ناصر أبو حميد: ابن عائلة تختصر معاني الوطن
كان الأسير الفلسطيني ناصر أبو حميد يعرف النهاية؛ نهاية المرض والوجع والحياة. رأى الموت مقبلاً، فنظر في عينيه، ولم يقبل أن يتراجع لحظة عن مواقفه الواضحة والمعلنة على امتداد حياته. قالها بوضوح رغم وهن المرض في آخر أيامه: لن أقدم استرحاماً للصهيوني!
والدته، جبل الصبر، لطفية أبو حميد، أكدت موقف ابنها: "قيل لناصر أن يقدم طلب استرحام من رئيس دولة الاحتلال، لكنه رفض، وسيبقى شامخاً رغم كل الظروف"، موضحة: "لو كنا نقبل بتقديم طلب العفو، لما كان ناصر وأشقاؤه ناضلوا ودخلوا السجون".
إخوته في سجون الاحتلال أربعة، وكلهم محكومون بالمؤبدات، بينهم 3 اعتقلوا معه إبان انتفاضة الأقصى عام 2002، هم نصر ومحمد وشريف، وإسلام الذي اعتقل عام 2018 بعد قتله جندياً من وحدة دوفدوفان في مخيم الأمعري. كل إخوته رفضوا تقديم طلب استرحام لأخيهم القائد، وأعلنوا أن إرث الشهداء الذي يمثلونه لا يسمح لهم بطلب العفو من العدو.
وصية ناصر: أترك خلفي شعباً بطلاً عظيماً
كان ناصر يعرف أن الأشياء كلها ستنتهي به إلى الاستشهاد. قال لأمه إنه مشروع شهادة. وهو قرر أنه شهيد حين قرر أن يقاوم، فحمل الحجر في الانتفاضة الأولى، والسلاح في الثانية. وبصفته قيادي ميداني في الانتفاضتين معروف بلقب الأسد المقنع, أتعب ناصر الاحتلال. وهو عرف انه شهيد حين سجن مرة أولى وثانية وثالثة ورابعة، وحين قارع السجان يوماً بعد يوم على مدى سنوات طوال، قبل أن يتمكن منه الورم السرطاني الذي واجهه بكل شجاعة.
في كل مرة يفرج الاحتلال عن ناصر، كان يعود إلى السلاح ومعه كثر، بينهم إخوته. عدّه الاحتلال من أخطر المقاومين في الضفة الغربية، نظراً إلى دوره المحوري في تأسيس كتائب شهداء الأقصى وقيادتها في انتفاضة الأقصى، وحكم عليه بالسجن 7 مؤبدات وفوقها 50 عاماً.
طلب ناصر، ابن قرية السوافير الشمالية المهجرة عام 1948، الاستشهاد، لا الاسترحام. سعى لنهاية اختارها بقلب ثابت وخطى لا تهتز. وزع وصاياه على أمه وإخوته الأسرى قبل أن يسلم جسده التعب لموت رحيم؛ موت رحمه من أوجاع السرطان والبوسطة والسجن، وحرره من تعب التنقل من السجن إلى المستشفى، ورجوعاً إلى السجن، في أيام حياته الأخيرة.
عندما عاد ناصر إلى سجن عسقلان آخر مرة، استقبله الأسرى بحفاوة. رفعوه على الأكتاف وهتفوا له أنه قائد ليس له مثيل. يقولون إنه كان سعيداً بمعرفة مكانته في قلوب إخوته ورفاقه.
قال لأسرته في آخر زيارة له في سجن الرملة بكل اعتزاز وفخر: "أودع شعباً عظيماً". أسرته نقلت إلى شعبه رسالة القائد العظيم: "أنا ذاهب إلى نهاية الطريق، ولكني مُطمئن وواثق بأنني أولاً فلسطيني وأنا أفتخر، تاركاً خلفي شعباً عظيماً لن ينسى قضيتي وقضية الأسرى"
كرمنا ناصر أبو حميد حين كان يستحق منا التكريم. كرمنا وأكرمنا كثيراً قبل تلك اللحظة في 27-11-2022. ومذاك، بدأت صحته بالتدهور سريعاً حتى النهاية. كرمنا حين اعتقل للمرة الأولى - كان عمره 12 عاماً - من مخيم الأمعري قرب رام الله، الذي انتقلت إليه أسرته من مخيم النصيرات في غزة حيث ولد، وكرمنا كل مرة انحاز فيها إلى السلاح بعد قضائه ما مجموعه 33 عاماً في الأسر، وحين حاول الاحتلال اغتياله ونجا مراراً، وحين ابتلع مسكنات ألم تافهة أمام أهوال وجع السرطان، ولم يقبل التراجع لحظة عن تاريخه المقاوم.
