رحلة تهريب الأسلحة من تكساس إلى مكسيكو.. هكذا تساهم الولايات المتحدة في قتل المكسيكيين
منذ عقود طويلة، وجمهورية المكسيك تشهد موجات هجرة متتالية ومتواصلة، بحيث يتدفق منها مئات المهاجرين يومياً نحو الحدود الأميركية، هرباً من الاوضاع الاقتصادية والأمنية المتردية، ولا سيما أن تلك الدولة تحوّلت إلى مسرح ومرتع للعصابات والمافيات المدجَّجة بالأسلحة المستوردة من الولايات المتحدة.
هذا الخبر قد يبدو عادياً، لكن المفارقة هنا أن واشنطن، التي تجهد لإعادة مئات المهاجرين المكسيكيين ودفعهم عن حدودها، تُعَدّ في الوقت ذاته شريكاً أساسياً في تنامي ظاهرة الجريمة المنظَّمة والهجرة المتصاعدة، نظراً إلى الدور الكبير الذي تؤديه الشركات الأميركية المصنِّعة للسلاح في هذا الأمر.
ما العلاقة بين أميركا وازدياد الجرائم في المكسيك وهجرة مواطنيها؟
عملياً، ثمة ترابط مباشر بين العنف والقتل وتهريب المخدرات في المكسيك، والأزمة القائمة عند الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، ومعضلة الأسلحة الأميركية الخارجة عن السيطرة في بلاد العام سام، التي تتحمل جزءاً كبيراً من معاناة المكسيكيين، وحتى إزهاق أرواحهم وزيادة بؤسهم، الذي بات يتسع مع الزمن شيئاً فشيئاً.
صحيح، قد يُعَدّ الفقر والفساد، وربما قلة فرص العمل وغياب العدالة الاجتماعية، من الدوافع الرئيسة إلى الهجرة في المكسيك، لكنّ العنف الناجم عن سطوة رجال العصابات والمافيات، والحروب المتنقلة فيما بينهم، كلها عوامل تدفع المكسيكيين إلى ترك ديارهم من أجل حفظ رؤوسهم من القتل أو التشريد.
من هنا، يُضطر كثير من الناس في المكسيك إلى الفرار نحو مناطق داخلية ثانية، بينما يختار آخرون الهجرة، خوفاً من أن يتم تجنيد أبنائهم (القاصرين) من جانب العصابات، أو خشية أن يكونوا التالِين في اللائحة، بعد تعرض أفراد أسرهم للتهديد، أو الإخفاء أو القتل. لذلك، يغادرون نهائياً بلدهم، ويقدّمون طلب اللجوء في أميركا، ويتحولون إلى لاجئين.
لكنّ ما تجدر معرفته والتوقف عنده أن هذا العنف القائم في تلك الدولة، والذي يفرّ منه مواطنو المكسيك، لم يكن ليغدو ممكناً ومزدهراً إلّا بسبب البنادق التي صنعها الأميركيون، إذ ضَعْ في حسابك أن أغلبية الأسلحة، التي تستخدمها عصابات الجريمة المنظمة في المكسيك، لا تأتي من المتاجر في تلك الدولة، بل من الولايات المتحدة الأميركية حصراً.
أمّا خير شاهد على هذا الأمر فإيفا جوسونيت (عالِمة أنثروبولوجيا في جامعة براون، أستاذة في هذا المجال وكذلك في الأمن الدولي)، التي روت لصحيفة "واشنطن بوست" محنة المكسيكيين مع الهجرة إلى أميركا، وتوصلت إلى الأسباب الكامنة وراء اختيارهم هذا الطريق المليء بالمخاطر بعد أن توجّهت كمسعفة إلى الجدار الحدودي لإدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، والذي يبلغ ارتفاعه 20 قدماً. ومن تلك المنطقة، أوضحت "أن كثيرين من هؤلاء الناس يفرون من المكسيك بسبب العنف الذي تفرضه البنادق الأميركية". وبعد سؤالها عن كيفية حلّ هذه المشكلة، أجابت: في أميركا، علينا تقليل الطلب على المخدرات. وكذلك المعروض من البنادق.
