العالم يتجه إلى الطاقة النووية.. خلافات أوروبية تؤخر "الصفقة الخضراء"
أجبرت أزمة الطاقة التي شهدها العالم نتيجةً لاندلاع الأزمة الأوكرانية، وفرض العقوبات على روسيا، الدول الأوروبية إلى البحث عن بدائل مُتاحة من أجل سد نقص الطاقة في أوروبا.
أزمة الطاقة العالمية التي سبّبتها العقوبات الغربية على روسيا، دفعت العديد من الدول الأوروبية إلى تسريع تفعيل حزمة "الصفقة الخضراء"، التي تشهد خلال الأيام الماضية خلافاً بين فرنسا وألمانيا "يعيق التوافق" بشأن استخدام الطاقة النووية في الاتحاد الأوروبي.
ما هي "الصفقة الخضراء"؟
في نهاية العام 2019 أقرَّت المؤسسات التنفيذية الأوروبية خطة استراتيجية طويلة المدى للانتقال المناخي أطلق عليها اسم "الصفقة الأوروبية الخضراء".
تهدف هذه الخطة إلى جعل الاقتصاد الأوروبي مُستداماً، وتحويل الاتحاد الأوروبي إلى كيان مُحايد مناخياً بحلول العام 2050، وذلك من خلال تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى الحد الأدنى، عبر إقرار مجموعة من المبادرات السياسية والقوانين المتعلقة بالمناخ والزراعة والتنوع البيولوجي والطاقة والاقتصاد الدائري والغابات والتلوث.
وهذا يعني عدم انبعاث غازات دفيئة أكثر مما يمكن أن تمتصه النظم البيئية بشكلٍ طبيعي، كما أنّ الخطة المعلنة تهدف بحلول عام 2030 إلى تحقيق انخفاضٍ بنسبة 55% على الأقل في انبعاثات غازات الدفيئة عن مستويات عام 1990.
المشروع الذي قدّمته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عندما تولَّت منصبها في كانون الأول/ديسمبر 2019 لا يُعدّ مُجرّد خطة رئيسة للسنوات القليلة المقبلة، فالمشروع يرصد العقود الثلاثة المقبلة في إطار السعي لتحديث أوروبا على المستوى الاجتماعي وبشكلٍ مستدام.
خلافات أوروبية تعرقل "الصفقة"
آخر الخلافات ظهرت بين فرنسا وألمانيا بشأن اعتماد الطاقة النووية في دول الاتحاد الأوروبي. الخلافات تُعتبر تحدياً لـ"الصفقة الخضراء" للتكتل الأوروبي.
وكالة "بلومبرغ" الأميركية كشفت أنّ فرنسا وألمانيا لا تُظهران أيّ علامة على اقتراب التوصّل إلى حلٍ وسط بشأن دور الطاقة النووية في انتقال الاتحاد الأوروبي إلى طاقة أنظف.
جذور الخلاف بدأت حين قررت فرنسا إدراج الهيدروجين المنتج من الطاقة النووية بلائحة مصادر الطاقة الخضراء الأوروبية، وهذا الخلاف أجّل التصويت على الاتفاق ضمن الاتحاد الأوروبي.
وجاء الاتفاق الذي كان من المزمع إخضاعه للتصويت، بعد أشهرٍ من المفاوضات المتوترة. إذ سعت فرنسا، بدعمٍ من دول الاتحاد الأوروبي الشرقية، إلى الضغط للاعتراف بالهيدروجين المنتج من الطاقة النووية.
باريس نجحت في الحصول على تسوية، غير أنّها ترغب الآن في ضماناتٍ أكبر لعدم منافسة الهيدروجين الأخضر نظيره المنتج بالطاقة النووية.
دبلوماسي أوروبي مُطّلع على المفاوضات صرّح لموقع "يوراكتيف" المتخصص في الشؤون الأوروبية بأنّ فرنسا تؤدي "دوراً أرعن" من أجل الحصول على تنازلات إضافية.
