"تسقيف" أسعار الغاز الروسي.. كيف سينقلب على "القارة العجوز"؟
وسط توقُّع شتاء قاسٍ، وأزمة طاقوية خانقة تعيشها أوروبا، تشتعل حرب الطاقة بين روسيا والغرب. وبينما يحاول الأوروبيون تشديد الضغط على موسكو، عبر وضع حدّ لأسعار الغاز الطبيعي، تهدّد الأخيرة بإيقاف تصدير غازها ونفطها إلى الدول التي تلتزم هذا القرار. فماذا يعني تحديد سقف للغاز الروسي؟ وماذا بشأن الأسباب والتداعيات؟ ومن الرابح الأكبر فيه؟
علامَ تقوم الخطة؟
وفقاً للمفوضية الأوروبية، فإنّ الخطة تقوم على وضع سقف لأسعار المشتقات في تعاقدات الشهر المقبل، في بورصة "تي. تي. أف"، الموجود مقرها في هولندا، والتي تُعَدّ معياراً للأسعار في أوروبا.
تطبيق "سقف الأسعار" سيبدأ إذا تجاوز سعر التسوية في البورصة، لتعاقدات الشهر المقبل، 275 يورو للميغاوات ساعة لمدة أسبوعين، وإذا كانت أسعار "تي. تي. أف" أعلى بمقدار 58 يورو عن السعر المرجعي للغاز الطبيعي المسال لمدة 10 أيام متتالية من التداوُل في غضون أسبوعين. وبالتالي، إذا استُوفيت هذه الشروط، فلن تُقبَل أيُّ صفقات أعلى من السقف المحدد.
وتستهدف الخطّة تقليص عائدات موسكو النفطية إلى مستوياتها قبل عمليتها العسكرية في أوكرانيا، مع المحافظة على استمرار وجود الخام الروسي في السوق العالمية، من أجل تجنّب مزيد من الارتفاع في الأسعار، وخصوصاً عندما يبدأ الحظر الأوروبي على واردات النفط الروسية، مطلع الشهر المقبل.
وبموجب الخطّة، ستَحظُر "مجموعة السبع" والاتحاد الأوروبي وأستراليا تقديمَ الخدمات البحرية لشحنات النفط الروسي، ما لم يتم بيع النفط بأقل من الحدِّ الأقصى المحدَّد. وتأمل الدول الغربية الاستفادةَ من سيطرتها على كثير من خدمات التأمين البحري، والتمويل، والشحن البحري في العالم، من أجل إملاء شروط مبيعات النفط الروسية وفرضها.
شروط نجاحها
يكمن التحدي الأكبر لنجاح الخطّة في ضمّ أكبر عدد ممكن من البلدان، لأنّ فرض سقف على أسعار النفط لن يكون مُجْدياً إلّا إذا شاركت فيه الدول المستوردة الكبرى، وعلى رأسها الصين والهند.
وتسعى "مجموعة السبع" لجذب الدولتين إلى مبادرتها، من خلال "إغرائهما" بإمكان التفاوض على أسعار أدنى، لكن شركة "كونفلوينس إنفستمنت" لإدارة الاستثمار تشير إلى أنّ "الصين والهند تشتريان بالفعل نفطيهما بسعر أقل" من روسيا.
وفي إشارة إلى الدول، التي لم تشارك حتى الآن في العقوبات المفروضة على روسيا منذ العملية العسكرية في أوكرانيا، فإنّ جون كيلدوف، محلل أسواق النفط في شركة الاستشارات الاستثمارية، "أغين كابيتال"، يقول إنّها "لن تعتمد" تحديد سقف للسعر.
وكي يصبح تحديد سقف السعر مؤثّراً، يجب على روسيا الامتثال له، ومواصلة التصدير إلى الدول التي تبنّت هذا المبدأ. لكنّ الموقف الروسي واضح في هذا الشأن. فموسكو هدّدت بأنّها ستتوقّف، بكل بساطة، عن تسليم النفط أو المنتوجات النفطية إلى الشركات أو الدول التي تفرض مثل هذه القيود، وحذّرت من أنّ هذه الخطوة "العبثية" ستتسبب بزعزعة استقرار السوق، و"سيكون المستهلكون الأوروبيون والأميركيون أولَ من يدفع ثمنها".
