علم فلسطين.. تاريخٌ يُدافع عن القضية
"لو كانت المنطقة الواقعة بين أسوار القدس مدينةً قائمةً، في حدّ ذاتها، لكانت واحدةً من أكثر مدن العالم مراقَبةً". هذا ما كتبه الصحافيّ ماثيو تلر، في كتابه "أرباع القدس التسعة"، في إشارةٍ إلى شبكة الرقابة الإسرائيليّة، التي ترصد كاميراتها الـ400 وتمسح كلّ زقاقٍ وعقبةٍ وزاويةٍ في البلدة القديمة في القدس المحتلة، وتحاسب كل من يرفع العلم الفلسطيني من الأهالي.
وعلى رغم رقابة الاحتلال، أمنيّاً وتقنيّاً، فإنه ما من رقعةٍ تتجلّى فيها هشاشةُ السيادة الإسرائيليّة بالوضوح الذي نراه في القدس المحتلة عموماً، وفي بلدتها القديمة بصورة خاصّةً، بحيث تعجزُ عن تمويه هذه الهشاشة كلُّ المحاولات الإسرائيليّة، الماديّة منها والرمزيّة، من أجل عرض العضلات وفرض السيطرة، وزرعِ ثُكَن مراقبةٍ عسكريّة، وصولاً إلى التنكيل المُمنهج بالفلسطينيّين، وإحكام الخناق على أهل المدينة.
تأتي ضمن هذه المساعي الحرب الإسرائيلية على كلّ من يرفع العلم الفلسطينيّ في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة أيضاً. علمٌ يصرُّ الاحتلال على تسميته "علم منظمة التحرير الوطنيّ"، لا "العلم الفلسطينيّ"، وذلك ضمن إنكاره المستمر أنَّ الفلسطينيّين شعبٌ ذو ذاكرة تاريخيّة ورموز وطنيّة ووجود سياسيّ سابقٍ لوجودهم.
علم فلسطين.. ثقافة فلسطينية
تكمن أهمية العلم الفلسطيني في ارتباطه مباشرةً بتاريخ نضال الشعب في فلسطين على مر الزمان. وتكمن أيضاً في ارتباط ألوانه بالثقافات الفلسطينية التاريخية التي عُرفت بـ"جواهر الأثرية" لفلسطين. والعلم هو تعبير عن وجود شعب له هوية وعلم ووطن، وله حقوق طبيعية في الحرية والاستقلال والسيادة على وطنه. وهذا الأمر يفهمه الاحتلال جيداً. وبما أن استراتيجيته الاستعمارية الاحتلالية ترفض الاعتراف بوجود شعب فلسطيني. إذاً، هذا يتطلب إلغاء حقوقه والرموز التي تشير إلى وجوده على أرض فلسطين.
هذا العلم الذي استخدمه الفلسطينيون، منذ النصف الأول من القرن العشرين، من أجل التعبير عن طموحهم الوطني، يتكون من 3 خطوط أفقية متماثلة، هي من الأعلى إلى الأسفل: أسود وأبيض وأخضر. وإلى جانبها مثلث أحمر متساوي الضلعين، قاعدته عند بداية العلم. القاعدة تمتد عمودياً، ورأس المثلث واقع عند ثلث طول العلم أفقياً.
صمّم الشريف حسين الشكل الأساسي للعلم الحالي، وكل لون يحمل معاني خاصة بالثقافة الفلسطينية. فالأسود يعني الحِداد على الظلم الذي يعانيه أهالي فلسطين.أمّا اللون الأبيض فيرمز إلى السلام و المحبة. والأخضر يعني ربوع أرض فلسطين وسهولها الخضراء، ويعني الخير والنماء والأمل بالمستقبل. وفيما يخص اللون الأحمر، فهو لون الدم، ويعني الشهادة والتضحية والعطاء، ويرمز إلى الدفاع عن الأرض وتحريرها، وإلى الشهداء والجرحى.
كذلك، يُشار بالحديث عن تاريخ العلم الفلسطيني، إلى الاجتماع الأول للمجلس الوطني الفلسطيني، في الـ28 من أيار/مايو 1964، حين وضع المجلس ميثاقه القومي، ونصت المادة الـ(27) منه على أن يكون لفلسطين علم وقسَم ونشيد، وحددت ألوانه بالترتيب كالتالي: أخضر فأبيض ثم أسود، مع مثلث أحمر.