الجدير بالذكر أن أكثر من 100 مهاجر لقوا حتفهم بسبب الحر هذا العام على طول الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك. وتعليقاً على ذلك، كشف رئيس دورية الحدود الأميركية، جيسون أوينز، في تغريدة له في تويتر، في 5 تموز/يوليو الحالي، وفاة 13 في الأسبوع الأول من تموز/يوليو الحالي وحده.
رحلة السلاح من الولايات المتحدة إلى المكسيك؟
في الحقيقة، تبدأ رحلة تهريب السلاح من تكساس، ومن هناك تسلك البنادق دربها إلى المكسيك، بسبب صعوبة شراء سلاح بصورة قانونية في مكسيكو. ففي السابق، بحسب إيفا جوسونيت (أجرت بحثاً عن موضع السلاح والهجرة إلى أميركا)، كان هناك متجر أسلحة واحد في البلاد، بينما هناك الآن اثنان.
اللافت للانتباه أن عملية التهريب هذه تنفَّذ وفق الطريقة نفسها التي تأتي بها المخدرات إلى الولايات المتحدة. ففي البداية، يشتري المواطنون الأميركيون السلاح من تكساس وأريزونا، وفي المرحلة الثانية، يقومون ببيعه للمهربين الذين ينقلونه عبر الحدود، بحيث يُعمل على إخفائه أو تخبئته في المقصورات، أو في أبواب السيارات، أو في الأثاث، أو في الشاحنات المتّجهة إلى المكسيك.
مَن الفئات المكسيكية الأكثر شراءً للأسلحة الأميركية؟
في الحقيقة، تتوزع الأسلحة المستوردة من الولايات المتحدة على فئتين اثنتين:
الاولى، تتمثل بتجار الهيرويين ومخدّر "الفنتانيل"، بالإضافة إلى مجموعات المجرمين الذين يتنافسون ضد بعضهم البعض، فيعمدون إلى بيع بضاعتهم (أي المخدرات) في الولايات المتحدة، ثم يستخدمون الأموال التي يحصلون عليها لشراء الأسلحة،
بينما تتألف الفئة الثانية من المكسيكيين المرعوبين من العنف الرائج في البلاد، وهؤلاء، نظراُ إلى عدم استطاعتهم الذهاب إلى الشرطة للحصول على المساعدة، يبادرون إلى شراء السلاح، طلباً لحماية أنفسهم وعائلاتهم من غارات المجرمين.
بناءً عليه، تنحصر هذه الفئة في أصحاب الأعمال الصغيرة، والذين يعيشون في خوف دائم من الابتزاز، و"لا سيما أن أفراد العصابات (المجرمين) المتناحرين، يذهبون إلى المزارعين - الأفوكادو والمانغو - ويطالبون بحصة كل شهر لحمايتهم من المجموعات الأخرى". وفي حال لم يتم الدفع إليهم، يسارعون إلى تهديدهم، أو يقومون بخطف أطفالهم.
أمّا البنادق، التي يشترونها، فتتركز في الغالب في الأسلحة الفردية الهجومية، وهي تشمل الطرازات التالية: AR-15s، AK-47s، وبنادق قنص من عيار 50 ملم، ومسدسات من عيار 9 ملم، ومسدسات سوبر 38، بالإضافة إلى مسدسات من عيار 45.
ما حجم كميات السلاح الأميركي التي تدخل المكسيك؟
في المكسيك، يكاد يكون من المستحيل على المواطنين شراء سلاح بصورة قانونية. وفقاً للحكومة، فإن متجر الأسلحة النارية الوحيد يملكه الجيش، ويصدر أقل من 50 تصريحاً سنوياً. لكن هذا لم يمنع ملايين الأسلحة النارية من التداول في جميع أنحاء البلاد، بحيث يتم تهريب ما يقدر بنحو 200 ألف قطعة سلاح ناري بطريقة غير قانونية من الولايات المتحدة كل عام، وفقاً للحكومة الأميركية.
