الانتخابات التركية.. الغرب يتطلع لاستعادة أنقرة وروسيا تتحصنّ بمصالح الطاقة

يرى الغرب، أنه يمكن لتركيا في حال تم تنشيطها اقتصادياً أن تصبح ببساطة شريكاً مهماً له، ولا سيما أن الغربيين يسعون إلى إعادة ضبط اعتمادها على الصين وتنويع سلاسل التوريد الخاصة بها.
  • الانتخابات التركية.. الغرب يتطلع لاستعادة أنقرة وروسيا تتحصّن بمصالح الطاقة

في الوقت الذي تتجه فيه أنظار العالم أجمع إلى تركيا، تحبس دوله، ولا سيما تلك التي تربطها بنظام الرئيس رجب طيب إردوغان علاقات متشابكة ومعقدة (كالولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد الأوروبي، وروسيا) أنفاسها، بانتظار الاسم الفائز الذي سيخرج من صناديق الاقتراع، خصوصاً وأن نتائج هذا الاستحقاق الرئاسي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالجغرافيا السياسية لتركيا وموقعها المستقبلي في التوازنات الدولية المتغيّرة.

 وعليه ليس من قبيل المبالغة القول، إن المتابعة والرصدّ الخارجي الدقيقين، لكل ما يتعلق بهذه الانتخابات، والتنافس الحاد والشرس بين الرئيس الحالي إردوغان وزعيم المعارضة كمال كليجدار أوغلو - على ما يطلق عليه الغرب حالة الديمقراطية التركية - يفوقان بدرجات كبيرة اهتمام الأتراك أنفسهم.

لماذا تعتبر الانتخابات التركية هامة داخلياً وخارجياً؟

في الحقيقة، تعتبر الانتخابات الرئاسية، حاسمة داخلياً وخارجياً، ويعود ذلك لعدة أسباب يمكن إيجازها بالآتي:

أولاً: يشكّل هذا الاستحقاق اختباراً مهماً لإردوغان، الذي ظل في السلطة لأكثر من عقدين، حيث تمكن من الحفاظ على حكمه، إلى حد كبير من خلال مزيج من التكتيكات، التي تراوحت بين قبضته الحديدية على السلطة، والدعم الشعبي له، على الرغم من أن شعبيته آخذة في الانخفاض مؤخراً. إذ تظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أن مرشح المعارضة كليجدار أوغلو، يتقدم على إردوغان بنسبة 49.3 إلى 43.7 في المئة على التوالي، وفقاً لموقع TVP World التركي. 

 ثانياً: ستكون لنتائج الانتخابات هذه تداعيات كبيرة على المصالح الروسية في المنطقة، بما في ذلك مسائل الطاقة والأمن.

ثالثاً: من المؤكد أن الانتخابات المقبلة سيكون لها تأثير على العلاقات التركية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فمن جهة، بينما كان إردوغان في بعض الأحيان على خلاف مع حلفاء تركيا الغربيين، غير أنه أثبت أنه شريك مهم، ليس فقط في مسائل الأمن الإقليمي، مثل توفير الطائرات بدون طيار لأوكرانيا وإغلاق المضائق التركية، بل أيضاً نجاحه (نوعاً ما) بإدارة الأزمات الأوسع نطاقاً، كأزمة المهاجرين في أوروبا (2016-2017) وكذلك صفقة الحبوب الأوكرانية الأحدث.

رابعاً: احتفاظ الغرب بـ "خط الرجعة" مع إرودغان في حال فوزه، مع عدم تخليه عن ميله الواضح (أي الغرب) للمعارضة التركية التي يعلّق عليها آمالاً كبيرة في أن يكون خلفاء إردوغان (في حال انتصروا في انتخابات اليوم الأحد) قادرين على عكس مسار تركيا الاقتصادي والجيوسياسي نحو الحاضنة الأوروبية و الأطلسية إلى مرحلة ما قبل إردوغان، الذي كان اتبع نهجاً سياسياً قائماً على المساومة والابتزاز، وتمردّ أحياناً على حلفائه الغربيين والأميركيين، من خلال الاتجاه نحو موسكو وبكين وطهران، وتطوير تعاونه الكبير مع هذه الدول، وهو ما أحدث نفوراً في كل من بروكسل وواشنطن، بسبب نيات الرئيس التركي وسلوكه المناقض لسياساتهم. 