ومع انطلاق الثورة الفلسطينية في 1 كانون الثاني/يناير من عام 1965، كان العلم شعاراً لها. وفي 15 تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1988، تبنت منظمة التحرير الفلسطينية العلَم، ليكون علم الدولة الفلسطينية. وفي الـ3 من كانون الأول/ديسمبر من عام 2005، صدر مرسوم رئاسي فلسطيني، يحمل الرقم الـ29، بشأن تحديد أبعاد العلم الفلسطيني.
وفي الـ22 من كانون الأول/ديسمبر من عام 2005، صدر قانون حُرمة العلم الفلسطيني، ويحمل الرقم الـ(22) من عام 2005، يحدد ألوان العلم ومقاييسه، وكيفية احترامه، وأين يُرفَع، والعواقب لمن يخالف أحكام القانون. قانونياً، فُرض على الجميع احترام العلم، وحظر الإساءة إليه أو الاستهانة به، قولاً أو فعلاً. وتمّ التشديد على الجهات كافة، وعلى الأفراد أيضاً، الملزمين برفع العلم، بوجوب المحافظة على نظافته وصيانته على نحو يليق بمكانته وبرمزيته.
كما حدّد القانون رفع العلم الفلسطيني في جميع مقار السلطة الوطنية، ووزاراتها، والمؤسسات والمكاتب التابعة لها، ومؤسسات القطاع العام كافةً، ومقار أجهزتها، وقواتها، وممثلياتها في الخارج وفي الأعياد والمناسبات الوطنية كافةً. وحُظِرَ رفع أي علم غير العلم الفلسطيني في الدوائر والمؤسسات الحكومية والأماكن العامة. كما حُظِرَ رفع أي علم أو شارة على شكل علم فوق مستوى العلم الفلسطيني في المكان الواحد.
اقرأ أيضاً: قصة علم فلسطين.. من الثورة العربية إلى الثورة الفلسطينية
تاريخٌ يُدافع عن علم
مع انتهاء حرب عام 1967، وبعد أن فرغ الاحتلال من السيطرة على ما تبقّى من الأراضي الفلسطينيّة (الضفّة الغربية والقدس وقطاع غزّة)، حوّل بعض انشغاله إلى السيطرة على الرموز، ومن ضمنها العلَم الفلسطيني. حينها عُدَّت حيازةُ العلم الفلسطيني عملاً غير قانوني، ومُنِعَ رفعُه بأيّ شكلٍ من الأشكال في الأراضي المحتلّة عام 1967.
في ظلّ هذا المنع، أصبح التعاملُ مع العلم الفلسطينيّ، وخصوصاً في الانتفاضة الأولى، سرّاً يتطلب خطّة مدروسة. تحوّل العلم فيها إلى صناعةٍ شبيهةٍ بالصناعة العسكريّة، تَخيّطهُ النساءُ سرّاً في بيوتهن مما يتوافرُ لهن من الأقمشة الملوّنة، ويُسلّمنهُ في عمليّةٍ سريّةٍ إلى الشبان من أجل رفعه في المواجهات مع قوّات الاحتلال.
كذلك، استُخدِم العلم الفلسطيني في ظلّ الانتفاضة الأولى ككلمة السر للدخول بالسيارة ذات لوحة التسجيل الصّفراء 2 إلى شوارع الفلسطينيين وأحيائهم، إذ جرت العادة أن يضع مُلّاك تلك السيارات العلَم على "تابلو" السيّارة ليعلم الشبّان بأن مَن في السيارة فلسطيني، فيمتنعون بذلك عن رشقها بالحجارة. وإلى اليوم، يحمي العلمُ الأمواتَ كما الأحياء، ففي جنازات الشّهداء نراه ملتفّاً حول جسد الشّهيد.
المخاوف الإسرائيلية من العلم
المخاوف الإسرائيلية الحالية في عام 2023، من رفع الأعلام الفلسطينية، بدت واضحة من خلال القرارات الأخيرة التي اتخذها وزير الأمن القومي في حكومة الاحتلال الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، بشأن منع رفع علم فلسطين في الأماكن العامة، داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهذا ما أثار استياء الفلسطينيين داخل فلسطين وخارجها.
