بولندا تشرّع أبوابها لصفقات السلاح مع كوريا الجنوبية
غيّرت المواجهة الروسية -الأطلسية المندلعة منذ 24 شباط/فبراير 2022 ، قواعد الأمن الدولي، فعدّلت معها بعض البلدان المعروفة بشبه حيادها ونهجها السلمي (بعد الحرب العالمية الثانية) ككوريا الجنوبية من استراتيجيتها العسكرية، وعمدت في الآونة الأخيرة إلى استغلال تقدّمها وتطوّرها العلمي والتكنولوجي الهائل، بصناعة الأسلحة.
فالأزمة الأوكرانية، أتاحت الفرصة لشركات الأمن والطاقة في كوريا الجنوبية لتعميق المشاركة مع دول وسط وشرق أوروبا (CEE) وعقد صفقات ضخمة ـــــ تجاوزت الحدود الآسيوية ــ مع فاعلين مؤثّرين مثل بولندا، وبالتالي حجزت لنفسها مقعداً متقدّماً في سوق تجارة الأسلحة دولياً، منافسة بذلك بلداناً مثل الصين وحتى أميركا.
أين موقع كوريا الجنوبية في سوق السلاح العالمي؟
على مدى السنوات القليلة الماضية، شهدت كوريا الجنوبية نمواً سريعاً ومذهلاً في صادراتها من الأسلحة. إذ زادت سيؤول استناداً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام ــــ التي كانت في الفترة بين 2017-2021 ، ثامن أكبر مصدر للأسلحة بنسبة 2.8 بالمئة، من الحصة العالمية (والثانية في آسيا بعد الصين )ـــ من قيمة صادراتها، بنسبة هائلة بلغت، حوالى 177 بالمئة، مقارنة بالفترة بين 2012-2016.
أكثر من ذلك، كشف تقرير لبنك التصدير والاستيراد الكوري Korea Eximbank ، أن هذا الاتجاه استمر طوال عام 2022، ومن المرجح أن يزداد في المستقبل. اللافت للانتباه أنه خلال تلك الفترة، لم يصل سوى ربع صادرات كوريا الجنوبية من الأسلحة إلى أوروبا، حيث تمثّل المملكة المتحدة وحدها أكثر من نصف هذه الواردات. ومع ذلك يرجّح الخبراء أن هذه الأرقام قد تتغيّر بشكل كبير للغاية، بسبب الصراع في أوكرانيا، كون بلدان حلف "الناتو"، تجهد لتطوير إمكاناتها وقدراتها العسكرية بشكل مكثّف وسريع جداً.
وما هو حجم صفقات الأسلحة بين كوريا الجنوبية وبولندا؟
في الحقيقة، يعد حجم مشتريات الأسلحة من كوريا الجنوبية غير مسبوق من وجهة النظر البولندية. والأهم أن تنفيذها - جنباً إلى جنب مع صفقات أخرى من المتعاقدين الأميركيين والمحليين - سيجعل من بولندا إحدى أكبر القوى العسكرية غير النووية في أوروبا.
في حزيران 2022 ، بدأ هذا التحوّل، عندما وقّع وزير الدفاع البولندي ماريوس بواشزاك، اتفاقيات مع كوريا الجنوبية لشراء حوالى 1000 دبابة قتال رئيسية من طراز" K2"، و 672 مدفع "هاوتزر" ذاتي الدفع من طراز" K9"، و 48 طائرة مقاتلة خفيفة من طراز" FA-50". (الكلام يعود لوكالة الصحافة البولندية نقلاً عن وزارة الدفاع البولندية في 27 آب/أغسطس 2022).
ما يلفت الانتباه، أن القيمة الصافية الإجمالية للعقود التي وقّعتها الشركات الكورية "هيونداي روتيم" و"هانوا ديفنس" و"كوريا إيروسبيس إندستريز" ـــ بلغت حوالى 8.77 مليارات دولار.
