورد في هذا التقرير بعض التفاصيل عن اللقاء الذي جمع كلاً من نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني ورئيس وزراء الاحتلال آنذاك إيهود أولمرت، إضافةً إلى ثلاثة وزراء إسرائيليين سابقين، هم بنيامين نتنياهو وإيهود باراك وبيريس، بحضور النائب ناتان شيرانسكي، وتمّ  فيه وضع اللمسات الأخيرة لعدوان تموز/يوليو، الذي كان يرمي إلى تدمير حزب الله عسكرياً بصورة نهائية.

نتائج الحرب.. أعادت تشكيل النظام الدولي الجديد

سقوف عالية وضعتها الإدارة الأميركية منذ اليوم الأول للحرب، أبرزها القضاء على حزب الله وترسانته العسكرية، فالقضاء على المقاومة الإسلامية، كما ذكرنا سابقاً، سيمهد الطريق أمام مشروعها الاستعماري الأكبر الذي تعثر بالعراق بفعل المقاومة العراقية الشرسة ضد الاحتلال الأميركي، فكان لا بد من استعادة هيبة الرّدع الأميركية التي تأكلت في بلاد الرافدين.

ويلاحظ هنا كيف برز الدعم الأميركي المطلق لـ"إسرائيل" خلال حرب تموز/يوليو، عبر تأكيد الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الابن أن "إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها"، ­والمطالبة بانسحاب حزب الله إلى مسافة 20 كم بعيداً عن الحدود اللبنانية الفلسطينية المحتلة، وإطلاق سراح الجنديين الإسرائيليين، إضافة إلى قبول نشر قوات دولية في لبنان على طول الحدود اللبنانية مع الأراضي الفلسطينية ومع سورية، ناهيك بمد الاحتلال بجسر جوي عسكري، وعرقلة الجهود الدولية والإقليمية للوقف الفوري والسريع لإطلاق النار في لبنان، وحشد الداخل اللبناني ضد حزب الله، وحشد الرأي العام الدولي، لكي يُتاح لها التدخل لفرض الشروط لإقامة ما يسمى"الشرق الأوسط الجديد".

بعد 33 يوماً، انتهت الحرب من دون أن تحقق الولايات المتحدة و"إسرائيل" أياً من أهدافهما. ولعل ما قاله الرئيس السوري بشار الأسد في خطابه الشهير في دمشق 15 آب/أغسطس 2006 بعد انتهاء حرب تموز مباشرة يكشف حجم المؤامرة العالمية التي كانت تحاك للمنطقة. الرئيس السوري أعلن حينها انتصار سوريا وخروجها من التهديدات المباشرة التي أحاطت بها على مدى 6 سنوات، والانتقال إلى خارطة جديدة للمنطقة، استعادت فيها دورها الإقليمي كرقم صعب لا يمكن تجاوزه.

شكّلت حرب تموز نقطة تحول استراتيجي في تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، نظراً إلى نتائجها القاسية على كيان الاحتلال، والتي تمثلت في سقوط مشروع "إسرائيل" الكبرى، ونظرية "الأمن القومي" الإسرائيلي، ونظرية تكنولوجيا السلاح، وفشل منظومة الدفاع الاعتراضية، وعجزها عن تحقيق أي انتصار في أي حرب جديدة، وهذا ما أكدته حروبها الفاشلة والمتكررة في غزة والمقاومة الشرسة في الضفة الغربية، ناهيك بما أجهضته من محاولات الاحتلال للترويج لـ"سلام" وهمي، إذ وجدت "إسرائيل" نفسها غير قادرة على التقدّم بعمليّة "السلام"، ما أسقط أي رهان على تسوية للقضية الفلسطينية بشروط إسرائيلية. 

وإذا كانت حرب 1973 قد أعادت الكرامة إلى الجيوش العربية وكسرت مقولة "الجيش الذي لا يُقهر"، فإنّ حرب تموز 2006 أثبتت أنّ بيته أوهن من بيت العنكبوت.

نجح لبنان مرسخاً معادلة "قوة لبنان في قوته"، مانحاً إياه ورقة تفاوض في المحافل الدولية يُحسب لها حساب، واضعاً حداً لمشروع استعماري غربي، ونجحت مقاومته في قلب معادلة "كيّ الوعي" التي نادى بها رئيس أركان "الجيش" الإسرائيلي الأسبق موشيه يعلون، وجعلتها معادلة لـ "كيّ وعي" الإسرائيليين.

ولا شك في أن ما يعيشه الاحتلال من أزمات داخلية اليوم، وخصوصاً على مستوى المؤسستين الأمنية والعسكرية، وعدم ثقة الرأي العام الإسرائيلي بقيادته، ليس سوى امتداد لمفاعيل حرب تموز التي شُكّلت لأجلها أكثر من 50 لجنة تحقيق في التقصير (توّجتها لجنة فينوغراد بما توصّلت إليه من حقائق واستنتاجات كارثية بالنسبة إلى "إسرائيل"، إلى حدّ دفع السلطات إلى الكتمان وعدم إعلان قسم كبير منها). 

وفي مقابل ما تعيشه "إسرائيل" اليوم من تخبطات داخلية وتوتر في العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية وعزلة دولية، يلاحظ الصعود اللافت لقوى المقاومة في المنطقة (الممتد من فلسطين إلى لبنان إلى سوريا والعراق وإيران واليمن)، سواء من خلال تثبيتها لمعادلات الردع، أو من خلال تنامي قدراتها العسكرية، أو توثيق تحالفاتها الدولية والإقليمية، فسوريا التي أريد تدميرها تشهد اليوم عودة عربية لافتة، وكذلك إيران والتقارب الخليجي نحوها، وهو ما يشكّل إجهاضاً للمشروع الغربي القائم على "الفوضى الخلاقة".

انتصارات محور المقاومة المتتالية وتحالفاتها مع القوى الدولية المناهضة للاستكبار مع روسيا والصين وأفريقيا وأميركا اللاتينية، جعلت منها قوة وازنة لها تأثيرها المباشر في تشكيل النظام الدولي الجديد القائم على التعددية والبعيد عن التفرد والهيمنة الأميركية التي نشأت وتغلغت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، فالبيئة الاستراتيجية الجديدة أعادت ترتيب مواقع التأثير والقوّة الإقليميين والدوليين.

"في ظل هذه الظروف تشهد المنطقة تعدداً للأقطاب، بدلًا عن نظام القطب الواحد، ومن شأن الشرق الأوسط متعدد الأقطاب أن يفتح الباب على مصراعيه أمام قواعد جديدة للعبة السياسية..  الدور الأميركي بات يتضائل رغم وجوده وفعاليته، في مقابل صعود منافسي واشنطن".

 

وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كسينجر لصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية 16 آذار/ مارس 2023

اقرأ أيضاً: حرب تموز 2006 وإخراج دمشق من الفِخاخ

المصدر: الميادين نت