ناصر الذي برز الورم من قفصه الصدري، كما نقلت أسرته في آخر زيارة له في السجن، دخل غيبوبة نقل على أثرها من عيادة الرملة التي يسميها الأسرى "المسلخ" إلى مستشفى إسرائيلي أسلم فيه الروح، لكن الاحتلال أراد إضفاء مسحة "إنسانية" على إعدامه ناصر بالإهمال الطبي، فسمح لأسرته بزيارته بشكل استثنائي لتوديعه، ولكنهم في الحقيقة ودعوا جثمانه المسجى بين الآلات الطبية وحراس أمن "إسرائيل" الخائفين من رجل جرّده المرض من آخر أنفاسه.
في 20 كانون الأول/ديسمبر 2022، انتهت رحلة ناصر أبو حميد في هذه الأرض.
هل يموت ناصر "المثال"؟
يتناقلون في أرمينيا مثلاً معبراً عن المجازر الجماعية التي ارتكبت بحق الشعب الأرميني مطلع القرن الماضي: "حاولوا دفننا، لكنهم لم يعلموا أننا بذور". كذلك الشعب الفلسطيني. كذلك كل شعب تمارس ضده حرب إبادة جماعية. وناصر ابن الشعب الفلسطيني، وابن عائلة تختصر معاني الوطن بكل سمو وتصميم.
ناصر ليس الشهيد الأول في أسرته. سبقه أخوه عبد المنعم إلى الشهادة عام 1994. ودع ناصر 4 إخوة في السجون، ليلتقي أخاً آخر في العالم الآخر، وليلتقي 232 أسيراً عرف منهم كثراً وعرفوه، وتبادلوا مشاعر المحبة ورفعة الرأس في السجون، قبل أن يسبقوه إلى الاستشهاد ويصيروا أيقونات لشعبهم وللحركة الأسيرة.
ناصر كان فرداً، ثم أسرة، ثم حالة يومية تتكرر في البلاد التي أعطاها روحه. تاريخ هذه البلاد شاهد على دفن بذور تنبت في وديانها وقراها ومدنها ألف زهرة وشوكة وشجرة، وكلها تقاتل.
ناصر أبو حميد المثال لن يغادر حقاً. لن يغادر أبداً. جثمانه قد يبقى أسيراً مع جثامين 9 شهداء أسرى لدى الاحتلال حتى انتهاء مدد محكومياتهم.
على الأقل، لن يغادر ناصر قبل أن تدفنه أمه التي حرمت من زيارته وزيارة إخوته طويلاً في سجونهم، وهدم بيتها 5 مرات بسبب مقاومتهم. أم ناصر هي المقاومة الأولى التي ربت هؤلاء الأبطال. هي بدورها مثال لما كتبه قبل اكثر من خمسين عاماً شهيد فلسطين غسان كنفاني: هذه المرأة تلد الأولاد فيصيروا فدائيين.. هي تخلف وفلسطين تأخذ"
وقد قالت أم ناصر الثكلى مرتين كلمتها مع عائلتها في بيان نعي أسدها وأسد فلسطين: "لن نتقبل العزاء بابننا القائد إلى أن يتحرر جسده الطاهر، ومعه سائر جثامين الشهداء العظام المحتجزة لدى الاحتلال الفاشي في مقابر الأرقام وفي الثلاجات".
ناصر ابن هذه الأم, وهو كبر في كنف هذه العائلة. وضعه في سياقه العائلي والاجتماعي المقاوم يسهم في فهم صلابته وقدرته على مواجهة السجان والمرض معاً وفي الوعي بمعنى استشهاده أسداً هصوراً لم تقوَ عليه قوة, مهما بلغت.
ناصر باقٍ في ذاكرة شعبه ووجدانه، وهو يتمدد تماماً مثل ماء المطر في النسغ والجذور الجافة بعد طول عطش.
وعلى مر التاريخ، أنبتت أرض فلسطين الزيتون والتين والشهداء والأنبياء والحرية. ناصر أبو حميد رأى فلسطين حرة، وذهب إليها مبتسماً واثقاً. هل يخلف حر ميعاد النور؟