هل يفضّل الغرب فعلاً فوز المعارضة؟

يرى الغرب، أنه يمكن لتركيا في حال تم تنشيطها اقتصادياً أن تصبح ببساطة شريكاً مهماً له، ولا سيما أن الغربيين يسعون، بحسب الخبراء، إلى إعادة ضبط اعتمادها على الصين وتنويع سلاسل التوريد الخاصة بها، وهذا بدوره يدفعنا إلى الاستنتاج أن لكل من أوروبا والولايات المتحدة مصلحة في أن تغيّر تركيا نفسها. زد على ذلك أن أنقرة استفادت من أوروبا في الماضي وما زالت، وهو ما أظهرته اتفاقية التجارة الحرة المبرمة عام 1995 مع الاتحاد الأوروبي، التي كانت أدت إلى تنسيق الإطار التنظيمي التركي إلى حد ما مع الإطار الأوروبي.

 أكثر من ذلك، ينظر إلى تركيا على أنها تعتبر اقتصاداً رئيسياً، وقوة إقليمية كبيرة يحسب لها الحساب على أعتاب أوروبا. فهي تتمتع بقاعدة إنتاج صناعية واسعة، ويتوفر فيها مناخ أعمال متطور، وقوى عاملة قادرة ومتعلمة. علاوة على ذلك تُعد مُصدراً صافياً هاماً للسلع الزراعية، فضلاً عن أنها تحقق تقدماً في مجال الطاقة المتجددة، كما بدأت مؤخراً في إنتاج سيارتها الكهربائية الخاصة.

ولهذه الغاية، كتبت The Economist في عام 2010: "تصنع تركيا أشياء مثل الأثاث والسيارات والأسمنت (وهي أكبر مصدر في العالم) والأحذية وأجهزة التلفزيون ومشغلات أجهزة الـ DVD. بمعنى... قد يُطلق عليها اسم الصين الأوروبية".

لكن مهلاً، فهذه هي الأمنية (أي لقب الصين الأوروبية) التي لم تتحقق. كانت تركيا ذات يوم تحتل المرتبة السادسة عشرة بين أكبر الاقتصادات في العالم - وكان من المتوقع أن في تصبح في المرتبة الثانية عشرة بحلول عام 2050. أما اليوم، فقد انخفضت في جميع المؤشرات، مقارنة بما كانت عليه قبل عقد من الزمن، من دخل الفرد إلى حجم اقتصادها. وبدلاً من أن تصبح تركيا الصين في أوروبا، بدت في السنوات الأخيرة أكثر فأكثر مثل الأرجنتين في أوروبا.

أما السبب، فيعود إلى سياسات إردوغان الذي عمل على تعزيز سلطته، عبر تفريغ المؤسسات المستقلة، ووضع الرجال المؤيدين له في جميع المراكز البيروقراطية في البلاد، والأهم اعتماده المفرط على الإنفاق الحكومي الهائل للحفاظ على دوران عجلة الاقتصاد. لذلك، أدت هذه العوامل مجتمعة، بمرور الوقت إلى هجرة كبيرة للأدمغة، وفقدان ثقة المستثمرين، وحدوث تضخم جامح.

هل يمكن لإردوغان في حال فوزه أن يصلح الاقتصاد الذي ساهم بتخريبه؟

إن رجل تركيا القوي نفسه ليس معادياً أيديولوجياً للأسواق العالمية. لكن تفضيله لمشاريع البناء العملاقة المبهرجة، على الاستثمار في القدرة الصناعية أعاق التنمية الاقتصادية. والمفارقة بحسب الخبراء الاقتصاديين الأوروبيين، أن وجهات نظره الغريبة بشأن أسعار الفائدة، جلبت الخراب للنظام المالي في تركيا، إلى حد أن هؤلاء الخبراء، شبّهوا إدارته للاقتصاد، بعمدة يحكم بلدة صغيرة، ويدير كل جانب. والأكثر أهمية من كل ذلك، أن حكمه الشخصي، أخاف رؤوس الأموال الأجنبية والمحلية التي تبحث عن بيئة استثمارية آمنة.

تعويل الغرب على المعارضة لإعادة أنقرة إلى حضنه

إن تفضيل الغرب لفوز المعارضة التركية، يتعلق بكونها فرصة لإعادة تثبيت أنقرة في الغرب بالرغم من صعوبة المهمة اقتصادياً. فمن المسلم به، أن تركيا ستواجه رياحاً اقتصادية شديدة بعد الانتخابات. إذ كان هناك الكثير من الحديث عن تغيير محتمل للحكومة خلال اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في واشنطن الشهر الماضي. أما السبب، فقد لخّصه أحد ممثلي صناديق التحوّط الدولية بالقول: "إذا غادر إردوغان، فستكون تركيا أكبر صفقة لهذا العام".

وانطلاقاً من هذه النقطة، يكشف اقتصاديون غربيون، أن المساعدات والأموال الساخنة تساعد أنقرة فقط على المدى القصير. غير أنه في نهاية المطاف، ستحتاج حكومة كليجدار أوغلو إلى إعادة هيكلة الاقتصاد التركي بشكل عميق. كما يدرك الاقتصاديون المنضوون في تحالف كليجدار أوغلو، أمثال وزير المالية السابق علي باباجان، أنه لتحقيق الاستقرار في الأسواق، تحتاج تركيا إلى عكس اتجاه "أردوغانوميكس" والالتزام بحوكمة اقتصادية قائمة على القواعد ويمكن التنبؤ بها.