اقرأ ايضاً: روسيا: لن نزوّد السوق العالمية بالنفط بأسعار لا ترضينا
الغاز يشتّت أوروبا
في الأول من أيلول/سبتمبر الماضي، اتّفق وزراء مالية الدول الصناعية السبع الكبرى (الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا وكندا واليابان)، خلال قمّة عبر الإنترنت، على تحديد سقف لأسعار النفط الروسي "بصورة عاجلة"، داعين "ائتلافاً واسعاً" من الدول إلى الانضمام إلى هذا الإجراء، من أجل حرمان روسيا من جزء من مواردها من قطاع الطاقة، وخفض قدرتها، تالياً، على "تمويل حربها في أوكرانيا". وحدّدوا الخامس من كانون الأول/ديسمبر المقبل موعداً لبدء تطبيق السقف السعري للنفط، والخامسَ من شباط/فبراير المقبل موعداً لوضع سقف للمنتوجات النفطية.
لكنّ الفشل في تحديد سقف للأسعار جعل البعض يتحدث عن إمكان العزوف عن هذه الخطّة، إذ أشارت وكالة "بلومبرغ" إلى خلافات سياسية بين الأعضاء بشأن هذه الخطة، ومخاوف تتعلق بأمن الإمدادات.
وأظهرت الخطّة تبايناً لافتاً في وجهات النظر، فبينما تبحث "مجموعة السبع" في سقف يتراوح بين 65 و70 دولاراً للبرميل، رأى البعض أنّه سقف مرتفع، في حين عدّه آخرون منخفضاً، وبالتالي لن يؤثر في روسيا.
ومن المعارضين للخطّة، برزت بولندا وليتوانيا وإستونيا، انطلاقاً من أنّ السقف مرتفع للغاية، فهذه الدول تريد تحديد السعر بناءً على تكلفة الإنتاج (تكاليف الإنتاج تبلغ نحو 20 دولاراً للبرميل).
أمّا قبرص واليونان ومالطا - الدول التي لديها صناعات شحن كبيرة، والتي من المحتمل أن تخسر أكثر إذا تعطّلت شِحنات النفط الروسية - فتعتقد أنّ الحد الأقصى منخفض للغاية (لا تريد أن تنخفض أسعارها إلى أقل من 70 دولاراً)، وتطلب تعويضات عن خسارة الأعمال، أو مزيداً من الوقت للتكيّف.
ووقفت دول هنغاريا وسلوفاكيا والنمسا، التي تستورد كميات كبيرة من الغاز من روسيا، ضد فرض سقف على الغاز الروسي، خشية الرد الروسي بوقف الإمدادات.
واتّهمت الحكومة الإسبانية، في وقت سابق، المفوضية الأوروبية بأنّها "تهزأ بالعالم" عبر مقترحها تحديدَ سقف موقت لسعر الغاز، مؤكّدةً أنّها ستعارض ذلك بشدة.
وتطالب 15 دولة في الاتحاد الأوروبي على الأقل (أي أكثر من نصف بلدان التكتل) بسقف عملي لأسعار الغاز بالجملة، من أجل التعامل مع النقص في الإمدادات، وخصوصاً مع خوف الدول الأوروبية من تحويل إمدادات الغاز إلى أسواق مربحة أكثر، مثل الأسواق الآسيوية (الصين والهند)، في حال وضعت سقفاً للسعر.
اقرأ أيضاً: "نوفاتيك": فرض سقف لأسعار الغاز في الاتحاد الأوروبي سيفاقم أزمة الطاقة
في معيار الخسارة والربح
تُعَدّ "القارة العجوز" الخاسر الأكبر من خطة "تسقيف" الأسعار، فالمحاولات الأوروبية للضغط على روسيا، عبر التقليل من الاعتماد على الطاقة الروسية، كان لها ارتدادات قاسية على الدول الأعضاء الـ27، ولا تزال، بحيث ارتفعت أسعار الغاز بنسبة 90% تقريباً مقارنة بالأسعار قبل عام، بالإضافة إلى مخاوف من إجراءات الترشيد وانقطاع التيار الكهربائي خلال الشتاء المقبل.
