كيف تؤثر مؤشرات صرف الليرة التركية في أصوات الناخبين؟

مع اقتراب موعد الانتخابات العامة التركية، تبرز في الواجهة الأزمة الاقتصادية التي تواجهها تركيا، وتبعات هذه الأزمة على أصوات الناخبين ضمن عملية اختيار السلطة المستقبلية.
  • تبرز الأزمة الاقتصادية التي تواجهها تركيا في الواجهة مع اقتراب موعد الانتخابات العامة

مع اقتراب موعد الانتخابات العامة التركية، تبرز في الواجهة الأزمة الاقتصادية التي تواجهها تركيا، وتأثير هذه الأزمة في أصوات الناخبين ضمن عملية اختيار السلطة المستقبلية التي تشهد منافسة محتدمة بين الرئيس الحالي رجب طيب إردوغان، ومرشّح المعارضة كمال كليجدار أوغلو، واللذين عرضا في حملتهما الانتخابية، رؤيتين مختلفتين للاقتصاد المستقبلي للبلاد.   

هذه الرؤى الاقتصادية كان طرحها مهمّاً بالنسبة إلى الطرفين من أجل تحشيد الجماهير والاستقطاب في الانتخابات، ذلك لأنّ تركيا شهدت تراجعاً في عملتها إلى أدنى مستوى لها مقابل الدولار، في نيسان/أبريل الفائت، مع استمرار حال عدم اليقين بشأن نتائج الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة في منتصف أيّار/مايو الجاري، والتي قد تؤدّي إلى أوّل تغيير سياسي منذ عشرين عاماً، إذ إنّ الانتخابات ستحسم ما إذا كانت تركيا ستواصل سياساتها الاقتصادية غير التقليدية تحت حكم إردوغان، أم ستعود إلى الاقتصاد الحر كما وعدت المعارضة التركية. 

وتراجعت العملة إلى 19.5996 ليرة للدولار الواحد، وهو أمر غير مسبوق منذ اعتماد الليرة الجديدة في كانون الثاني/يناير 2005. ويعدّ التضخم إحدى العواقب الرئيسية لهذا الانخفاض في قيمة العملة، إذ تعاني تركيا الآن، من أحد أعلى معدلات التضخم في العالم بأكثر من 51%، بحسب الأرقام الرسمية للحكومة، فيما يقدر الاقتصاديون المستقلون التضخم عند أرقام أعلى من ذلك بكثير وتصل إلى 112%. وفي أيلول/سبتمبر الماضي، تجاوز معدل التضخم في تركيا حاجز 80% وهو مستوى قياسي منذ عام 1998.

واقع الاقتصاد التركي

بالنظر إلى متوسط الأشهر الـ 12 من العام المنصرم، فقد ارتفع التضخم بنسبة 70.20%، وكذلك أسعار المنتجين المحليين بنسبة 113.73%، وفقاً لهيئة الإحصاء التركية.

وقضت الأزمة الاقتصادية على أكثر من نصف قيمة الليرة التركية، حيث قفز سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة بنسبة 41.6% منذ كانون الثاني/يناير من العام الماضي. كذلك، بلغ عجز الحساب الجاري التركي، أو فجوة الصرف الأجنبي، ما يقرب من 50 مليار دولار العام الماضي، أي ما يزيد على 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وبحسب بيانات رسمية صدرت في 19 نيسان/أبريل، فقد تجاوز عجز الموازنة التركية 13 مليار دولار في الربع الأول لعام 2023.

بداية تدهور الليرة التركية

قبضة إردوغان على الاقتصاد تعزّزت من خلال الإصلاح الدستوري لعام 2017، والذي ألغى منصب رئيس الوزراء وعزز جميع السلطات التنفيذية في يد الرئيس.

فيما بعد، ظهرت مشكلات الليرة الأخيرة لأول مرة في آب/أغسطس 2018، عندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الصادرات التركية. كان هذا القرار سياسياً، رداً على احتجاز الحكومة التركية لقس أميركي، لكنّ الأسواق استجابت لضعف الاقتصاد التركي،  بحسب منصة "war in the rocks" للتحليل والتعليق بشأن قضايا السياسة الخارجية والأمن القومي.