وتتخذ ألمانيا موقفاً معادياً من الطاقة النووية، إذ أغلقت منتصف نيسان/أبريل الماضي آخر 3 محطات نووية لتوليد الطاقة في البلاد، والقطع مع حقبة دامت نحو 60 سنة.
إذ تنشط في ألمانيا حركة قوية مناهضة للطاقة النووية، بسبب المخاوف المستمرة من حدوث نزاع أشبه بالحرب الباردة، إضافةً إلى كوارث مرتبطة بهذا المصدر الطاقي.
باريس حثّت برلين مراراً على التخلي عن هذا الموقف المعادي للطاقة النووية. وفي شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، قال الوكيل الوزاري لبرنامج تعزيز وتجديد القدرات الطاقية النووية في فرنسا جويل بار، منتقداً الموقف الألماني: "لا أفهم موقف ألمانيا لأنني لا أعتقد على الإطلاق أنه حتى منتصف القرن سيكونون قادرين على تنفيذ استراتيجية خالية من الكربون تعتمد فقط على مصادر الطاقة المتجددة".
وكانت فرنسا مارست المعارضة نفسها لسعي ألمانيا لتمرير الوقود التركيبي مصدراً نظيفاً للطاقة في اللوائح الأوروبية، إنقاذاً لقطاع صناعة السيارات الذي يُمثّل أحد الأعصاب الحيوية لاقتصادها. ووقت كانت برلين تفاوض لإقناع نظرائها الأوروبيين بقبول مطلبها، وقفت باريس ضدها، بل وحذّر وزير النقل الفرنسي كليون بون مما وصفه بـ"مخاطر" ذلك النوع من الوقود.
إضافةً إلى هذا، يثير النهج الحمائي (حماية الإنتاج الوطني) الذي تنهجه الحكومة الفرنسية امتعاض ألمانيا، إذ عرقلت باريس، لوقتٍ طويل، التقدّم في إنجاز خط أنابيب الغاز "ميدكات"، الذي يربط شبه الجزيرة الإيبيرية بشمال أوروبا.
وتعوّل ألمانيا على هذا الخط ليكون البديل لـ "نوردستريم2" الروسي، عبر تمكينها من الاستفادة من الغاز والهيدروجين الأخضر (هيدروجين منتج من التحليل الكهربائي للماء بالاعتماد على الطاقة المتجددة) الآتي من شمال أفريقيا.
لذلك من الصعب الجزم بحدوث توافق "فرنسي-ألماني" حول إدراج الطاقة النووية في اللائحة الأوروبية لمصادر الطاقة الخضراء، لعدّة عوامل، أهمّها موقف برلين المعارض لهذه الطاقة، إذ سعى المستشار الألماني أولاف شولتس منذ توليه حكم البلاد إلى إنجاح الطلاق مع الكهرباء النووية.
الموقف الأوروبي منقسم، فإسبانيا والنمسا ولوكسمبورغ تقف مع ألمانيا وتُطالب بالهيدروجين المشتق باستخدام مصادر طاقة متجددة مثل طاقة الرياح أو الشمس، بينما تقف فنلندا والسويد مع فرنسا التي تريد اعتماد الطاقة النووية.
العالم يتّجه إلى الطاقة النووية
أسفرت أزمة الطاقة التي فجّرتها العقوبات الغربية على روسيا عن تأثيرٍ مُدمر من الناحية الاقتصادية على العالم أجمع حيث تواجه أوروبا احتمال تراجع الصناعة، وإعادة تشغيل مصانع الفحم، وعدم استطاعة الدول الفقيرة تحمّل أسعار الغاز الطبيعي المسال في الأسواق، ورغم ذلك من المتوقع أن يستمر تزايد الطلب على الطاقة حتى الوصول إلى اتفاقٍ بشأن الطاقة النووية.