يرى بعض المحللين أنّ هذه الحرب هي حربٌ هوجاء وغير عقلانيّة ومضرّة بصورة الاحتلال وسمعته، ويتساءلون: أيُعقل أن يهاجمَ جنودٌ مدججون علم فلسطين؟ لماذا؟ لأن رفع العلم الفلسطينيّ، في سياقاتٍ معيّنة، يتجاوز حدود المعركة الرمزيّة، على أهمّيتها، ليصبحَ فعلاً سياسيّاً تحرّريّاً يستعيد خلاله الفلسطينيون إرادتَهم السياسيّة وسيادتهم على المدينة. يكتسب رفع العلم قيمةً لا تتباين كثيراً عن تلك التي يحملها إلقاء حجرٍ أو زجاجة مولوتوف، لأنه يُهدِّد "السيادة" الإسرائيليّة ويعرّي هشاشتها ويُعلن أنها طارئة وعابرة.
الاحتلال الإسرائيلي يدرك جيداً أن لا مكان له في فلسطين ما دام يوجد فيها شعب يدافع عن فلسطين. هذا ما قاله المحلل السياسي المختصّ بالشأن الإسرائيلي، أليف صباغ، خلال حديثه إلى الميادين نت، "من هنا كانت السياسة الإسرائيلية حتى أوسلو تمنع رفع العلم الفلسطيني وتعدّه تحدياً للدولة، وتحاول أن تفرض العلم الإسرائيلي في كل المؤسسات الرسمية العربية، مثل المجالس المحلية والمدارس والمكاتب الحكومية المتعددة، في تلقر والمدن العربية. وكانت تراقب ذلك وتعاقب من لا يرفع العلم الإسرائيلي في المؤسسات الرسمية".
وبشأن الحديث عن "قانون الاحتلال"، قال صباغ إنه "في الوقت الحاضر لا يوجد قانون يمنع رفع العلم الفلسطيني (خوفاً من الرأي العام). لذلك، ردت شرطة الاحتلال على بن غفير بالقول إن توجيهاته لا يمكن تطبيقها، وإذا أراد ذلك فعليه أن يسن قانوناً يمنع رفع العلم الفلسطيني".
بعض "القوى اليهودية"، بحسب صباغ، ترى أن رفع العلم الفلسطيني هو تعبير عن رفض الاحتلال. وأضاف أن "من المتوقع أن يذهب بن غفير إلى الحكومة لسن قانون، ويستطيع أن يحصل على أغلبية، لكنها بالتأكيد ستؤدي إلى مواجهات ميدانية في الجامعات وفي المدن الفلسطينية المحتلة عام 48، وفي المناسبات الوطنية، لأن الشعب الفلسطيني لن يرضى بهذه القرارات".
وبهدف الفصل بينهم وبين سائر أبناء الشعب الفلسطيني، اختار بن غفير أن يمنع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 48 من رفع العلم الفلسطيني. وفي هذا الصدد، قال صباغ إنه "بعد أن تبين للمحتل الإسرائيلي، في أيار/مايو 2021، أنه غير قادر على هزيمة الشعب الفلسطيني، أو فرض منع العلم الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، اختار فلسطينيي الداخل المحتل بهدف تركيعهم، لأن العدو يظن أنه يستطيع أن يستفرد بهم".
اقرأ أيضاً: حكومة المتطرف والأكثر تطرفاً: إلى أين سيقود نتنياهو "إسرائيل"؟
هذا الاستفراد الإسرائيلي بفلسطينيي الداخل المحتل، بحسب صباغ، يأتي في وقت لا يوجد قانون دولي يحميهم، ولا مجتمع دولي يتدخل للدفاع عنهم. وبالإضافة إلى ذلك، قال المحلل الفلسطيني إن بن غفير يحاول أن "يفي بما وعد به جمهور ناخبيه الفاشي".
النتيجة، وفقاً لصباغ، هي أن "الشعب الفلسطيني، في كل الأراضي المحتلة، لن يتراجع عن رفع العلم الفلسطيني مهما كانت التضحيات، فزمن الخوف والتردد انتهى". وختم بالقول: "نحن أكثر من مليونَي فلسطيني، ولدينا من حضور شعبنا وانتشاره في كل مكان، وعمق الانتماء، ما يسمح لنا بأن نحافظ على المكتسبات التي حققناها بالنضال، وليس بالتذلل".