التعاون الثنائي بين البلدين، تنامى أكثر في تشرين الأول/أكتوبر 2022، عندما قررت بولندا شراء 218 نظام مدفعية صاروخية من طراز "K239 Chunmoo " مع حزم من مستلزماتها اللوجستية، وإمدادات الذخيرة بقيمة 3.55 مليارات دولار. وعليه تمثل هذه الصفقات الأربع، أكبر عقود أسلحة في تاريخ الصناعة العسكرية الكورية.
وما هو سرّ تفضيل بولندا للأسلحة الكورية الجنوبية؟
يعتبر المسؤولون البولنديون أن العروض الكورية الجنوبية مواتية لهم، لعدة أسباب أبرزها : الاستراتيجية التي تعتمدها الشركات في سيؤول، والقائمة على سرعة الإنتاج والتسليم. وقد تجسّد ذلك بتسليمها الدفعة الأولى إلى بولندا بالفعل، في كانون الثاني/يناير 2022 المكوّنة من 10 دبابات " K2 " و 24 مدفع هاوتزر ذاتية الدفع" K9 ".
زد على ذلك، تقول وراسو إنه سيتم تسليمها شحنات أخرى ــ لسد الفجوة" الحاصلة في الجيش البولندي بسبب إمدادات الأسلحة لأوكرانيا ـــ تشمل: 180 دبابة" K2 "بحلول عام 2025، و 24 مدفع هاوتزر" K9" إضافياً بحلول نهاية عام 2023 . كما تتوقّع بولندا تسليمها أول 12 طائرة من طراز" FA-50 " في منتصف عام 2023، على ذمة وكالة يونهاب الكورية الجنوبية للأخبار.
وما هي العوامل التي دفعت كوريا الجنوبية لاختيار بولندا وتعزيز تعاونها العسكري معها؟
هناك عدة عوامل أدّت دوراً أساسياً في تعميق التعاون العسكري والصناعي بين بولندا وكوريا الجنوبية ويمكن إيجازها بالآتي:
أولاً: ثمة حقيقة مفادها أن الشركات الكورية ببساطة لا تواجه منافسة تذكر (محلية بولندية) في بعض قطاعات هذه الأسواق. وانطلاقاً من هذه النقطة، تعدّ وارسو واحدة من العواصم الوحيدة في المنطقة القادرة والرغبة في آن، في أن تصبح مركزاً للإنتاج الدفاعي الكوري بسبب إمكاناتها القوية موضوعياً وطموحها لتصبح كقائد إقليمي (بالاستفادة من دعم وارسو الكبير و الثابت لأوكرانيا) فضلاً عن مرافق الإنتاج لديها، والمناسبة لتكون قادرة على استيعاب نقل التكنولوجيا الكورية.
ثانياً: هناك ميزة الموقع الجغرافي لبولندا . فالبلاد تقع في قلب أوروبا، وتوفّر طرقاً تجارية بديلة للمنتجات الدفاعية الكورية التي تصنعها بولندا. ولهذا اشترت تركيا وفنلندا والنرويج وإستونيا المجاورة بالفعل مدافع الهاوتزر K9 - الصادرات العسكرية الأكثر شعبية لكوريا الجنوبية - ومن المتوقع أن يتم تكثيف العقود الإقليمية المماثلة مستقبلاً.
ثالثاً: الخط الساحلي البولندي على بحر البلطيق، الذي يجعل الأسواق الأفريقية والشرق أوسطية متاحة أيضاً أمام سيؤول (ويستفيد منه الطرفان)، وهو أمر بالغ الأهمية بالنظر إلى احتمال استخدام الأسلحة الكورية في جميع أنحاء أفريقيا.
رابعاً: وجود عدد هائل من الشركات الكورية الجنوبية في بولندا. وهو ما تحدثت عنه القائمة بالأعمال البولندية برزوزوفسكا التي كشفت عن وجود أكثر من 270 شركة كورية في بولندا، وأن كوريا هي واحدة من أكبر المستثمرين من خارج الاتحاد الأوروبي في بلدها.
وفي هذا السياق، تهدف شركة Hanwha Defense، لدمج إمكاناتها مع مجموعة الأسلحة البولندية (Polska Grupa Zbrojeniowa) في إنتاج مدافع الهاوتزر: K9. و لهذه الغاية، سيتم إنتاج الإصدار الجديد لهذه المدافع من طراز "K9PL" في بولندا، بدءاً من عام 2026.
