العالم 2023: المواجهة بين روسيا والأطلسي.. عن المتوقع والمؤكد
قبل الدخول في عامٍ جديد من الحرب في أوكرانيا، ظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في عدّة خطاباتٍ موجّهة إلى الشعب الروسي والدول الغربية على السواء، ليحدّد المسار الذي ستنتهجه موسكو في ما يخص العملية العسكرية في أوكرانيا.
بوتين، ومن خلال النقاط التي حددها لمستقبل الصراع الروسي الأطلسي في أوكرانيا، بدا واضحاً في توصيف طبيعة هذا الصراع ومستقبله، كما بدا واثقاً من خطواته التي سيتخذها في العام المقبل، فهو أكّد، خلال اجتماع موسع مع قيادات وزارة الدفاع الروسية قبل أيام، أنّ العملية العسكرية الروسية، "تأتي في إطار جهدٍ تاريخي لمواجهة التأثير الزائد عن الحدّ للقوى الغربية في الشؤون العالمية"، غير أنّها أيضاً تأتي من أجل "حماية السكان، الذين تعرّضوا للاضطهاد والإبادة الجماعية من قبل نظام كييف، لمدّة 8 سنوات".
أمّا بشأن الخطوات الروسية التي ستُتخذ في أوكرانيا، فشدّد الرئيس الروسي على أنّ العملية العسكرية "مستمرة حتى تحقيق أهدافها"، مشيراً إلى أنّ "تنفيذ ضرباتٍ على البنى التحتية الأوكرانية بات أمراً لا مفرّ منه، على ضوء الهجمات الاستفزازية التي تشنّها كييف على البنية التحتية المدنية الروسية".
وعلى الرغم من مواقفه الحازمة هذه بشأن مستقبل العملية العسكرية الروسية، لم يُغيّب بوتين احتمال اللجوء إلى المفاوضات مع الأطراف المشاركة في الحرب كافة؛ لحل هذا الصراع.
فإلامَ تستند روسيا لتبدو بهذا الحزم في مواصلتها المعركة في أوكرانيا، وإلى أي وجهةٍ يمكن أن يأخذ العام الجديد هذه الحرب؟ هل إلى مزيدٍ من التصعيد، أم توجه نحو اتفاق للسلام، في وقتٍ تستمر الدول الغربية في مساعدة أوكرانيا اقتصادياً وعسكرياً، ويزداد الوجود العسكري على حدود الاتحاد الروسي.
قدرات روسيا العسكرية الآن وفي المستقبل
بالحديث عن وضع القوات الروسية في ميدان المعركة، فإنّ هذه القوات تواصل مهامها، وتقصف البنى التحتية الأوكرانية، كما توجّه ضرباتٍ على نظام القيادة والسيطرة العسكرية الأوكرانية باستمرار، حتى تحقيق كامل أهداف العملية العسكرية، وفق بوتين.
وفي هذا السياق، كشفت هيئة الأركان الروسية، قبل أيام، أنّ جبهة القتال الحالية في إطار العملية العسكرية في أوكرانيا، تمتدّ على 815 كيلومتراً، مشيرة إلى أنّ جهود القوات المسلحة الروسية حالياً تتركز على جمهورية دونتيسك، وذلك بعد تحرير كامل جمهورية لوغانسك.
اقرأ أيضاً: لوغانسك تبسط سيطرتها على كامل أراضيها.. الأهمية الاقتصادية والجيوسياسية
الأمر الذي أكّده الكاتب والباحث في العلاقات الدولية، محمد سويدان، قائلاً إنّ "الهدف الأول في المستقبل القريب للقوات الروسية هو إحكام السيطرة على دونتيسك، وبالتالي إحكام السيطرة على كامل الدونباس".
وأضاف سويدان للميادين أنّه "بعد ذلك، يمكن أن نرى تحركات روسية في زاباروجيا وخيرسون"، معتقداً أنّ "ما يتم تداوله في الإعلام الغربي عن عملية برية روسية كبيرة في الشتاء أو أول الربيع، هو أمر مستبعد".
وأشار إلى أنّ الجيش الروسي، بدلاً من ذلك، سيحاول في القريب "تثبيت خطوط الجبهة واستهداف مراكز الطاقة والبنى التحتية في أوكرانيا، بهدف إضعاف الدولة".
