5 قرون من الحروب: لماذا تستمر بولندا بإظهار عدائية تجاه روسيا؟
أعادت حادثة انفجار صاروخين في أراضي لوبلين البولندية، أمس الثلاثاء، ومحاولة وارسو توجيه الرأي العام الغربي باتجاه التصعيد مع موسكو قبل أن يتبين لاحقاً أنهما عائدان إلى الدفاع الجوي الأوكراني، لفت الأنظار إلى مستوى العدائية المتصاعدة من قبل بولندا تجاه روسيا واهتمامها باستمرار التصعيد الغربي ضدها.
إذ تشهد العلاقات بين بولندا وروسيا توتراً كبيراً في الفترة الأخيرة، عقب اندلاع النزاع العسكري في جارتهما المشتركة أوكرانيا، تجلى بشكل أساسي في تجميد بولندا للأرصدة الروسية في بنوكها وفرضها عقوبات مشددة على الروس لا سيما رجال الأعمال والشركات الروسية، وفي دعمها المفتوح لكل الأعمال العدائية التي تقوم بها كييف ضد روسيا، لا سيما عبر التدريب العسكري للمقاتلين الأوكران والأجانب، وفي تأمين استمرار تدفق الأسلحة الغربية والمقاتلين إلى أوكرانيا عبرها.
ولكنّ هذا الدور الذي تلعبه وارسو اليوم يعدّ مكلفاً للدولة العضو في حلف شمال الأطلسي منذ 1999 وفي الاتحاد الأوروبي منذ 2004؛ تستضيف أراضي بولندا نحو 7 ملايين لاجئ أوكراني عبروا حدودها منذ شباط/فبراير الفائت، بالإضافة إلى آلاف المقاتلين الأجانب الذين دخلوا أراضيها للقتال في أوكرانيا، كما تتواجد بعثات عسكرية وفرق تدريب أجنبية، وتعجّ مستشفياتها بجرحى الحرب.
إلا أنّ كلّ ذلك تقابله وارسو بمزيد من العدائية والتصعيد ضد روسيا، ولا تبدو حكومتها مهتمة بأيّ حلّ سياسي للأزمة الأوكرانية يمكن أن يخفف من الخسائر البشرية والمادية لأطراف النزاع. وشكّلت التقارير الأخيرة التي تحدّثت عن مشاركة آلاف العسكريين البولنديين في الحرب بشكل مباشر، وانتشارهم في عدة مناطق أوكرانية من لفيف إلى زاباروجيا، تتويجاً لمسار التصعيد.
فما هي الأسباب التي تجعل بولندا تتبنى مساراً عدائياً إلى هذا الحدّ وبهذا الوضوح ضدّ موسكو، فيما كان بإمكانها الالتزام بسقف دول أوروبية أكبر وزناً منها كألمانيا وفرنسا؟ وضمن أيّ سياق يأتي هذا الفصل من التصعيد بين البلدين؟
خمسة قرون من الحروب
يعود تاريخ العلاقات المتوترة بين الكيانين السياسيين القديمين الذين يمثلان أصل الدولتين الحاليتين المعروفتين تحت اسم بولندا وروسيا، إلى 5 قرون ماضية على أقلّ تقدير. وإذا أردنا تتبع هذا المسار بدءاً من القرن السادس عشر، عندما كانت روسيا عبارة عن "قيصرية موسكوفي" التي تأسست على يد القيصر إيفان الرابع عام 1547 وتوسّعت شرقاً وجنوباً خلال العقود اللاحقة بالاعتماد بشكل أساسي على التتار وكوزاك زابوروج – أوكرانيا حالياً.
يومها كانت "مملكة بولندا ودوقية ليتوانيا الكبرى" هي الكيان السياسي الذي يسيطر على جزءٍ كبير من المنطقة الحالية التي تشغلها بولندا وليتوانيا. وكان الحاكم – الملك المشترك بولندياً، إذ كان الوزن الأكبر لبولندا في المملكة منذ القرن الرابع عشر، لكنّ المملكة تأسست بشكل رسمي مع ما سمّي بـ"اتحاد لوبلين"، عام 1569.
