بين الردع والمواجهة.. كيف يثبّت حلف القدس وحدة ساحاته؟
من المفهوم إلى التطبيق، تحوّلت معادلة القدس والحرب الإقليمية، في ظل الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة. فما جرى قبل أسبوع بإطلاق صواريخ من غزة ولبنان وسوريا رداً على اعتداءات الاحتلال في الأقصى، رفع منسوب القلق الإسرائيلي من "وحدة الساحات"، فيما وصفها بعض المسؤولين الإسرائيليين " بالفخ الإستراتيجي"، الذي يحاول محور المقاومة جر الكيان المؤقت إليه، مستغلّين الانكشاف الأمني والعسكري الإسرائيلي بسبب التشرذم الداخلي.
ويرتفع منسوب القلق مع صعوبة التنبؤ إلى أين ستتجه الأمور، إذ لا يستبعد الإسرائيليون تكرار السيناريو والوصول إلى حرب مفتوحة. ولعلّ مقولة المراسل العسكري في صحيفة "كان" الإسرائيلية هي الأكثر تعبيراً عن مدى الضبابية لديهم حينما قال: "ما يدور في رأس نصر الله هو السؤال الذي يشغلنا الآن".
معادلة القدس والحرب الإقليمية
"نحن نعمل بجد على أن نصل إلى معادلة أن الاعتداء على القدس يعني حرباً إقليمية".
الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله
قبل عامين، أطلق الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله معادلة "الاعتداء على القدس يعني حرباً إقليمية"، وحينها جاء أول الغيث من اليمن عبر تبني قائد أنصار الله السيد عبد الملك الحوثي للمعادلة الجديدة.
قبل حوالى الأسبوع، أعادت الأحداث التي جرت بإطلاق صواريخ من لبنان وسوريا إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة نتيجة اعتداء الاحتلال ومستوطنيه على المسجد الأقصى، المعادلة إلى الواجهة، وإن كان ما شهدناه أكبر من رد، وأقل من حرب إقليمية.
جولة جديدة من تلاحم الجبهات بدأت من قطاع غزة رداً على الاعتداءات الإسرائيلية بحق القدس والأقصى، تبعها رد من جنوب لبنان بإطلاق عشرات الصواريخ إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة في اتجاه الجليل الأعلى، وعملية في غور الأردن وصفها الإعلام العبري بـ "القاسية"، وكذلك إطلاق صواريخ من سوريا في اتجاه الجولان المحتل.
صلية الصواريخ التي أطلقت من لبنان، وصفتها وسائل إعلام إسرائيلية بـ "التصعيد الأكبر من لبنان منذ حرب تموز عام 2006".
مشاهد لمكان سقوط الصواريخ في #الجليل الغربي#الميادين #فلسطين #لبنان pic.twitter.com/zmdzmcYD0y
— قناة الميادين (@AlMayadeenNews) April 6, 2023
ومن يقف على طبيعة الرد الإسرائيلي، يدرك جيداً أن الاحتلال الإسرائيلي فقد زمام المبادرة، بدءاً من المسارعة إلى التأكيد أن من أطلق الصواريخ "حماس" وليس "حزب الله"، والرد بغارات ضد أهداف في قطاع غزة، ناهيك بطبيعة الرد في لبنان والذي اقتصر على أراضي مفتوحة في الجنوب، وصولاً إلى ترويج رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو قبل يومين لانتصار وهمي بقوله إنّ الرد استهدف بنى تحتية لـ "حزب الله"، وهو ما نفته المؤسسة العسكرية، لا بل أثار تصريحه استغراباً لدى "الجيش" الإسرائيلي.
أمّا عن كواليس القرار الإسرائيلي بشأن الرد، فقد كشف عنها موقع "أكسيوس" الأميركي، مشيراً في هذا السياق إلى أنّ رئيس أركان الاحتلال، هرتسي هليفي، قال حينها إنّ "المصلحة الإسرائيلية تكمن في إبقاء حزب الله خارج المعادلة، وعليه يجب أن يظل رد إسرائيل مركَّزاً على حماس".
لم يقتصر الرد على اعتداء الأقصى على لبنان، لتتبعه بعد ذلك صواريخ من سوريا في اتجاه الجولان المحتل، وهو ما شكل مفاجأة لـ "إسرائيل" التي سارعت قنواتها الإعلامية إلى فتح تغطية واسعة استضافت فيها محللين عسكريين للوقوف على أبعاد الرد ومضامينه.