وبطبيعة الحال، يحتاج الجيش الروسي إلى مزيد ومزيد من الذخائر لمواصلة هذه العملية في المستقبل، الأمر الذي استشرفه بوتين قبل أيام، مؤكّداً أنّ "لا مشكلة لدى روسيا في تمويل كل ما يحتاج إليه الجيش، لا سيما تأمين كل المستلزمات الضرورية للجنود الروس من معدات".
وأشار إلى أهمية "تحسين الخصائص الفنية للأسلحة والمعدات التي يستخدمها الجنود الروس بشكلٍ كبير بناءً على الخبرة القتالية التي اكتسبوها"، مطالباً "وزارة الدفاع "بتحديث الآليات الهجومية والعمل على تطوير منظومة الطائرات المسيّرة وتكاملها مع الهيئات الاستخبارية العسكرية".
"خيبة أملٍ" غربية وأميركية من مفعول العقوبات على روسيا
تبعاً لما ذُكر سابقاً، يمكن القول إنّ روسيا تستند إلى قدرتها العسكرية وإمكانية تطويرها في الأيّام المقبلة من الحرب، لكنّها تستند أيضاً إلى قدرتها على الصمود في وجه العقوبات الغربية.
هذا الأمر شكّل "خيبة أملٍ" غربية وبالأخص أميركية، ذلك لأنّ الوضع الحالي لروسيا ورؤيتها المستقبلية، على عكس ما كانت دول "الناتو" تريد تحقيقه، من خلال فرض العقوبات على روسيا بشكل هستيري، طالت الجيش والاقتصاد والأفراد وموارد الطاقة، منذ أن بدأت العملية العسكرية في شباط/فبراير الماضي.
ولم يقتصر الدعم الغربي لأوكرانيا على فرض عقوبات على موسكو، إذ ضخّت دول "الناتو"، ولا تزال تضخ، أموالاً طائلة ومعدّات عسكرية إلى كييف.
وبحسب تقرير لصحيفة "بوليتيكو"، فقد "خصصت دول الناتو بشكل فردي عشرات المليارات من الدولارات لدعم أوكرانيا بالأسلحة والمساعدات المالية، فيما قدمت الولايات المتحدة مساعدات عسكرية بلغت 19.7 مليار دولار منذ بداية الحرب في شباط/فبراير".
ولفت التقرير إلى أنّ "من المحتمل ألاّ تكون الأموال المتبقية من حساب أفغانستان كافية بمفردها لمساعدة كييف في مواصلة عملياتها خلال فصل الشتاء، لكن هذه الأموال يمكن أن تساعد دول "الناتو" الأوروبية ذات الميزانيات الأصغر على زيادة تبرعاتها لأوكرانيا، في وقت تعاني فيه اقتصاداتها".
وتحدّثت "بوليتيكو" عن "غضب" كبار المسؤولين الأوروبيين من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، إذ يتهمون الولايات المتحدة بجني ثروة من الحرب، فيما تعاني دول الاتحاد الأوروبي".
ونقلت الصحيفة عن مسؤولٍ كبير قوله إنّ "الدولة الأكثر استفادة من هذه الحرب هي الولايات المتحدة؛ لأنها تبيع مزيداً من الغاز وبأسعار أعلى، كما تبيع مزيداً من الأسلحة أيضاً".
اقرأ أيضاً: البنك الدولي: روسيا نَجَت من العقوبات الدولية بشكل غير متوقع
صمود روسي بوجه عاصفة العقوبات الغربية
لكن، كيف استطاعت روسيا الصمود بوجه عاصفة العقوبات الغربية هذه؟ منظمة "National Public Radio" الإعلامية الأميركية، أجابت عن هذا السؤال، موضحةً أنّ "العقوبات عملت جيداً في البداية بتقييد وصول روسيا إلى الواردات الرئيسية ".
لكن "بعد هذه الصدمة الأولية، تحركت روسيا بسرعة ووجدت منذ ذلك الحين أسواقاً جديدة لتلبية عدد من احتياجاتها، إذ بدأت باستيراد مزيد من البضائع من دول مثل الصين وبيلاروسيا وتركيا، التي لا تشارك في نظام العقوبات"، وفق المنظمة.