شكّلت الأراضي الزراعية الخصبة في أوكرانيا الحالية، التي كانت تتقاسمها القيصرية الروسية والمملكة البولندية، نقطة أساسية لتسعير الحرب بين الطرفين تاريخياً، إذ كانت بولندا تقوم بشكل كبير على الإقطاع الزراعي القاسي، وكانت نحو 2000 عائلة بولندية من النبلاء "تملك" نحو 3 ملايين قنّ زراعي (عبودية معدّلة)، معظمهم من المناطق التي باتت اليوم تقع ضمن غربي أوكرانيا وشمالها.
ورأت بولندا في القيصرية الروسية خطراً حقيقياً على قوتها، لا سيما أن المملكة كانت تُعتبر مزرعة أوروبا، وكانت ترغب بالتوسّع إلى مناطق روسية زراعية طمعاً بمضاعفة قوتها الإنتاجية، وبالتالي نفوذها على مستوى أوروبا. كذلك كان الروس يتوسّعون جنوباً، حيث الأراضي الخصبة، وتمكنوا من السيطرة على مناطق مهمة بين عامي 1558 و1562.
عقب ذلك، شنّ ملك بولندا وليتوانيا باتوري، بالتعاون مع النرويج والسويد، حرب "ليفونيا" الأولى عام 1577، استمرت الحروب حتى عام 1582، وأدّت إلى خسارة روسيا لمعظم الأراضي الجنوبية التي كانت سيطرت عليها لصالح تحالف المهاجمين، واستمرّت الحروب بين الطرفين بشكل متقطع، فشنّ البولنديون حملة عام 1605 استمرّت حتى 1618، وحملة أخرى عامي 1632 و1633، استغلت فيها بولندا غياب الاستقرار السياسي في موسكو بعد موت القيصر فيودور لتتحالف مع كوزاك الجنوب وتمدّ سيطرتها على معظم أوكرانيا الحالية.
انقلاب الموازين: صعود روسيا وتراجع بولندا
ولكن العام 1654 شكّل نقطة التحول في مسار الحروب بين الطرفين، وفي مسار صعود قوة روسيا بشكل خاص وتراجع نفوذ بولندا وحلفائها، إذ خاض الطرفان حرباً عرفت بحرب الـ13 عام، أو الحرب الروسية – البولندية، انتهت عام 1667 بتوقيع معاهدة ثبّتت سيطرة روسيا على أراضٍ واسعة شرقي أوكرانيا الحالية شملت ضفة الدنيبر اليسرى بما فيها كييف، وتراجع بولندا بشكل كبير تحت وطأة الهزائم والحرب الأهلية الداخلية.
مهّدت الهزيمة الاستراتيجية للبولنديين أمام الروس في هذه الحرب لقيام الإمبراطورية الروسية عام 1721 والتي حكمت مناطق واسعة من الأراضي التي تشكّل روسيا الاتحادية الحالية، وتمكّنت الإمبراطورية الروسية على مدى القرنين اللاحقين من الحفاظ على تفوّقها على أعدائها البولنديين وحلفائهم وضرب جميع محاولات توسعهم باتجاهها.
بل إنّ موسكو أصبحت ذات نفوذ داخل المملكة، إذ تمكنت عام 1735 من دعم الملك أغسطس الثالث لحكم بولندا وإقصاء المناوئين له، كما انتصرت عام 1772 في حربها ضدّ تحالف نبلاء الـ"بار" المدعومين من فرنسا، حيث وقع أول تقسيم للملكة البولندية، وأعطيت الإمبراطورية الروسية وبروسيا (ألمانيا الحالية) والنمسا أجزاءً منها، ثم وقع التقسيم الثاني لأراضي المملكة عقب هزيمة الحملة البولندية – الليتوانية عام 1792، وبعدها بسنتين انهزمت محاولة بولندية للانتفاض ضد الروس مما أدى إلى التقسيم الثالث لأراضي المملكة.