وتُعدّ الطاقة النووية ثاني أكبر مصدر للطاقة منخفضة الكربون في العالم بحسب الرابطة العالمية للطاقة النووية، ويمكن استخدامها في عدة مجالاتٍ، أبرزها توليد الكهرباء.
ونظراً لأنّ الطاقة النووية تُقلل الاعتماد على النفط والغاز، كما أنها خالية من الانبعاثات، فإنّ العلماء ينظرون إليها كطاقة مستقبلية مُجدية اقتصادياً، على الرغم من التكاليف العالية لبناء المفاعلات، وكذلك الخوف من الحوادث النووية والتي كان آخرها كارثة فوكوشيما في 2011 التي زادت المعارضة للطاقة النووية، لذلك تسعى دول العالم إلى اعتماد الطاقة النووية.
وتوفر الطاقة النووية حالياً نحو 10% من كهرباء العالم من نحو 412 مفاعل طاقة، وقد أنتجت 13 دولة في عام 2020 ما لا يقلّ عن ربع احتياجاتها من الكهرباء من الطاقة النووية.
وتولّد فرنسا 70% من الكهرباء بتلك الطاقة، وتحصل أوكرانيا وسلوفاكيا وبلجيكا والمجر على نحو النصف بالطاقة النووية، فيما تحصل إيطاليا والدنمارك على ما يقارب 10% من الكهرباء من الطاقة النووية المستوردة.
هذا الأمر دعا باريس إلى إطلاق استثماراتٍ ضخمة في تطوير وتوسيع قدراتها لإنتاج الكهرباء باستخدام الطاقة النووية، إذ تملك حالياً نحو 59 محطة نووية، وتتصدّر الإنتاج الأوروبي بإجمالي يُعادل 61 غيغاوات أي نحو ثلثي الطاقة في البلاد. وسبق أن أعلن الرئيس ماكرون، في شباط/فبراير 2022، برنامجاً لبناء 6 محطات نووية جديدة بحلول 2050، أُولاها ستدخل الخدمة عام 2035.
أما الولايات المتحدة الأميركية، فتمتلك أكبر عدد من المفاعلات النووية في العالم، ويبلغ عددها 92 مفاعلاً، ولّدت نحو 19.6% من كهرباء البلاد في 2021.
وحتى شهر تموز/يوليو 2022، تقوم العديد من دول العالم ببناء مفاعلات نووية يعتمد عليها كمصدر للطاقة، على رأس تلك الدول تأتي الصين، بعدد 21 مفاعلاً يتم إنشاؤها حالياً، لتولد من خلالها نحو 20932 ميغاواط، ولدى الصين حالياً في الخدمة 57 مفاعلاً نووياً، كما تعتبر الصين صاحبة الطاقة النووية الأكثر شباباً، إذ إنّ 41 مفاعلاً من مفاعلاتها النووية قد جرى توصيله للخدمة خلال العقد الماضي.
وتأتي الهند كثاني الدول في إنشاء المفاعلات النووية الجديدة، حيث تقوم ببناء 8 مفاعلات، وتمتلك نحو 22 مفاعلاً نووياً في الخدمة، تُولّد من خلالها نحو 6.3 غيغواط من الطاقة.
أما المملكة المتحدة فلديها 11 مفاعلاً نووياً قابلاً للتشغيل ولّدت منها نحو 15% من احتياجاتها من الكهرباء، وفي نيسان/أبريل 2022 أعلنت الحكومة البريطانية أنّها تخطط لبناء 8 مفاعلات نووية، لتعزيز الاستقلال في الطاقة على المدى الطويل.
وتُنشئ كل من روسيا وكوريا الجنوبية وتركيا 3 مفاعلات لكل منها، وتقوم بنغلاديش وسلوفاكيا وبريطانيا والولايات المتحدة ببناء مفاعلين. كما تقوم الأرجنتين وبيلاروسيا وفرنسا وإيران واليابان ببناء مفاعل نووي جديد واحد.