تصعيد "الغرب الجماعي" ضد روسيا.. كيف هيمنت واشنطن على المشهد والقرار؟
بعد مرور عام على بدء الحرب في أوكرانيا، كشفت هذه الأزمة حجم التباين في المواقف الغربية إزاء العلاقة بروسيا، وبيّنت وجود شرخٍ واضحٍ في التحالف الغربي، الأمر الذي طرح عدداً من التساؤلات بشأن وحدة الموقف الغربي في مواجهة موسكو.
على الرغم من الخلافات الواضحة في المعسكر الغربي، بشأن عدة ملفات، مثل فرض العقوبات على روسيا وتوريد الأسلحة والذخيرة إلى كييف، فإنّه كان يوجد توافق بين القوى الغربية الكبرى على هدفٍ واحد، هو تغذية الحرب ضد روسيا، ودعم استمرارها، من أجل إضعاف موسكو وإنهاكها.
"الأحداث في أوكرانيا ليست اشتباكاً بين موسكو وكييف، هذه مواجهة عسكرية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، وبين روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا، في الأساس"، هذا ما قاله سكرتير مجلس الأمن الروسي، نيكولاي باتروشيف، مؤكداً أنّ "خطط الغربيين هي مواصلة تمزيق روسيا ومحوها، في نهاية المطاف، من الخريطة السياسية للعالم".
كلام باتروشيف يدلّل على أنّ الغرب ينظر إلى المعركة مع روسيا على أنها معركة وجودية. لذلك، قام بتوحيد جهوده وتسخير تحالفاته في سبيل تحقيق هدفه، فكيف انعكس مفهوم "التعاون والتحالف الغربيين" على الحرب في أوكرانيا؟ وهل ساهم في تصعيد الحرب بدلاً من تهدئتها؟
تعاون غربي من أجل تصعيد الحرب؟
دخلت القوى الغربية الرئيسة الحربَ، بصورةٍ غير مباشرة، بهدف استنزاف الجيش الروسي والقيادة الروسية. فالغرب، وعلى رأسه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، يتعامل مع الحرب الأوكرانية، انطلاقاً من أنها ساحة إنهاك وإضعاف لروسيا وحكومة الرئيس فلاديمير بوتين.
فبروكسل وواشنطن لم تبذلا جهوداً كبيرة في تخفيف الأزمة بين روسيا وأوكرانيا منذ بدئها، بل تحركتا في الاتجاه المعاكس، من خلال توفير الأسلحة والذخيرة من أجل تغذية الحرب القائمة. وعلى الرغم من الخسائر البشرية والمادية الكبيرة في أوكرانيا، فإنّ المعسكر الغربي لم يَبدُ مكترثاً سوى لتحقيق مصالحه وجني مكاسبه، إذ قام بدعم أوكرانيا عسكرياً من دون الانخراط، بصورة مباشرة، في الحرب، وعرقل أي جهود في التوصل إلى حل دبلوماسي للأزمة.
هذا الأمر عبّر عنه رئيس الوزراء البريطاني السابق، بوريس جونسون، خلال اجتماع لمجلس العموم البريطاني، في نيسان/أبريل الماضي، عبر قوله إنّ "علينا ببساطة أن نفعل كل ما في وسعنا، وبصورة جماعية، من أجل ضمان فشل فلاديمير بوتين، وفشله الشامل".
وفي السياق نفسه، أكد وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، أنّ هزيمة القوات الروسية لن تكون كافية. واعترف قائلاً: "نريد أن نرى روسيا ضعيفة إلى حد لا تستطيع معه القيام بالأشياء التي قامت بها"، في حربها ضدّ أوكرانيا.
هذه الاعترافات الغربية تؤكد أنّ التحالف الغربي كان يهدف إلى إلحاق هزيمة بروسيا من خلال حربٍ بالوكالة، وإغراق موسكو أكثر، وتوريطها واستنزاف مواردها. وبرز ذلك من خلال فرض حُزَم متواصلة من العقوبات على موسكو، منذ بدء الحرب حتى الآن، بهدف إضعاف اقتصادها وإرهاق قدرات الدولة الروسية.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بحيث جهد المعسكر الغربي في ضخّ كل أنواع الأسلحة، بكمّيات كبيرة، في أوكرانيا، انطلاقاً من قناعة غربية مفادها أنّ مواصلة دعم كييف، وتعزيز قدراتها الدفاعية، سيضمنان استنزاف روسيا عسكرياً.