من هنا، وبناء على ما تقدّم، من الطبيعي أن تسهم المنشآت الصناعية المبنية حديثاً في بولندا في نقل المعرفة والتقنيات من كوريا الجنوبية، مما سيؤدّي إلى تحسين قدرات الإنتاج والخدمات للصناعات العسكرية الثقيلة المتخلّفة تقنياً، وهذا بدوره سيوفّر أيضاً فرصة لتصبح مركزاً لإنتاج كوريا الجنوبية لمزيد من شحنات الأسلحة إلى أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط.
وانطلاقاً من هذه النقطة، سيؤول ترغب بالتأكيد في ترسيخ مكانة متقدمة لها لدى الدول الأخرى، وتأمل بالتالي اختراق الأسواق الأخرى. وفي هذا الإطار أعلن الرئيس التنفيذي لشركة كوريا للصناعات الفضائية "آهن هيون هو"، أن "بولندا هي المكان الذي تبدأ فيه رحلتنا لتصدير 1000 مقاتلة من طراز FA-50"، مضيفاً أن بولندا مشتر محتمل للطائرة المقاتلة KF-21 "الجيل 4.5"، والتي هي قيد التطوير حالياً.
وماذا عن الاستثمارات الأخرى بين سيؤول ووارسو؟
في الواقع إن العلاقة العسكرية التي أقيمت مؤخراً بين كوريا الجنوبية وبولندا هي ظاهرة متعددة الأبعاد، تتجاوز الأمن بمعناه التقليدي. فعقود الأسلحة الواسعة النطاق، غالباً ما تكون دائما مسيسة، وتتبعها أو ترافقها علاقات اقتصادية مكثفة.
فخلال السنوات الأخيرة، استحوذت الكيانات الصناعية في كوريا الجنوبية، على أكبر تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى السوق البولندية، حيث احتلت المرتبة الرابعة في عام 2019 (بحسب إحصاءات الاستثمار المباشر الدولي للعام 2021، التي أوردها موقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)) وارتفعت إلى المرتبة الأولى في عام 2021، وفقاً لبرزوزوفسكا.
علاوة على ذلك، يسهم التجاور الجغرافي لصناعة السيارات العملاقة في ألمانيا من بولندا، في جعل وراسو منطقة نائية اقتصادية طبيعية لها، بما فيها الاستثمارات في القطاعات ذات الصلة، مثل صناعة البطاريات.
في المحصّلة، وأمام هذه المعطيات والأرقام، قد تكون هذه العلاقة الثنائية بمثابة نقطة انطلاق أخرى للمشاركة الاقتصادية والعسكرية الأعمق لكوريا الجنوبية في منطقة أوروبا الوسطى والشرقية.
المصادر :
1 ـــ https://read.oecd-ilibrary.org/finance-and-investment/oecd-international-direct-investment-statistics-2021_981db434-en?mc_cid=8c2ee46222&mc_eid=cf1ac85249#page247
2 ــ http://www.koreaherald.com/view.php?ud=20220516000860&mc_cid=8c2ee46222&mc_eid=cf1ac85249
3 ـــ (LEAD) KAI signs US$3 bln deal with Poland to export 48 FA-50s | Yonhap News Agency (yna.co.kr)
4 ــ https://www.sipri.org/sites/default/files/2022-03/fs_2203_at_2021.pdf
5 ــ https://www.scmp.com/news/asia/east-asia/article/3186411/south-korea-emerges-fastest-growing-arms-exporter-world
6 ــ https://www.koreatimes.co.kr/www/nation/2023/01/113_333963.html?mc_cid=8c2ee46222&mc_eid=cf1ac85249
7 ـــ https://www.polskieradio.pl/395/7784/artykul/3026609,polish-defence-minister-approves-deal-to-buy-tanks-howitzers-from-south-korea
8 ــ https://armstrade.sipri.org/armstrade/page/trade_register.php