وفي هذا السياق، يقول مدير أبحاث الاقتصاد الكلي العالمي في المعهد الوطني البريطاني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية، كورادو ماكشياريلي، إنّ من المحتمل أن يؤدي قطع إمدادات الغاز الروسي عن جميع أنحاء أوروبا إلى أضرار بالغة و"اختناقات" في البنية التحتية، الأمر الذي قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار ونقص حادّ في الطاقة في بعض البلدان. ويشير إلى أن التأثير في ألمانيا وإيطاليا مثلاً، قد يكون كبيراً، نظراً إلى اعتماد كل منهما على الصادرات الروسية من الطاقة.
أمّا بشأن رأي السوق، فكتب "اتحاد بورصات الطاقة الأوروبية" (يوروبكس) إلى المفوضية، قائلاً إنّ "الخطّة قد تشكّل خطراً كبيراً على الاستقرار المالي والإمدادات في أسواق الطاقة الأوروبية".
فتسقيف الأسعار، وفق "يوروبكس"، "قد يؤدي إلى توقّف المرافق العامة عن الشراء والبيع، فيما يسمى التحوط، لإنتاجها من الغاز واستهلاكها، ويدفعها أكثر نحو التداول خارج البورصة من دون الخضوع لسقف معين، الأمر الذي يفاقم أخطار الطرف المقابل، كما أنّه قد يجعل من الصعب على المرافق جذب إمدادات الغاز الطبيعي المسال".
في هذا الصدد، حذّرت بورصات الطاقة الرائدة في أوروبا من مخطّط وضع سقف لأسعار الغاز الطبيعي، لأنّ هذا الإجراء من شأنه أن يهدد أمن الإمدادات والاستقرار المالي في المنطقة الأوروبية، كما أضافت أن هذا الإجراء لن يحقق الهدف المطلوب المتمثل بخفض تكاليف الطاقة.
وتعدّ وكالة الطاقة الدولية أنّ التحرك لحرمان موسكو من الإيرادات سيؤدي إلى مزيد من عدم اليقين لأسواق النفط، وسيضيف مزيداً من الضغوط على الأسعار، بما فيها أسعار الديزل.
وفي مقابل التخبط والانقسام اللذين تعيشهما أوروبا، تبرز أميركا رابحاً أكبر من الأزمة القائمة.
وفي هذا السياق، تقول صحيفة "بوليتيكو" إنّ "المسؤولين الأوروبيين باتوا يعبّرون عن استيائهم من سياسات البيت الأبيض في العلن، ويقولون إنّ أميركا تجني أرباحاً هائلة من الأزمة الأوكرانية على صعيد إمدادات الطاقة لأوروبا وانتعاش صناعة السلاح وصادراتها".
اقرأ أيضاً: بالأرقام.. كيف تستغلّ شركات النفط والسلاح الأميركية الحرب الأوكرانية؟
ووفقاً لصحيفة "غلوبال تايمز"، فإنّ التكتيك الأميركي يقضي بوضع الدول الأوروبية في الخطوط الأمامية لاستفزاز روسيا، بينما تختبئ واشنطن وراءها وتحقق المكاسب، في وقت تفرض بروكسل وموسكو إجراءات عقابية متبادلة.
وبالتالي، فإن "سقف الأسعار" سينتج منه وضع تخسر فيه كل من روسيا وأوروبا، وخصوصاً الأخيرة، التي تغرق فعلاً في أزمة طاقة، وتواجه شتاءً شديد البرودة هذا العام، وهو ما قد يضرّ بسوق الطاقة العالمية. وهذا ما حذّر منه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مؤخراً، عندما قال إن "تحديد سقف أسعار الغاز سيجعل أوروبا تخسر مئات المليارات".
اقرأ أيضاً: أوروبا والبديل من الغاز الروسي.. استمرار العوائق مع اقتراب الشتاء الأصعب