وأوضحت المنصة، أنّ "طرح الأسئلة الأولى حيال سياسة إردوغان الائتمانية منخفضة الفائدة، والتي صُمّمت لتحفيز النمو الموجه نحو البناء، ولكنها أصبحت غير مستدامة، بدأ في تلك المرحلة".

ومنذ ذلك الحين، "أبقت الحكومة التركية أسعار الفائدة منخفضة، واستمر الاقتصاد التركي في النمو".

لكن هذه السياسة النقدية، بحسب المنصة، أدّت في المقابل، إلى دفع التضخم إلى مستويات قياسية مرتفعة، والليرة إلى مستويات قياسية منخفضة.

بعد ذلك، وخلال جائحة كورونا، خفّضت تركيا - مثل العديد من البلدان الأخرى - أسعار الفائدة لجعل الاستثمار أرخص وزيادة احتمالية النمو. وعلى عكس العديد من البنوك المركزية الأخرى، وبعد أن بدأ التضخم في الانتشار، حيث تجاوز معدلاً سنوياً يقدر بنحو 85% في أواخر العام الماضي، أصرّ إردوغان على أنّ أسعار الفائدة ستستمر في الانخفاض للحفاظ على "وهم النمو"، وفق صحيفة "فورين بوليسي"

السياسة الاقتصادية بين إردوغان والمعارضة

ومنذ عام 2019، اتّسمت السياسة الاقتصادية التركية بالتحولات المتكررة. في البداية، تبنّى إردوغان برنامجاً يقوم على أسعار الفائدة المنخفضة والتوسع الائتماني، مخالفاً بذلك العقيدة النيوليبرالية، وهو الأمر الذي أدى إلى انخفاض قيمة الليرة، وارتفاع معدلات التضخم وزيادة عجز الحساب الجاري والديون الخارجية، نظراً إلى اعتماد تركيا الكبير على الواردات.

تلى ذلك مرحلة حاولت فيها تركيا موازنة هذه التأثيرات، فركّزت الحكومة على برنامج نيوليبرالي تقليدي؛ تمثّل في أسعار فائدة عالية لجذب رأس المال الأجنبي واستقرار قيمة الليرة التركية، وترافق ذلك مع انكماش الائتمان من أجل محاربة التضخم والمديونية.

ورغم ذلك، عادت تركيا مراراً لاتباع "نهج بدعي" (غير تقليدي مزيج بين أكثر من نموذج)، يتذبذب جيئة وذهاباً. وبالرغم من الانتقادات الكبيرة للسياسات الاقتصادية لإردوغان، يتحدث البعض عن أن هذه التحولات أو التعرجات الاقتصادية لا بد منها، بالنظر إلى أن الاقتصاد التركي مدمج في النظام الاقتصادي النيوليبرالي العابر للأطلسي.

بموجب ذلك، تعذّر الحفاظ على استراتيجية دعم صمود الشركات الصغيرة والمتوسطة من خلال السياسات الاقتصادية التوسعية. وفي الآونة الأخيرة، يبدو أنّ تخلّياً حصل عن هذه الحركة المتذبذبة لصالح التزام راسخ بالاقتصاد "البدعي"، حيث خُفضت أسعار الفائدة للبنك المركزي، منذ ربيع 2021، ومن ناحية أخرى، توسع الائتمان التجاري والاستهلاكي بصورة هائلة.

وعلى الرغم من أنّ هذه الإجراءات مكّنت تركيا من تحسين معدلات النمو في 2021، لكن ذلك جاء بتكلفة تمثّلت في انخفاض قيمة الليرة والتضخم الهائلين.

في المقابل، ترسم المعارضة اقتصاداً يسترشد بالسياسات التقليدية ويتكامل مع الاقتصاد الغربي، أي عكس سياسة إردوغان خلال السنتين الأخيرتين.

بيد أن المعارضة لم تطرح سياسة اقتصادية بديلة تفصيلية، ولم تقدم آليات تنفيذية للكثير من الوعود الاقتصادية التي أطلقتها.

تأثير الأزمة الاقتصادية في نتائج الانتخابات

وفقاً لاستطلاعات الرأي الأخيرة، سيكون السباق متقلباً بين المرشحين المهيمنين اللذين وعدا بجودة معيشية أفضل ومعايير اجتماعية لملايين الأسر المتضررة من التضخم الجامح.