من هنا، وللوصول إلى هذا الهدف، يجب أن ترتكز الرؤية الاقتصادية على المدى الطويل على التصنيع. ونظراً لأن الاقتصادات الأميركية والأوروبية تتطلع إلى "التخلص من المخاطر" من الاعتماد المفرط على الصين، فإن مستشاري كليجدار أوغلو، يشعرون بوجود فرصة تتلخص بأن تفعل تركيا ما كانت فعلته الصين منذ عقود: أي دعم الابتكار والاستثمار في التقنيات المستقبلية، وإعادة تنظيم قاعدتها الصناعية لتتماشى مع احتياجات الأسواق الغربية.

وبناء على ذلك، بدأت بعض الأصوات الأميركية والأوروبية (من سياسيين وخبراء)، بالمطالبة بإعادة إحياء محادثات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي الذي رفض على الدوام عضويتها. مع أنها باعتراف الأوروبيين أنفسهم كانت تطبق بانتظام إصلاحات اقتصادية وسياسية ــ وبالتالي تحديث اتفاقية التجارة الحرة التي عفا عليها الزمن بين تركيا والاتحاد الأوروبي.

الرؤية الروسية للانتخابات التركية

يبدو أن نهج الحكومة الروسية تجاه الانتخابات في تركيا، مدفوع بأسباب جيوستراتيجية، وجيوسياسية، بما في ذلك الدفاع عن مصالحها في عدة مناطق وفي مقدمتها سوريا وجنوب القوقاز.

وبينما، يوضح دبلوماسيون غربيون وروس، أن موسكو تفضّل إعادة انتخاب إردوغان، يشير آخرون بالمقابل، إلى أن انتصار مرشح المعارضة، لن يؤدي إلى تعطيل العلاقات التركية - الروسية.

صحيح أن كليجدار أوغلو كان انتقد علاقات إردوغان الخارجية مع روسيا، ولا سيما بالنظر إلى الصراع السوري. ومع ذلك، إذا فاز في الانتخابات، فمن غير الواضح كيف ستختلف سياساته تجاه روسيا عن سياسات إردوغان. والمثير للانتباه أن كليجدار أوغلو، كان أعلن انفتاحه على توسيع التعاون مع الصين - الأمر الذي يمكن أن يعطّل علاقات أنقرة مع الغرب. 

إضافة إلى ذلك، للبلدين مصلحة مشتركة في الحفاظ على المستوى الحالي من العلاقات أياً كان الفائز. إذ تعتمد روسيا على تركيا كدولة عبور حيوية لصادرات الغاز. كما يتمتع البلدان بتحالف اقتصادي قوي في قطاع الطاقة، بما في ذلك مساعدة الكرملين في محطة أكويو للطاقة النووية. ليس هذا فحسب، ففي كانون الأول/ديسمبر 2022، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عبرّ عن اهتمامه بإنشاء مركز للغاز الطبيعي في تركيا، مما سيمكن روسيا من نقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن موسكو استثمرت بكثافة في تركيا من خلال مشاريع مختلفة، بما في ذلك خط أنابيب "ترك ستريم". وبالتالي فإن هذا المستوى المتقدم من العلاقات، سيفرض على المعارضة التركية، في حال فوزها اعتماد السياسة ذاتها التي اتبعها إرودغان مع موسكو.

ومع ذلك، في حين أن روسيا تمثل شريكاً مهماً في مجال الطاقة لتركيا، إلا أن أنقرة عملت على موازنة نفوذ موسكو من خلال شق طريقها مع دول أخرى. على سبيل المثال، في عام 2022، أصبحت الولايات المتحدة وأوروبا ثاني ورابع أكبر موردي الغاز الطبيعي المسال لتركيا، على التوالي.

في المحصّلة، تسعى أنقرة حالياً إلى تحقيق توازن بين الحفاظ على سيادتها والتعاون مع روسيا والالتزامات تجاه حلفائها الغربيين. وعليه إذا وصلت حكومة جديدة إلى السلطة بالفعل، فمن الصعب التنبؤ بمدى تأثير ذلك على العلاقات العامة مع موسكو وبروكسل وواشنطن وحتى بكين.

وتبعاً لذلك، وبغض النظر عن النتيجة، يمكن توقّع استمرار تركيا في اتباع سياسة خارجية مستقلة، والاستفادة بشكل أكبر من موقعها كقائد إقليمي في مجال الطاقة والأمن.

 

علي دربج - باحث وأستاذ جامعي

المصدر: الميادين نت