والأكثر أهمية أن ما بين 70٪ و90٪ من الأسلحة النارية، التي تم العثور عليها في مسرح الجريمة في المكسيك، تعود إلى الولايات المتحدة (استنادا لوزارة الشؤون الخارجية المكسيكية) زد على ذلك، أنه في عام 2020، كان هناك 24617 جريمة قتل بسلاح ناري في المكسيك.
وتعقيباً على ذلك، قال كارلوس بيريز ريكارت، أستاذ العلاقات الدولية في مركز البحوث الاقتصادية والتدريب في مكسيكو سيتي، إن كل أمن الحدود الأميركي موجَّه نحو وقف المخدرات من دخول الولايات المتحدة، وليس تحديد الأسلحة المتجهة جنوباً. وأضاف أن "خلية واحدة من ثلاثة أو أربعة أشخاص نقلت بين 300 و400 قطعة سلاح إلى المكسيك كل عام. لا توجد مشكلة".
وماذا بشأن موقف الحكومة المكسيكية؟
يؤكد المسؤولون المكسيكيون أن جزءاً كبيراً من وباء العنف والجريمة، والذي ابتُليت به بلادهم في العقود الأخيرة، مدفوع بالإتجار غير المشروع بالأسلحة من الولايات المتحدة.
وانطلاقا من هذه النقطة، رفعت الحكومة المكسيكية دعوى قضائية ضد عدد من مصنّعي الأسلحة وموزّعيها في الولايات المتحدة، في آب/أغسطس 2021، في محكمة اتحادية أميركية في بوسطن، معلِّلة السبب بأن ممارساتهم التجارية المهملة وغير القانونية أطلقت العنان لإراقة دماء هائلة في المكسيك.
وجادلت الحكومة حينها، وقالت إن الشركات تعرف أن سلوكها يساهم في تهريب الأسلحة إلى المكسيك وتسهيلها. وطالبت بتعويض من الخراب والدمار اللذين أحدثتهما البنادق في بلادها.
لهذه الغاية، وفي أعقاب تقدم الدعوى آنذاك، كشف أليخاندرو سيلوريو، المستشار القانوني لوزارة الخارجية المكسيكة، أن الضرر الناجم عن الأسلحة المهربة توازي نسبته ما بين 1.7٪ و2٪ من الناتج المحلي الإجمالي للمكسيك (الذي يبلغ حاليا 1.29 تريليون دولار). وأكد أن الحكومة ستطالب بتعويضات لا تقل عن عشرة مليارات دولار.
في المحصلة، ما دام كارتل السلاح يتحكم في القرار السياسي الأميركي، فإن العنف والقتل والدمار ستبقى قائمة ليس في المكسيك وحدها، وإنما في كل مناطق العالم، التي تصل إليها يد واشنطن.
أمّا المثير للسخرية، فأن الجمهوريين المحافظين، الذين يحتفلون بحماسة كبيرة بتوافر الأسلحة ووفرتها، ويُسقطون القوانين التي تحدّ منها في هذا البلد، هم أيضا أكثر غضباً بسبب تدفق اللاجئين الذين يصلون يوميا إلى الحدود الأميركية.
المصادر:
1 ــ Ieva Jusionyte | Watson Institute (brown.edu)
2 ـــ download (atf.gov)
3 ـــ Mexico's Suit Against U.S. Gun Companies May Seek More Than A Court Win : NPR
4 ـــ mexican-complaint - Document Viewer : NPR
5 ـــ https://www.washingtonpost.com/opinions/2023/04/13/mexico-cartels-gun-trafficking-violence/?itid=lk_interstitial_manual_10
6 ـــEverything we know about the kidnapping of 4 Americans in Mexico - ABC News
7 ـــ Stopping toxic flow of gun traffic from U.S. to Mexico – Harvard Gazette