لماذا فشلت أوروبا في بناء استراتيجيتها الأمنية بعيداً عن واشنطن؟
دفعت الحرب في أوكرانيا دول الاتحاد الأوروبي إلى تسريع الخطوات نحو تدشين قوّة عسكرية مشتركة، من شأنها تحقيق الدفاع للدول الأعضاء، بالإضافة إلى مواجهة المخاطر والتهديدات. وثمة أصوات تعلو في الاتحاد الأوروبي، تدعو إلى الخروج من عباءة الوصاية الأمنية الأميركية، أو تخفيف الاعتماد عليها.
في الوقت الراهن، تُواجه أوروبا تحديّاتٌ متعدّدة، على رأسها ولادة العالم متعدد الأقطاب، فروسيا أصبحت لاعباً دولياً منافساً للولايات المتحدة، والصين شقّت طريق الحرير، واليمين المتطرّف غزا أوروبا. لذلك، تتوجه دول الاتحاد نحو سياسة "الاستقلال الاستراتيجي" من خلال بناء استراتيجيات أمنية، فهل تنجح؟
كيف بدأت أوروبا تنفيذ السياسات الدفاعية المشتركة؟
تعود فكرة الدفاع المشترك في أوروبا إلى عام 1947، عندما وقّعت كل من فرنسا وبريطانيا معاهدة تحالف ضد أيّ هجومٍ ألماني مُحتمل، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وسُمِّيت هذه المعاهدة معاهدة "دونكيرك".
بعد معاهدة "دونكيرك" بعامٍ واحد، أي عام 1948، ظهرت فكرة السياسة الدفاعية المشتركة لأوروبا، عندما وقّعت المملكة المتحدة وفرنسا وبنلوكس (بلجيكا، هولندا ولوكسمبورغ) معاهدة "بروكسل".
وتضمّن الاتفاق فقرة دفاع مُتبادل تضع الأسس لإنشاء الاتحاد الأوروبي الغربي (Western European Union)، الذي ظلّ حتى أواخر التسعينيات، إلى جانب (الناتو)، المنتدى الرئيس للتشاور والحوار بشأن الأمن والدفاع في أوروبا.
وفي عام 1992، وقّعت أوروبا اتفاقية تهدف إلى إقامة وحدة أوروبية شاملة، تحت اسم "ماستريخت"، تضمّ 12 دولة أوروبية، ودخلت حيز التنفيذ ابتداءً من 1 تشرين الثاني/نوفمبر 1993.
وأخذت الاتفاقية اسمها من مكان توقيعها، حيث جرى التوقيع عليها في مدينة ماستريخت الهولندية، القريبة من الحدود مع ألمانيا وبلجيكا. وانطلاقاً من هذه الاتفاقية جرى تأسيس الاتحاد الأوروبي.
لم تأتِ معاهدة "ماستريخت" دفعةً واحدة، بل تطوّرت بالتدريج (ماستريخت 1992 - معاهدة باريس 1951، بحيث اتفقت ست دول، هي فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، لوكسمبورغ، هولندا وإيطاليا على تشكيل المجموعة الأوروبية للفحم والصلب - معاهدة روما 1957، والتي وسّعت مجالات التعاون، وأصبحت تحمل اسم المجموعة الاقتصادية الأوروبية)، وبعدها انضمت سائر الدول الأوروبية إلى الاتحاد تباعاً.
هدفت "ماستريخت" إلى تأسيس اتحاد اقتصادي ونقدي، ووضع سياسة خارجية وأمنية مشتركة، وتطوير البعد الاجتماعي للمجموعة الأوروبية.
تطوّرت اتفاقية "ماستريخت"، حيث اعتمد المجلس الأوروبي عام 2003، الاستراتيجية الأمنية الأوروبية (ESS)، إذ توفّر الإطار المفاهيمي لسياسة الأمن والدفاع المشتركة (CSDP).
