مونديال قطر 2022: ذاكرة معادية لـ"إسرائيل"
"غالبية الشعوب العربية لا تحب وجودنا هنا، مع أننا وقّعنا 4 اتفاقيات تطبيع". مراسل القناة 12 الإسرائيلية أوهاد جمو.
كلامُ هذا المراسل يُلخّص ما يحدث على الأرض هنا، لكن التعبير غير دقيق، إذ استعمل المراسل مصطلح "لا تحب" للتخفيف من وطأة المعنى على أسماع المستوطنين، لكن المصطلح الملائم هو "تكره"، "تحتقر"، "ترفض"، "تزدري"، والمصطلحات الملائمة لهذا السياق كثيرة، لكن المؤكد أنّ الشعوب العربية سجّلت موقفاً واضحاً في العلاقة بـ"إسرائيل" منذ بداية مونديال قطر.
تعيش وسائل الإعلام الإسرائيلية أزمة نقل ووجود في كأس العالم. أخبار المراسلين الإسرائيليين الذين يتلقون الإهانات والرفض طوال الوقت تتصدر الحكايات التي يختزنها الناس في ذاكرتهم عن كأس العالم. مع كل حديثٍ عن طرد مراسل إسرائيلي من مقهى أو شارع تزداد الأعلام الفلسطينية في الشوارع وملاعب كأس العالم، ويكثر الحديث عن فلسطين.
يبدو أنّ نبذ العرب للإسرائيليين هنا في قطر لا يقل جمالية عن أي لوحة من لوحات المونديال، وهو رفض وصل صداه إلى دواخل الإسرائيليين هنا في قطر. أحد المراسلين قال "أشعر بالسوء الشديد، أنا إسرائيلي في بلد معادٍ، لقد أنزلني سائق التاكسي من السيارة بمجرّد أن عرف هويتي، يجب أن تعلموا أن هذا ممكن أن يحدث للجميع. نحن في مكان لا يحبنا على نحوٍ جنوني".
عندئذٍ سأل المذيع المراسل: "أبهذه البساطة أنزلكم في مكان مجهول؟".
المراسل: "نعم، قال إننا نقتل إخوته".
"هذا صحيح، والجواب بسيط وحزين إلى هذا الحد"، هكذا قال أحد المشجعين العرب عندما سألناه عن تعليقه على كلام المراسل الإسرائيلي. وأضاف أنّ "الإسرائيلي كائن غريب يعمل عكس الفطرة"، وتساءل: "كيف يريدون أن نتقبل وجودهم وهم استحلوا أرضنا ويستبيحون بيوتنا ويقتلون إخوتنا كل يوم؟".
"الوضع معقد نحن منبوذون"، هذا كلام لمراسل إسرائيلي آخر.
لا يكاد يخلو يومٌ منذ انطلاق صفّارة كأس العالم من قصة طرد مراسل إسرائيلي فور اكتشاف هويته، ولذلك يلجأ عدد من المراسلين إلى إظهار جواز سفر من بلد أجبني لتجنّب الوقوع في "المأزق".
عناوين مُكررة كل يوم عن حالات طرد مراسلين إٍسرائيليين، وكأن الحدث يعيد نفسه كل يوم مع جماهير مختلفة. والأمر لم يقتصر على الجمهور العربي، إذ تعداه إلى الجمهور الغربي، فقد استغل عدد من الجماهير الغربية الفرصة لتوجيه رسالة تضامن مع فلسطين.
كاميرا الميادين وثّقت خلال مباراة للمنتخب الكاميروني قبل أيام تجمهر عدد من الشبان الكاميرونيين أمام الملعب، حيث حملوا علم فلسطين وطالبوا بالعدالة للقضية الفلسطينية، وعندما سألناهم عن سبب دعمهم، قالوا إنّ صوت المظلومين يصل صداها إلى كل العالم.
حال من التشرذم والنُكران استطاع الجمهور صنعها للإسرائيلي في كأس العالم هنا في قطر. من دون تخطيط مسبّق، ولا اتفاق على آلية مواجهة وجود إسرائيلي في مجتمع عربي ذي بيئات وخلفيات مختلفة، ولكنها جميعاً بدت متسقة ومؤمنة ومتفقة على نبذ أي وجود إسرائيلي. هذا في المناسبة لم يتطلب اتفاقيات مكتوبة، كتلك التي صيغت وفرضت على الشعوب، بل كانت اتفاقية موحّدة، من دون أي بنود.
المشاهد المتعددة السياق التي رأيناها هنا تظهر التفافاً على القضية الفلسطينية، الشعارات كانت عفوية، لكنها واضحة ومباشرة (اسمها فلسطين – لا شيء اسمه "إسرائيل" – العدالة للقضية الفلسطينية)، هذه المشاهد التي اندرجت تحت السياق نفسه لها دلالات جادة في المستقبل البعيد، هي تظهر عجز الدول المطبعة، ومن ورائها "إسرائيل"، عن تغيير التاريخ، وتثبت عدم قدرتها على امتلاك وجدان الشعوب، ولو وقّعت اتفاقيات تطبيع مع الحكام، فهذا، في الموروث العربي، لا يعني شيئاً.
الواقع هنا، كما هو، وكما ظهر للعالم، أظهر إخفاق "تل أبيب" في ترويج التطبيع، وفضح العجز الإسرائيلي عن التستر على روايتها المزعومة أن "غالبية الشعوب العربية ترحّب بنا".
وما ظهر حتى الآن يؤكد أن الشعب الفلسطيني وامتداده لا يتوقفان عند حد، وأن القضية ليست "أرضاً متنازعاً عليها" كما يحاول الإعلام الغربي أن يشيعه، والواضح حتى الآن، أنّ اتفاقيات التطبيع الهشّة هي اتفاقيات تتجاوز الشعوب ولا تعبّر عنها.
شيء ما يفرض نفسه على الأجواء العامة في كأس العالم. الحضور الفلسطيني ليس عابراً هنا، بل متجذّر ومقيم. هذا ما بدا بعد أيامٍ فقط من انطلاق صفارة بدء المونديال، وفي انتظار الأيام المقبلة، يبدو أنّ نبذ العرب للإسرائيليين سيكون لوحة لا تقل جمالية عن أيّ لوحة قدّمها مونديال قطر 2022.