عكس التوقعات 2022: مفاوضات الاتفاق النووي بين إيران والغرب.. ما الذي حصل؟
أواخر العام الماضي، جرى الحديث عن إمكانية التوصل إلى توافق يعيد إلى الحياة التسوية التي جرى التوصل إليها في فيينا في صيف 2015، وكانت بداية عام 2022 هي نقطة العودة إليه من جديد، بعد وصول إبراهيم رئيسي إلى رئاسة الجمهورية الإيرانية، والرئيس الأميركي إلى البيت الأبيض.
ما كان متوقعاً: توقيعٌ جديد للاتفاق النووي
أراد بايدن إعادة الحياة إلى اتفاق 2015 بعد إدراكه أن سياسة الضغط القصوى فشلت عملياً، وستفشل لاحقاً في فرض إضافات على الاتفاق، كما كان يرغب سلفه دونالد ترامب، لكن بايدن كان مكبّلاً وقتها بانتخابات الكونغرس النصفية، وبالإلحاح والضغط الإسرائيلي المتكرر المبني على قلقٍ متزايد من تحول إيران من قوة صاروخية إقليمية إلى قوةٍ نووية.
بالنسبة إلى صناع القرار الإيراني، لا تختلف إدارة بايدن عن سلفه في التعاطي مع الاتفاق. من جهتها، أخذت حكومة رئيسي الملف من حيث تركته الحكومة السابقة، ولكنها هذه المرة جمعته بالأولويات الأخرى التي حدّدها رئيسي في خطاب التنصيب في آب/أغسطس 2021. الأولوية للعلاقة مع "الجيران"، ثم تأتي النقاط الأخرى، ومن ضمنها النووي.
اقرأ أيضاً: "إسرائيل" تترقب وأميركا تتعطش لمفاوضات الاتفاق النووي في فيينا
تعهد رئيسي عند ترؤسه البلاد أن يسعى لرفع العقوبات عن إيران، ولكنه أكد أيضاً أنه لن يربط مصير شعبه بالأجانب، مؤكداً التزامه بما رسمه المرشد الأعلى السيد علي خامنئي كخريطة طريقٍ للتفاوض، رغم إيمانه بأنّ واشنطن لن تقدم الضمانات المطلوبة على قاعدة ثابتة أكدها مراراً: "لا يمكن الثقة بهم".
أوائل العام، نقلت "رويترز" عن دبلوماسيين رفيعي المستوى قولهم إنَّ المفاوضين انتهوا من صياغة نحو 80% من نص اتفاق في المحادثات النوویة. تعليق نفاه الإيرانيون جملةً وتفصيلاً، وتبين لاحقاً أن التفاصيل كانت هي المشكلة العالقة بين الوفدين.
ما تريده إيران مجتمعةً من الاتفاق، بعد تجربة التراجع الأميركي عام 2018، هو تسوية تحمل ضمانات حقيقية بعدم انسحاب واشنطن مجدداً، لكن الظروف السياسية الأميركية كانت أكثر تعقيداً من ظروف 2015. وبناء عليه، فشل بايدن في ضمان هذا الشرط.
كذلك، لم تكتفِ إيران بقبول تسليم واشنطن بالعودة إلى الاتفاق وبإعلان تعليق العقوبات المفروضة أو رفعها، بل طالبت جوهرياً وجذرياً برفع العقوبات كافة، إلى جانب وضع آلية للتحقق من رفعها على نحوٍ كامل، وهو ما لم يكن بيد بايدن كلياً.
اقرأ أيضاً: مالي: لا يمكن ضمان عدم خروج الرئيس الأميركي المقبل من الاتفاق النووي
أحداث المفاوضات: لم يتم التوقيع وتوسعت الخلافات
في منتصف شباط/فبراير من العام الحالي، ازدادت الأجواء التفاؤلية بشكل كبير بقرب توقيع الاتفاق. وبينما كان الحديث عن التفاصيل الأخيرة جارياً، بدأت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ليلة 21 شباط/فبراير. بعدها بساعات، غادر كبير المفاوضين العاصمة النمساوية إلى طهران للتشاور مع قيادته. بالتوازي، نفى كبير المفاوضين الأميركيين روبرت مالي أن يكون هناك اتفاق وشيك أو حتى أن تكون المفاوضات قد دنت من لحظة إعلان التسوية.