وعلى الرغم من الخلافات الكبيرة في مواقف الدول، التابعة لحلف شمال الأطلسي، "الناتو"، والولايات المتحدة، بشأن طبيعة هذه المساعدات العسكرية، وبشأن ضرورة إرسالها، فإنّ التحالف الغربي دأب على رفع مستوى التسليح الغربي لأوكرانيا، بصورة متواصلة، ليساهم عبر ذلك في تصعيد الحرب ضدّ موسكو.
إلى جانب ذلك، يرى مراقبون أنّه كان من الممكن تفادي هذه الحرب منذ بداية الأزمة، لو تجاوب القادة الغربيون مع المطالب الأمنية الروسية المشروعة، مؤكدين أنّ الغرب لم يكن جاداً منذ البداية في التوصل إلى اتفاقٍ مع روسيا، سواءٌ بشأن الضمانات الأمنية، أو تطبيق اتفاقية مينسك المتعلقة بالشرق الأوكراني. وهذا ما أكدته المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، بقولها إنّ الغرب ماطل في تنفيذ اتفاقية مينسك من أجل منح أوكرانيا الوقت لشنّ الحرب على موسكو.
وهذا، إن دلّ على شيء، فهو يؤكد أنّ الغرب لم تكن لديه نيّات في التوصل إلى اتفاقية سلام، أو إلى تهدئة عسكرية، بل كان يسعى جاهداً من أجل ضمان وقوع الحرب واستمرار القتال أطولَ وقتٍ ممكن.
اقرأ أيضاً: عسكرة شرقي أوروبا.. ما الذي يريده الغرب أبعد من أوكرانيا؟
هل هو تحالف فعلاً؟
لم يمرّ الدعم العسكري الغربي الكثيف لأوكرانيا، إلى جانب العقوبات الاقتصادية التي فرضها على روسيا، من دون عواقب عكسية كارثية على الغرب، إذ تسبب ذلك بنفاد الأسلحة من المخازن، فضلاً عن الركود الاقتصادي، الذي أدخل الاقتصاد الغربي في أزمات متتالية، كان من تداعياتها المباشرة تصاعد المظاهرات المنددة بالتضخم والغلاء المعيشي، إلى جانب انخفاض القدرة الشرائية للمواطنِين الأوروبيين والأميركيين.
هذه النتائج كانت ضمن مخاوف عدد من الدول الأوروبية، التي حرصت، منذ بداية الحرب، على المحافظة على تعاونها مع روسيا، بسبب المصالح الحيوية التي تجمعها بها، بحيث اتخذت مواقف حذرة، انطلاقاً من أنّ مصالحها الاقتصادية هي في أولوية حساباتها، ولا سيما أنّ العقوبات ضد روسيا تهدّد اقتصادها.
لذلك، حرص عدة دول أوروبية على التركيز على الأساليب الدبلوماسية في خفض التوترات المتصاعدة بسبب حرب أوكرانيا، مع غياب الرغبة في التصعيد ضد روسيا، وذلك حفاظاً على مصالحها مع موسكو.
إلّا أنّ الأمور لم تستمرّ على هذا النحو، لأنّ الولايات المتحدة دفعت الأمور في اتجاه يشبه ما حدث أيام غزو كل من أفغانستان والعراق: "من ليس معنا.. فهو ضدنا"، وذلك من خلال تصوير الحرب ضدّ روسيا على أنها من أجل الدفاع عن "الحضارة الغربية" و"القيم الغربية". لم يكن المفهوم الروسي للحرب بعيداً عن ذلك، لكن المغاير هنا أنّ الولايات المتحدة صنّفت "القيم الغربية"، وفق مصالحها الخاصة، بينما الكرملين يرى فيها حرباً ضد الغرب، الذي تختصره الولايات المتحدة في مصالحها الخاصة.
لذا، عندما تحدثت موسكو عن أنها تخوض حرباً ضد "الغرب الجماعي"، فإنها تقصد المفهوم الأميركي لذلك الذي وضع أوروبا ضمن مجال التابع لا الحليف. وهو ما برز بصورة واضحة خلال هذه الأزمة.
لم يكن مستغرباً إذاً أنّ الولايات المتحدة كانت أكثر حرصاً على ديمومة الحرب، لأنها تبحث عن مصالحها الخاصة، وليس عن مصلحة الحلف الغربي، بصورة جماعية. والهدف من إطالة أمد الحرب في أوكرانيا كان تثبيت قواعد الهيمنة الغربية، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والحيلولة دون بروز أي قوة منافسة للغرب، وذلك عبر رفع تكلفة الحرب الأوكرانية.