هذه الاستراتيجية جاءت من أجل معالجة الآثار السياسية للبيئة الأمنية الجديدة، وتأكيداً لأهمية التعاون الدولي، انطلاقاً من مبدأ "لا يمكن معالجة أيّ من التهديدات من جانب الاتحاد وحده". ووَفق هذه الاستراتيجية بقي الاتحاد الأوروبي رهيناً لـ"الناتو"، بقيادة واشنطن.
في عام 2003، أطلق الاتحاد الأوروبي أوّل عملية عسكرية مستقلة له خارج حدوده، وهي عملية "أرتيميس" في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وفي العام التالي، أنشأ الاتحاد الوكالة الأوروبية للدفاع.
ومع أن الاتحاد الأوروبي جرّب عدة محاولات للتنسيق الأمني بين دول القارة، إلا أنه فشل في بناء استراتيجية أمنية مستقلة عن الولايات المتحدة.
كيف فشلت أوروبا في بناء سياسات أمنية موحَّدة؟
في عام 1952، ظهرت فكرة إنشاء جيش أوروبي لأوّل مرّة. وليس، على سبيل المصادفة، أن تكون فرنسا وراء الفكرة، بهدف تعزيز الدفاع ضد الطموح السوفياتي آنذاك، لكنَّ أميركا أفشلت هذا المسعى، بحجّة عدم الحاجة إلى وجود جيش أوروبيّ في ظلّ وجود "الناتو".
ويبقى أوّل من طرح قضية تشكيل جيش أوروبي موحَّد، الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران والمستشار الألماني الأسبق هلموت كول، في ثمانينيات القرن الماضي، ضمن سلسلة المشاريع التي اتفق عليها الزعيمان وفرضاها على أوروبا، انطلاقاً من أن باريس وبرلين تشكلان قيادة القاطرة الأوروبية، كونهما أكبر قوتين اقتصاديتين وسياسيتين في الاتحاد الأوروبي.
لكنّ ميتران وكول لم يتفرّغا من أجل تطوير الفكرة، وانصرفا إلى شؤون تعزيز الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً اتفاقية ماستريخت والعملة الأوروبية الموحدة. لذلك، بقيت المسألة عند حدود تشكيل "الفيلق الأوروبي"، المكوّن من ألف جندي يتمركزون في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، ويشكلون النواة لقوة أوروبية موحَّدة، تكون المنطلق لمشروع الدفاع الأوروبي الموحد.
على رغم محاولات بناء جيش أوروبي موحد، فإنّ هذا المشروع انتهى عام 2007، عبر تشكيل "مجموعتين تكتيكيتين"، تضم كل منهما 1500 عنصر من جميع الدول الأعضاء. والسبب الأساسي هو افتقار أوروبا إلى الإرادة السياسية. وظلّ هذا المشروع من دون تفعيل لمدّة 10 أعوام.
من العوائق، التي واجهت المشروع، اتفاقيةُ "لشبونة"، التي جرى التوصل إليها عام 2007، وتنصّ على سياسة دفاعية مشتركة للاتحاد الأوروبي، لكنّها تُعطي الأولوية لسياسة الدفاع الوطني، وتترك للدول اختيار الانضمام إلى "الناتو"، أو البقاء على الحياد، الأمر الذي عارضه الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء الإسباني الأسبق خوسيه ماريا أزنار، اللذان تبنّيا فكرة تولي "الناتو" السياسة الدفاعية الأوروبية.
تراجع عمل الاتحاد الأوروبي، بصورة حادّة، تجاه عمليات حفظ السلام وإدارة السياسة المشتركة (CSDP). ونتيجةَ هذا التراجع، فقدت عدة دول أوروبية الرغبة السياسية في نشر القوات المسلحة تحت علم الاتحاد الأوروبي. لذلك، لم يتم نشر قوات (CSDP) في ليبيا في عام 2011، الأمر الذي أثار تساؤلات بشأن استخدام أدوات السياسة لإطلاق عمليات إدارة الأزمات وتنفيذها.
دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في عام 2018 إلى تأسيس جيش أوروبي موحّد مستقل عن حلف شمال الأطلسي ("الناتو"). وحينها، صرّح بقوله: "لن تحترمنا الولايات المتحدة كحلفاء إلا إذا كانت شؤوننا الدفاعية ذات سيادة. لهذا، على أوروبا بناء استقلالها كما تفعل الصين".
وقدّم ماكرون مُخطّطاً يهدف إلى تشكيل أوّل وحدة عسكرية أوروبية، عددها 5 آلاف عسكري، مدعومة بسفن وطائرات حربية ودبابات ومدرعات وأسلحة ثقيلة، ويُطلق عليها اسم "قوة الدخول الأول".
وفي عام 2020، نال المخطّط موافقة 13 دولة أوروبية، على رأسها ألمانيا، إذ خصّص الاتحاد الأوروبي في ميزانيته بنداً لتفعيل جيشه، بهدف إلى نقل هذا الاتحاد من قوة اقتصادية إلى قوة عسكرية أيضاً، تكون قادرة على القيام بمهمات عسكرية تحت مظلة أوروبية، وذلك بعد تصريحات الرئيس ترامب بشأن "ملل" واشنطن من تأمين الحماية للدول الأوروبية عبر "الناتو". ومجدَّداً لم تتم ترجمة هذه المحاولات إلى استراتيجية أمنية أوروبية مستقلة، ووجدت أوروبا نفسها مرة أخرى تحت ضغوط استراتيجية "الأمن القومي الأميركي"، والتي فرضت على الدول الاوروبية الإجراءات المطلوبة في المواجهة مع روسيا في أوكرانيا.
أشارت دراسة صادرة عن المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، تحت عنوان "الاستراتيجية الأمنية الأوروبية الجديدة.. الفاعل عبر الأطلسي"، إلى النقاط التي ساعدت على فشل السياسات الأمنية الموحّدة في أوروبا، ومنها تأكّل النظام الأوروبي، بحيث استعادت روسيا شبه جزيرة القرم، الأمر الذي يعني الحد من سلطات الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
كذلك، هناك اختلافات في مصالح كل دولة أوروبية، والتي غالباً ما تكون مدفوعة جغرافياً. وهذه المصالح تمنع دول الاتحاد الأوروبي من اتّباع سياسة خارجية موحدة. فمثلاً، هناك دول أوروبية لها مصالح خارجية متباينة ومتعددة، كما حدث في الموقف بشأن "الاتفاق النووي الإيراني" مثلاً.
كما أنّ هناك توجهاً داخل الاتحاد نحو التحالفات الثنائية خارج إطار الاتحاد الأوروبي وآلياته الأمنية المشتركة، وهذا الأمر بدا واضحاً خلال الحرب في أوكرانيا.
ولفتت الدراسة إلى انهيار فكرة الاتحاد النموذج، بحيث افترضت استراتيجية عام 2003 أن نجاح التكامل بين دول الاتحاد الأوروبي سيجعله "نموذجاً" تحتذي به دول العالم، لكن هذا الافتراض لم يعد حقيقة، نظراً إلى وجود تغيرات إقليمية ومنظمات أخرى تكسب أرضاً ومزيداً من الثقة على المستوى الدولي، بالإضافة إلى تصاعد الحركات القومية المناهضة لفكرة الاتحاد الأوروبي، والتي تَعُدّه تهديداً، وتدعو إلى الانفصال، الأمر الذي يؤثر في تماسك الاتحاد.
عوامل الضعف في الجيوش الأوروبية
العام الماضي، كشفت صحيفة "بوليتيكو" أنّ القطاع الصناعي العسكري الأوروبي غير مجهّز لمجاراة التحديّات الحالية، بحيث يعاني القطاع العسكري الأوروبي عدمَ وجود ما يكفي من الرصاص والأسلحة وأنظمة التكنولوجيا الفائقة في أوروبا من أجل تلبية مطالب الاتحاد الأوروبي.