فعلى ضوء الواقع الاقتصادي التركي المأزوم، ينتشر الإحباط على نطاق واسع لدرجة أنّه من المتوقع أن يُحرم إردوغان من الفوز في الجولة الأولى على منافسه الرئيسي كمال كليجدار أوغلو، الذي يدعمه تحالف عريض من أحزاب المعارضة، بحسب وكالة "بلومبرغ"

وأشارت الوكالة إلى اتحاد "العمال الذين يعانون من تضخم وحشي، والشباب القلقين بشأن الآفاق القاتمة، وتراجع الدعم بين الناخبين الصامدين من الشتات التركي، ليشكلوا أكبر تهديد على الإطلاق لسلطة إردوغان".

وكشفت مقابلات "بلومبرغ" أنّ جمهور الناخبين منقسم بشدة على القيم الاجتماعية والعمر والأجور، إذ إنّ الناخبين الأكبر سناً والمحافظين هم أكثر ميلاً للالتزام بإردوغان، فيما يفقد الفقراء إيمانهم، ويعدّ الناخبون الأصغر سناً الأكثر إحباطاً.

يأتي ذلك مع تضاعف أسعار كل شيء من المساكن إلى السيارات والطعام أربع مرات في غضون سنوات، فيما يلقي الكثير باللوم على جهود إردوغان لتوسيع نفوذه عبر جميع جوانب الاقتصاد، بما في ذلك السياسة النقدية، وفق "بلومبرغ". 

لكن، في المقابل، ذكرت وكالة "شينخوا" الصينية، أنّ "إردوغان لا يزال يحظى بدعم كبير بين الناخبين الذين يعتقدون أنّه أفضل شخص لقيادة تركيا، على الرغم من الانتقادات الموجهة لسياساته الاقتصادية".

وأضافت الوكالة أنّ "الكثير من الناس يميلون إلى تفضيل ما يعرفونه في الأوقات المضطربة، ويعدّ تاريخ إردوغان الطويل في إدارة البلاد ميزة واضحة على منافسه الرئيسي".

ويستخدم إردوغان الرافعات المالية والاقتصادية المتاحة له لمحاولة تحقيق انتصار في الانتخابات. ففي الأسابيع التي سبقت الزلازل، أعلن الرئيس التركي عن قروض مدعومة للشركات الأصغر، ووعد بالتقاعد المبكر للملايين بتكلفة 13 مليار دولار سنوياً، وفرض زيادة بنسبة 55% في الحد الأدنى للأجور.

خيارات صعبة

هناك إجماع في تركيا على أنّه بغض النظر عمّن سيفوز في الانتخابات، فإنّه "سيواجه وضعاً اقتصادياً ضاغطاً، تبعاً لتداعيات الزلازل ومحاولة التعافي الاقتصادي".

ووفقاً لخبراء، فقد يؤدي الإنفاق الحكومي قبل الانتخابات وضغوط العملة إلى عودة التضخم إلى اتجاه تصاعدي.

وقال المنتقدون إنّ "جهود البنك المركزي لدعم الليرة لا يمكن أن تستمر لفترة أطول"، وأنّ "الخيارات الصعبة - بما في ذلك زيادة ضوابط رأس المال وتخفيض قيمة الليرة - تلوح في الأفق بعد الانتخابات".

وبغضّ النظر عن نتيجة الانتخابات، تتوقع البنوك الدولية، بما في ذلك "Citigroup" و"Bank of America"، حدوث تحول حاد في السياسات الحالية، واستمرار الليرة التركية بالتراجع.

وأكد محللون أنّه في حال فوز المعارضة، ستشهد الأسواق تقلبات كبيرة حتى تعلن الحكومة الجديدة إطاراً اقتصادياً جديداً وتُملأ المناصب الرئيسية في الإدارة.

كذلك، أشار الخبراء إلى أنّه إذا تمسكت إدارة الرئيس إردوغان بالسلطة، فقد تشهد الليرة "انخفاضاً غير منظم في قيمتها".

وأضاف المحللون أنّ السيناريو الآخر الذي قد يدفع الليرة إلى الانخفاض هو قرار البنك المركزي سحب تدخلاته في العملة التي كانت تدعم السوق.

المصدر: الميادين نت