تدحرج الأحداث في أكثر من ساحة في محيط فلسطين وداخلها، دفع الاحتلال إلى الإعلان عن حالة استنفار على المستويات كافة، وسارع وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت إلى مهاتفة نظيره الأميركي لويد أوستن، لإطلاعه على آخر الأوضاع الأمنية في "إسرائيل". فيما أبدى بعض إعلاميي الاحتلال استياءهم، إذ غرّد أحد مراسلي موقع "والاه العبري" في صفحته في "تويتر": "غزة، لبنان، القدس، الضفة الغربية، أراضي الـ48، أريحا، والآن: سوريا".
وحدة الساحات في فلسطين واتساعها إلى خارج حدودها، كرست معادلة ردع جديدة لطالما كان العدو الإسرائيلي يخشاها، سواء في حروبه مع الجيوش العربية أو في صراعه مع فصائل المقاومة. إذ إنّ منابع القوة في سياسته كانت ولا تزال قائمة على التفريق بين الدول العربية، وتشتيت الشعب الفلسطيني وتفكيكه عبر الفصل ما بين القطاعات: غزة والضفة وأراضي 48، والتفرغ بمواجهة كل منها على حدة.
الأحداث التي جرت مؤخراً، أظهرت أكثر فأكثر تأكّل الردع الإسرائيلي، باعتراف المسؤولين الإسرائيليين. وفي هذا السياق، يقول عضو الكنيست ووزير الأمن السابق، أفيغدور ليبرمان، إن "الرد الإسرائيلي كان نكتة مضحكة، والردع في مقابل نصر الله تآكّل كلياً".
الرعب الإسرائيلي من وحدة ساحات محور المقاومة
قبل سنتين، وفي خضم معركة "سيف القدس"، التي جاءت دفاعاً عن القدس والأقصى، ثبتت الفصائل الفلسطينية بصواريخها معادلة "وحدة الساحات" بين غزة والضفة والقدس، ثم تطورت معادلة الردع لتشمل محور المقاومة كافة، فـأضحى"الاعتداء على القدس يعني حرباً إقليمية" ، كما ذكرنا سابقاً.
عملياً، بدأت عملية إخراج نظرية "وحدة الساحات" في 13 من الشهر الماضي، خلال عملية "مجدو "، ورغم أن العديد من العسكريين الإسرائيليين قرأوها في كونها تحمل رسالة جهوزية للحرب من محور المقاومة، فإن المؤسسة الأمنية للاحتلال رأت أنّ حزب الله يستغل المشكلات السياسية في "إسرائيل" لمحاولة التأثير في الوضع الإسرائيلي.
التطبيق العملي لـ "وحدة الساحات" كان بين 6 و8 الشهر الجاري، عندما تكاتفت غزة مع لبنان وسوريا للرد على اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي بحق الأقصى، وهو ما شكل صدمة للعدو الذي أساء التقدير للوضع القائم.
الخشية الإسرائيلية من وحدة ساحات المقاومة، وعدم استعداد "إسرائيل" للقيام بحرب متعددة الجبهات، برزا بشكل واضح في عناوين إعلام كيان الاحتلال وتصريحات مسؤوليه. وفي هذا السياق، تقول صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، إنّ "إسرائيل تواجه الآن العاصفة المثالية لحربٍ متعددة الجبهات، تضمّ إيران وحلفاءها في المنطقة". مشيرة إلى أنّ "النظام الوحيد الذي من المرجح أن يتغير في المنطقة هو إسرائيل، وليس إيران".
وعليه، ترى الاستخبارات الإسرائيلية أنّ إمكانية تطور المواجهات في الساحات المختلفة إلى حرب واسعة أمر وارد، فوفقاً لجنرالات في المؤسسة الأمنية للاحتلال فإنّ "أعداء إسرائيل أصبحوا أكثر جرأة للقيام بعمليات هجومية، لأنهم يعتقدون أنّ إسرائيل ضعُفت في أعقاب الأزمة الداخلية المتفاقمة، التي قلّصت هامش مناوراتها الاستراتيجية". وكان من بين تلك التصريحات اللافتة ما قاله اللواء احتياط غرشون هكوهين، "خوف إسرائيل من الحرب يُعطي أعداءها فرصةً كبيرة في قتالها".