مَن المستفيد الأكبر من استمرار الحرب؟ الولايات المتحدة، من دون شك، إذ لم يكن من الصدفة أن يدير الحرب في مواجهة روسيا، من الجانب الأوكراني، وزيرُ الدفاع الأميركي، لويد أوستين، الذي يمثّل مصالح شركة "رايثون" الأميركية العملاقة للصناعات العسكرية.
وكانت صحيفة "بوليتيكو" الأميركية أفادت، مطلع الشهر الفائت، بأنّ كبار المسؤولين الأوروبيين غاضبون من إدارة بايدن، واتهموا الولايات المتحدة بالتربّح من أزمة أوكرانيا، من خلال بيع الغاز بأسعار مرتفعة، وعبر بيع الأسلحة.
ووفقاً لتحليل أجرته "أس آند بي غلوبال كوموديتي" البريطانية، في وقتٍ سابق، لصحيفة "فايننشال تايمز"، جنى منتجو النفط الأميركيون أكثر من 200 مليار دولار من الأرباح، منذ بداية الأزمة الأوكرانية، بحيث استفادوا من الاضطرابات الجيوسياسية، التي زعزعت سوق الطاقة العالمية، وأدَّت إلى ارتفاع الأسعار. وبينما تحاول دول الاتحاد الأوروبي تقليل اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية، فإنها تتحول إلى الغاز الأميركي، لكن السعر الذي يدفعه الأوروبيون هو ما يقارب 4 أضعاف تكاليف الوقود نفسها في الولايات المتحدة.
من الواضح إذاً أنّ الولايات المتحدة كانت تقود التوجه الغربي إلى تصعيد الحرب وإطالة أمدها، بحيث تستثمر الإدارة الأميركية شخصياً في الحرب الأوكرانية، وتستغلّها من أجل جني المكاسب، وإن كان ذلك على حساب تفتيت اقتصادات حلفائها وزعزعتها.
اقرأ أيضاً: من جرّاء الحرب في أوكرانيا.. صانعو الأسلحة الأميركيون يحققون أرباحاً قياسية
هل يستمر؟
يُطرح عدد من التساؤلات بشأن إمكان أن يكون ما نشهده اليوم هو مرحلة الذروة بالنسبة إلى ما يسميه الغرب تحالفاً، إذ توجد خيارات صعبة مقبلة، قد تجعل من الصعب على القوى الغربية أن تتابع وفق الطريقة نفسها.
قد تتّجه أوروبا إلى البحث عن مصالحها الخاصة، ولا سيما أنّها تقف أمام احتمالات صعبة، منها احتمال الارتفاع المستمر في أسعار الطاقة لأعوام، وتراجع التصنيع وانخفاض مستويات المعيشة، واحتمال نشوب حرب تجارية مع الولايات المتحدة في حالة حدوث ركود عالمي.
وكانت الدول الأوروبية شهدت غضباً متزايداً، في الأشهر الأخيرة، بسبب الدعم الحكومي الأميركي لبعض القطاعات الوطنية، وهو ما يؤثر بسلباً في الصناعات الأوروبية، فلقد أدى النزاع المتزايد بشأن "قانون بايدن لمكافحة التضخم"، وهو حزمة ضخمة من التخفيضات الضريبية للصناعات الأميركية ودعم لبرامج الطاقة البديلة، إلى رفع المخاوف الأوروبية من القرارات الأميركية "الأنانية"، بعد أن أثبتت واشنطن أنّها تضع مصالحها الخاصة فوق أي اعتبار، حتى لو كان الأمر على حساب تهديد علاقتها بحلفائها.
الغرب، وخصوصاً أوروبا، سيتضرر أكثر من طول أمد الحرب، وذلك بسبب استمرار تدفق اللاجئين، وارتفاع معدلات التضخم، ومختلف أنواع الضغوط الاقتصادية والسياسية، والتي قد تخلق مشاكل وانقسامات سياسية بشأن سبل التعامل مع الأزمة، الأمر الذي قد يتسبب بمشاكل داخل دول الاتحاد الأوروبي، تهدّد وحدته.
من النادر أن تكون المواقف السياسية ثابتة في الحروب والنزاعات. وبالتالي، قد يكون من الخطأ افتراض أنّ الوحدة الغربية ستستمر، بصورة تلقائية، خلال التحديات المقبلة.