ويُعاني القطاع العسكري الأوروبي أيضاً الطلب المرتفع على المعدات العسكرية، منذ بداية الحرب في أوكرانيا، بحيث تعهّدت دول الاتحاد الأوروبي إنفاق أكثر من 230 مليار يورو من أجل تحديث ترساناتها.
والسبب الرئيس في تطوير الترسانة العسكرية الأوروبية، ليس فقط المخاوف من توسع المواجهة مع روسيا، بل من أجل ضمان عدم اضطرار القارة إلى الاعتماد على الجيش الأميركي، أو على الصناعات الأميركية الأميركية.
وبشأن مشكلة الصناعة الدفاعية في أوروبا، قال المدير المالي لأكبر مصنع للأسلحة في جمهورية التشيك، ديفيد تشور، إنّ "المشكلة أنّ أوروبا تستخدم أسلحة معقّدة في سلسلةٍ صغيرة جداً على مدى فترة طويلة من الزمن، وهو ما يُلائم الوضع في وقت السلم، لكن البيئة الأمنية تغيّرت، وهناك حاجة إلى مليارات من الاستثمارات".
وأعلن وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس أنّ جيشه غير قادر على الدفاع عن ألمانيا، في حال وقوع حرب، بسبب قلة الموارد التي يملكها، وعدم كفاية الأفراد. بدوره، قال قائد الجيش الألماني، الجنرال ألفونس مايس، إنّ الصندوق الألماني الخاص الجديد، والبالغة ميزانيته 100 مليار يورو (106 مليارات دولار) للجيش الألماني، في ضوء الحرب في أوكرانيا، لا يكفي لتجهيز القوات المسلحة في البلاد بصورة كاملة.
وذكر موقع "بيزنس إنسايدر" أنّ "الذخيرة التي يملكها الجيش الألماني حالياً قد تكفيه يومين من الحرب، حدّاً أقصى".
وبحسب الموقع، فإنّ "الخبراء الألمان يُحذّرون من أنّ إمدادات الذخيرة لن تستمرّ إلا يوماً أو يومين في حالة الحرب"، وذلك يتعارض مع ما يفرضه "الناتو" على الدول الأعضاء من امتلاك ذخيرة تكفي ما يزيد على 30 يوماً.
أمّا القوات البريطانية، فتُعاني عجزاً مقداره 4 آلاف جندي بعد استقالة 16 ألف جندي في عام 2022، وهو أكبر نقص خلال 6 أعوام، بحسب صحيفة "ميرور".
وجاءت الاستقالة الجماعية على خلفية كثير من الشكاوى بسبب تدني الأجور، وسوء الظروف المعيشية، بما في ذلك العفن والرطوبة وتسريبات الأسقف في الثُّكَن العسكرية.
ونقلت صحيفة "ميرور"، عن ضابط الاستخبارات البريطانية السابق، الكولونيل فيليب إنغرام، قوله إنّ "الجيش يهدر الملايين في التجنيد، بينما يخفق في إصلاح الأمور الأساسية، وهو ما يؤدي إلى إبعاد المجندين المحتملين".
وبحسب مقال للكاتب والمؤرخ العسكري ماكس هاستينغز، فإن "مخزون وزارة الدفاع البريطانية من الأسلحة والمعدات العسكرية تَراجَعَ، نظراً إلى تقديم المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا، على الرغم من تخصيص 24 مليار جنيه إسترليني إضافية لميزانية الوزارة".
وفي فرنسا، أكّدت صحيفة "لوموند" أنّه في حال نشوب صراع ضخم، ستواجه القوات الفرنسية نقصاً حاداً في المدفعية بعيدة المدى والذخيرة، بالإضافة إلى افتقار الجيش الفرنسي إلى الأسلحة الحديثة.
وكان لدى فرنسا قبل بدء الحرب في أوكرانيا 76 مدفعاً من طراز "CAESAR"، فقدت معظمها بعد أن أرسلتها من أجل دعم كييف. وتقول شركة "Nexter"، المنتجة لهذا السلاح، أنّ تصنيع هذا المدفع يستغرق حالياً أكثر من 18 شهراً.