وفي ظل الأحداث الدراماتيكية بالنسبة إلى الاحتلال، جاء لقاء السيد نصر الله في بيروت مع رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية، ونائبه صالح العاروري، ليثير رعب العدو، والذي وصفه إعلامه، باجتماع تنسيق وتعاون، مشيراً إلى أنّ الهدف منه بث الوحدة في محور المقاومة، سوريا وإيران وحماس وحزب الله.
وتعليقاً على الصورة المشتركة للسيد نصر الله مع وفد قيادة حماس، اعتبرت القناة "12" الإسرائيلية، أن السيد نصر الله، بهذه الصورة، وضع إصبعاً في عين الإسرائيليين، موضحةً أنّ "هذه الصورة تساوي أكثر من ألف كلمة، وتشرح قصة الأسبوع الأخير الذي فتحت فيه جبهة من لبنان". وهي رسالة واضحة لـ"إسرائيل" مفادها "المهمّة أُنجزت".
الهاجس والرعب الإسرائيليان من "وحدة ساحات" المقاومة، ترجمهما المستشرق الإسرائيلي مُردخاي كيدار، الذي نشر مقالاً بعنوان "يوم القيامة"، يحاكي هجوماً مشتركاً ضد "إسرائيل" من سوريا والعراق ولبنان واليمن وغزة والضفة الغربية.
وتأتي الخشية الإسرائيلية من حرب متعددة الجبهات، في ظل ما تعيشه "إسرائيل" من انقسام داخلي، وخاصة في المؤسستين العسكرية والأمنية، وتخلّف مئات جنود الاحتياط عن القيام بمهامهم، احتجاجاً على التعديلات القضائية. وفي هذا السياق، يقول اللواء احتياط الإسرائيلي إسحاق بريك، إنّ "إسرائيل تقف على عتبة حربٍ إقليمية تقليدية لم تختبر مثلها منذ حرب 1948". مشيراً إلى أنّ "الجيش" الإسرائيلي غير مستعد لها، وعليه، فإنّ الضربة ستكون قاضية.
فيما رأى محلل الشؤون الأمنية الإسرائيلي يوسي يهوشوع أنّ "إسرائيل تطلق النار على قدميها، وأنّ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وقائد حركة حماس في قطاع غزة يحيى السنوار، والقائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام محمد الضيف، يفركون أيديهم فرحاً، في ظل ما تشهده "إسرائيل" من أزمة سياسية.
فترة أمنية معقدة تعيشها "إسرائيل" بحسب وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، "ففي كل ساحة، هناك احتمال لإمكان اشتعال الأرض، واشتعال ساحات إضافية معها".
رسائل ثلاثية الأبعاد أرسلها محور المقاومة إلى الاحتلال الإسرائيلي، بداية من غزة إلى لبنان فسوريا، مفادها أن أي اعتداء على الأقصى يعني اعتداء شاملاً، انطلاقاً من وحدة الدم والمسار والمصير، في مواجهة الإرهاب الإسرائيلي.
الرسائل الصاروخية قرأتها "إسرائيل" جيداً، وعلى هذا الأساس، تصرّف المستويان الأمني والسياسي، متفاديين الانجرار وراء حرب الجبهات المتعددة، التي يعلمان جيداً عدم مقدرتهما على تحمل أعبائها. ولعل قرار الاحتلال الإسرائيلي الأخير الاستباقي بمنع المستوطنين من دخول الأقصى حتى نهاية شهر رمضان، يكشف جانباً من قوة الردع والتوازن التي فرضتها المقاومة.
الصواريخ التي أطلقت من غزة ولبنان وسوريا، شكّلت ضربة قوية لصورة الردع الإسرائيلي، وحملت رسائل عدّة على رأسها وحدة الساحات ومركزية جبهة محور المقاومة الذي تحتل قضية القدس وفلسطين رأس أولوياته. فمهاجمة "إسرائيل" بالصواريخ خلال عيد الفصح من قطاع غزة وجنوب لبنان ليست سوى المرحلة الأولى في حرب الاستنزاف والمخطط التدميري لـ"إسرائيل" من قبل محور المقاومة، وفق ما يؤكد الكاتب والصحفي الإسرائيلي، يوني بن مناحيم، وهو ما يدفع قادة الاحتلال إلى إعادة حساباتهم جيداً قبل ارتكاب أيّ حماقة جديدة.