بدأت العقوبات الأوروبية على روسيا، وبعدها بشهر، أي في آذار/مارس 2022، ومع عودة المفاوضات النووية إلى مجاريها والاقتراب من التوقيع، قدّمت روسيا طلباً في اللحظة الأخيرة تدعو فيه الولايات المتحدة إلى تقديم "ضمانات مكتوبة" بأن العقوبات الغربية التي فرضت على موسكو بعد بدء الحرب لن تضرّ بالتعاون بين موسكو وطهران بموجب الاتفاق النووي الذي يُعرف بـ"خطة العمل الشاملة المشتركة".
سريعاً، جاء الرفض الأميركي. أما إيران، فاطلعت على تفاصيل الطلب الروسي بعد وصول وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان إلى موسكو لحل المعضلة.
بعد شهر، قال رئيس المجلس الإستراتيجي للعلاقات الخارجية الإيرانية كمال خرازي ومستشار المرشد الأعلى في إيران السيد علي خامنئي إنّ الاتفاق النووي بين طهران والقوى العالمية "وشيك"، لكن لا يمكن أن يحدث إلا إذا أبدت الولايات المتحدة إرادةً سياسية. ومعه، أكد أمير عبد اللهيان أنّ الأميركيين وافقوا على اتخاذ الخطوة الأولى في رفع العقوبات، موضحاً أنّ "رفع أسماء شخصيات إيرانية وحرس الثورة من قائمة العقوبات الأميركية يُعَدّ أهمّ ما تمَّت مناقشته في فيينا".
في المقابل، قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي إنّ المحادثات جارية بشأن رفع حرس الثورة من قائمة الإرهاب الأميركية. وبينما كانت كواليس المفاوضات تزدحم بمحاولات ردم جسر الهوة بين طهران وواشنطن، وإعلان مسؤولين أوروبيين "أنها مسألة أيام فقط" وقرب الاتفاق على هذه النقطة، أكّد مالي أنّ عقوبات بلاده على حرس الثورة في إيران "ستبقى بغض النظر عن الاتفاق النووي" أو عن مسألة إبقاء هذه القوة المسلحة مدرجة في قائمة المنظمات الإرهابية. ضغطٌ إسرائيلي كبير أدى دوره هنا، وفقاً للتصاريح الإيرانية الرسمية. ذكّر تصريح مالي بقول المرشد الأعلى "بأن الغرب لا يمكن الثقة بهم".
في أيار/مايو الماضي، جرى تصعيدٌ أميركي لفضِّ محاولات الاتفاق مع بدء مجلس الشيوخ انتقاد سياسة بايدن في المفاوضات. وقال مالي بعد توقف المفاوضات لمدة شهرين: "ليس لدينا اتفاق مع إيران، واحتمالات التوصل إلى الاتفاق ضعيفة في أحسن الأحوال".
عودٌ على بدء، من نقطة الصفر، قرر مجلس حكّام الوكالة الدولية للطاقة الذرية تبنّي مشروع قرار غربي (قدمته فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة) "يطالب طهران بمزيد من التعاون والشفافية".
إيران أعادت النظر في سياستها ونهجها تجاه الوكالة الذرية، وأعلنت بعد "الحركة السياسية" لواشنطن و"الترويكا" الأوروبية، المدعومة من "إسرائيل"، إيقاف كاميرات المراقبة التابعة للوكالة وشبكة جهاز قياس مستوى التخصيب وجهاز فلومتر (قياس التدفق) وغيره.
اقرأ أيضاً: الوكالة الدوليّة للطاقة الذرية والرقص على حافة الهاوية
لماذا لم يحصل توقيع؟
احتدت التصاريح والمواقف الدبلوماسية. وفي تموز/يوليو، وقّع بايدن ورئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي يائير لابيد اتفاقاً مشتركاً يتعهدان فيه منع إيران من حيازة سلاح نووي، معتبراً أنّ الاتفاق النووي مع طهران يساعد في تقييد حركتها النووية. إجراءٌ عزّز الجمود القائم منذ شهر آذار/مارس، واستتبع ردّاً جديداً لخرازي، الذي أعلن تخصيب اليورانيوم لما يصل إلى 60%، مؤكداً أنه يمكن بسهولة إنتاج يورانيوم مخصب لنسبة 90%، والأهم إعلانه أن لدى إيران السبل الفنية لصنع قنبلة نووية، لكنها لم تتخذ بعد قرار صنعها.