وفي إطار التفافها على العقوبات المفروضة، ولتقوية اقتصادها، فرضت روسيا شراء الغاز الروسي بالروبل، واتّفقت مع دول مثل الصين وإيران والهند على التعامل بالعملات الوطنية، كما ردّت على تسقيف الغرب سعر النفط الروسي بإعلانها أنّها لن تبيع النفط لأي دولة تعتمد سقف السعر الغربي للنفط.
ومن هنا، يمكن أن نستخلص المفارقة، إذ إن كلّ هذه العقوبات والضغوطات العسكرية الغربية على موسكو، لم تتمكّن من ليّ ذراعها، بل انقلب السحر على الساحر، والعقوبات الغربية التي فُرضت على موسكو لتركيع الاقتصاد الروسي، وإجبارها على التراجع عسكرياً، انعكست سلباً على أوروبا والولايات المتحدة، فالاقتصاد الروسي بقي صامداً أكثر من المتوقع، والعملية العسكرية مستمرة، فيما باتت الدول الأوروبية تعاني من ارتفاع أسعار الكهرباء والوقود والمواد الغذائية، ومن تفاقم صعوبة الوضع المعيشي لسكانها، وسط موجة كبيرة من التضخم الاقتصادي غير المسبوق، ومخاوف من شتاء قاسٍ مقبل.
وفي مقابل وضوحٍ الرؤية الروسية للمستقبل، تواجه الدول الأوروبية ضبابيةً في الخطوات التي ستتخذها في إطار مواجهتها لروسيا، إذ يعاني بعض دول "الناتو" مثل ألمانيا والولايات المتحدة من استنزاف كبير للذخيرة، والذي وصل إلى حدّ النفاد، بسبب المساعدات العسكرية المقدمة إلى أوكرانيا، كما أنّ هذه الدول، وبحسب الاتحاد الأوروبي، وصلت إلى الحد الأقصى من العقوبات المفروضة على روسيا، ولا يمكن توقّع عقوبات جديدة عليها.
اقرأ أيضاً: ألمانيا تواجه مشكلة: انخفاض كبير في الذخيرة بسبب توريد الأسلحة إلى كييف
من سينتصر أخيراً؟
وفي ضوء هذه الوقائع، يؤكّد الرئيس الروسي أن "لدى روسيا الكثير لتفعله، فيما أوروبا لم يعد لديها شيء لتفعله"، فما الذي يمكن أن تفعله روسيا بعد، وماذا بقي في جعبة أوروبا لمواجهة روسيا مستقبلاً؟
في هذا السياق، لفت سويدان للميادين إلى أنّ "روسيا ستستخدم ورقة الطاقة ضد الغرب، إذ إنّ مخزونات الغاز ستنفد في الشتاء القادم، في وقتٍ ليس لدى الغرب الأسواق الكافية لتلبية حاجاته من الغاز".
وأشار سويدان إلى أنّ "روسيا ستحاول التأثير في الحلفاء في موضوع الطاقة كذلك، لجذبهم نحوها، مثل تركيا ودول الخليج وخاصةً السعودية، في ظل المصلحة المشتركة بين هذه الدول".
وبشأن ما بقي في جعبة الغرب لمواجهة روسيا في ظل إخفاق العقوبات الغربية على روسيا، أشار سويدان إلى أنّ "الغرب سيستمر مع ذلك في فرض العقوبات على روسيا، التي تستهدف البنوك والأفراد والقطاعات الروسية"، لكنّه لفت في الوقت ذاته، إلى أنّ الغرب مقيد في توسيع دائرة عقوباته، لأنّه مضطر إلى استثناء قطاعات روسية مثل المعادن والأسمدة والطاقة، لعدم قدرة أوروبا على الاستغناء عن هذه القطاعات في الوقت الحالي".
كذلك، أوضح سويدان للميادين، أنّ "أوروبا ستحاول الضغط على الدول التي لم تلتزم بالعقوبات حتى الآن، مثل تركيا ودول الخليج والدول الآسيوية، وذلك للالتزام بالعقوبات، وبالتالي محاصرة روسيا"، لكنه أعرب عن تقديره بأن "أوروبا لن تنجح في ذلك، خاصةً بعد مرور 10 أشهر على الحرب".
وعن مستقبل المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، أوضح سويدان أنّ هذه "المفاوضات هي بين روسيا وبين الولايات المتحدة، إذ إنّ أوكرانيا ليس لها رأي في ذلك، بل واشنطن هي من يقرر إمكانية التوجه نحو المفاوضات".
لكنه أشار إلى أنّ المشكلة حالياً في المفاوضات، هي أنّ "المطالب الروسية بعيدة جداً عن المطالب الأميركية، وهما لم يتوصلا بعد إلى نقطة التقاء"، موضحاً أنّ "روسيا ستحاول أن تحسم معركة دونتيسك للجلوس إلى طاولة المفاوضات، بينما الأميركي سيحاول أن يكسب بعض الأوراق ليتفاوض مع روسيا".
اقرأ أيضاً: موسكو: شروط كييف للمحادثات غير بناءة ولا توقعات بشأن نهاية الأزمة
وتابع أنّه "من الممكن أن نشهد مفاوضات روسية- أميركية في عام 2023، لكن على حساب طرف من الطرفين، الذي سيقدّم تنازلات معينة، بحيث لن يكون هناك رابحان في هذه المعركة"، وفق تقديره.
وبيّن سويدان للميادين أنّ بالنسبة إلى روسيا، فإنّه "من المستحيل أن تتنازل وتنفذ ما يطلبه الأميركيون، خصوصاً أن روسيا تعيش هاجس أنّ الغرب يريد تقسيم روسيا، وفي الوقت نفسه، تدرك واشنطن أنّها إن لم تفُز في هذه المعركة، فذلك يعني أنّ الغرب فشل في الحفاظ على هيمنته، وأنّ روسيا استطاعت كسر هذه الهيمنة".
وقدّر سويدان، أنّه "حتى لو انتهت الحرب بتوقيع اتفاقية سلام، فإنّها من الصعب أن تنتهي من دون تقسيم أوكرانيا، إذ إنّ النزعة القومية لدى الموجودين في الجزء الغربي من أوكرانيا، ستظل موجودة وستولد نزاعات في المستقبل".
نحو نظامٍ عالمي جديد؟
أمّا بشأن تأثير هذه المعركة في النظام العالمي، وليس في أوكرانيا فحسب، قال سويدان للميادين إنّ " خطورة هذه المعركة تكمن في أنها يمكن أن تولّد مزيداً من التمرد على الولايات المتحدة، الأمر الذي تدركه واشنطن، إذ إن مزيداً من الدول ستقتنع بالمحور الشرقي، لأنّه سيثبت جدواه وقوته".
وأشار إلى أنّ "الهزيمة في هذه الحرب، تعني أن روسيا استطاعت أن تثبت أنّها قوة قادرة على الوقوف في وجه الغرب، وبالتالي انتهاء نظام القطب الواحد، ما سيمنح الجرأة للدول، خاصةً التي تحاول الخروج من الفلك الأميركي، بالتوجه نحو تعزيز علاقاتها بروسيا والصين".
ولفت سويدان في السياق، إلى أنّ هذا الأمر "سيزيد من الانقسام في أوروبا، بين من يريد أن يكون في الفلك الأميركي بشكل كامل، وبين من يريد إعادة التوجه نحو روسيا والصين، إذ إنّ الدول الأوروبية ستسعى لرسم علاقاتها الخارجية بناءً على هذا النظام العالمي الجديد، الذي سيتبلور في المستقبل".
وتعقيباً على ما قاله سويدان، تجدر الإشارة إلى أنّ "أوروبا الغربية، ولا سيما فرنسا وألمانيا، تنظر في بنية أمنية أوروبية مستقبلية تشارك فيها روسيا بشكل ما"، وفق مركز "كارنيجي أوروبا" لتحليل السياسة الخارجية والأمنية الأوروبية.
وأضاف المركز أنّه "بالنسبة إلى أوروبا الشرقية، يتعلّق الأمن بالدفاع عن نفسها ضد روسيا، إذ تعد هذه الدول الحرب في أوكرانيا تهديداً على الأمن الأوروبي، وقد يتفاقم إذا انتصرت روسيا".
ولفت الموقع إلى أنّ هذا الأمر "سيولّد خلافات في الاتحاد الأوروبي، إذ سيخلق نوعاً من الاستياء بين أوروبا الغربية والشرقية، ما لم يكن هناك وعي بين الجانبين حول تجاربهما التاريخية المختلفة وتصوراتهما عن التهديدات والأمن وروسيا".