وبعد تعزيز الجدار السميك من عدم الثقة بالسياسات الأميركية، قدَّم الاتحاد الأوروبي في آب/أغسطس نصاً وصفه بأنه "النهائي"، يهدف إلى إنقاذ الاتفاق المبرم في 2015 بشأن البرنامج النووي لإيران، طالباً من واشنطن وطهران الرد عليه.
ردَّت طهران على النص، واعتبر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد جوزيب بوريل الجواب معقولاً. أما واشنطن، فاستمرت بتسويفها إلى ما بعد أكثر من أسبوع، ثم ردّت بنص مفاده، بحسب بوريل، أن هناك أرضية مشتركة للاتفاق، مع التأكيد لـ"تل أبيب" في الوقت نفسه أن واشنطن لن تسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي.
بعد الأجواء الاحتفالية لـ"الأرضية المشتركة"، أعلنت الوكالة الدولية أن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة تصل إلى 60% زاد إلى المستوى الذي يكفي، في حالة زيادة تخصيبه، لصنع قنبلة نووية. قال غروسي إن الوكالة الدولية تطلب من إيران تزويدها بتفسيرات في ما يتعلّق بجزئيات اليورانيوم الاصطناعية الموجودة في 3 من مواقعها غير المعلنة.
اقرأ أيضاً: ليس القنبلة النووية.. ما الذي تخشاه "إسرائيل" من العودة إلى الاتفاق النووي؟
إيران، من جهتها، أصرت على إغلاق التحقيق في ملف المواقع النووية المزعومة قبل تنفيذ أي اتفاق. ظلّت هذه النقطة عالقة بين الأطراف إلى أن فتّش مفتشو الوكالة الذرية الأماكن المحددة التي تبين أنها مزرعة ماشية ومنجم مهجور وساحة لجمع الخردة زعموا أنّها كانت موقعاً لأنشطة إيران النووية. أخذوا عيّنات من الخردوات، ولم يحصل أي تطور، في حدث ثبّت صدق الإيرانيين.
الشهر الماضي، وضع رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي شرطاً مقابل عودة بلاده إلى التزام بالاتفاق النووي، هو رفع العقوبات المفروضة عليها. ومع ذلك، دخلت المفاوضات نفقاً مظلماً، وبدأ الأميركيون يربطون الملف بملفات مختلفة، من الأحداث الأخيرة في طهران، وصولاً إلى مزاعم إرسال المسيرات إلى روسيا لاستخدامها في حربها ضد أوكرانيا.
لم يحدث أي تطور منذ ذلك الوقت، لكن شعلة ضوءٍ وحيدة أعادت مشهد المفاوضات النووية إلى الواجهة. التقى بوريل أمير عبد اللهيان على هامش قمة "بغداد 2" في الأردن. وخلالها، أعلنت إيران استعدادها لاختتام مفاوضات فيينا على أساس مسودة حزمة التفاوض.
هذه الشعلة لاقتها واشنطن بالموقف السلبي الذي اعتادت إعلانه، إذ قال منسق الاتصالات الإستراتيجية لمجلس الأمن الدولي في البيت الأبيض جون كيربي: "لا نتوقع التوصل إلى اتفاق في أي وقت قريب".
الشهر الماضي، قال بايدن إن الاتفاق النووي مع إيران عام 2015 "مات"، لكنه شدّد على أن واشنطن لن تعلن ذلك بصورةٍ رسمية. هذا التصريح كان تأكيداً على أن إدارة بايدن تعتقد أنه لا يوجد طريق للمضي قدماً في الصفقة المرتقبة، على عكس الأجواء الإيجابية التي أشاعتها بداية العام.
الخذلان الأميركي في الالتزام بالشروط أبقى الجميع في دوامة جولات مفاوضاتٍ لا تنتهي، بدايةً من عدم القدرة على التعهد بعدم الانسحاب مجدداً، وصولاً إلى رفع العقوبات والتحقق من ذلك، ومن ثم إغلاق المزاعم السياسية المتعلقة بالوكالة الدولية بشأن المواقع غير المصرّح عنها. هذه "الضمانات المطمئنة" طالبت بها طهران، وفشلت واشنطن في تنفيذها.
واليوم، لا يبدو مع اقتراب بدء العام الجديد أنّ الظروف السياسية الحالية عالمياً يمكن أن تؤدي إلى تسويةٍ مستدامة في المدى المنظور. وبناء عليه، ستكون المفاوضات، وإن أعيد نصابها، وسيلةً لضبط النزاع النووي فقط، لا للتوقيع النهائي على الاتفاق.