الحملة الفرنسية: نابوليون في موسكو بدعم بولندي
عام 1807، أسس نابوليون بونابرت، إمبراطور فرنسا، دوقية وارسو، وهي عبارة عن الأراضي البولندية التي انتزعها من بروسيا (ألمانيا) بموجب اتفاقية.
قرر بونابرت شنّ حملة عسكرية من نصف مليون جندي فرنسي ضد الإمبراطورية الروسية، تحت عنوان "الحرب البولندية الثانية"، لإجبارها على التراجع إلى خارج أوروبا، ووصلت قواته بقيادته إلى مشارف بيلاروسيا الحالية، مدعومة بقوات بولندية، صيف عام 1812.
لكنّ القائد العسكري كوتوزوف، قائد الجيش الروسي، استغلّ عوامل الطقس والجغرافيا الصعبة بشكل بات يشكل مادة دراسية تستفيد منها كليات العلوم العسكرية، إذ اعتمد على حرب استنزاف لا تقوم على الدفاع عن المدن بل على إنهاك الجيش الفرنسي وقطع الإمدادات عنه، فخسر نابوليون نحو 200 ألف جندي في شهر ونصف بسبب البرد والجوع والأمراض، بالرغم من سيطرته على سمولنسك في آب/أغسطس.
وبعد سلسلة معارك استنزف فيها الجيش الفرنسي وحلفاؤه بشكل كبير، قرّر كوتوزوف إخلاء مدينة موسكو وعدم الدفاع عنها، مع العلم أنّ سان بطرسبرغ كانت هي عاصمة روسيا حتى عام 1918، فدخلها نابوليون ليجدها خالية من سكانها، على رأس جيش لا يزيد عدده عن 100 ألف جندي، ولم يتمكن من الإقامة فيها أكثر من 5 أسابيع، فغادرها مع جيشه عائداً إلى فرنسا.
ولكنّ طريق العودة لم تكن سهلة، فخلالها اعترضه الجيش الروسي في عدة معارك خسر العديد منها، كما خسر آلاف الجنود الإضافيين، والأهم أنه عاد من دون تحقيق هدفه الأساسي وهو أن يجبر الإمبراطورية الروسية على توقيع معاهدة استسلام معه أسوة بباقي أوروبا، كما خسرت دوقية وارسو رهانها على عودة سيطرتها على أوكرانيا وأراضيها واستعادة قوتها القديمة.
وفي 1830، وقع ما عرف لاحقاً بـ"انتفاضة نوفمبر" المسلحة في المناطق البولندية التي كانت تسيطر عليها روسيا، والتي هدفت إلى استقلال هذه المناطق عن الإمبراطورية الروسية وعودتها إلى تشكيل كيان متصل ببقية الأراضي البولندية، ولكنّ الحكومة الروسية تمكّنت من إخمادها خلال عام واحد.
إقرأ أيضاً: الإدارة الروسية في زاباروجيا تتهم الجيش البولندي بالمشاركة في المعارك
لينين والفترة السوفياتية: عودة الحروب البولندية
أعلنت بولندا استقلالها في وارسو في نفس اليوم الذي استسلمت فيه ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وكان لا بد من إخلاء الأراضي الروسية السابقة من قبل القوات الألمانية بحلول شباط/ فبراير 1919، وبعد اتفاق ألماني سوفياتي، احتلّ الجيش الأحمر على الفور كل الأراضي التي أخلاها الألمان.
وفي الوقت الذي كان الألمان يأملون في إشعال حرب جديدة بين روسيا السوفيتية وبولندا لتدمير القوتين، كانت استراتيجية فلاديمير لينين من الجهة السوفياتية هي العكس: كانت يريد أن يقوم الجيش الأحمر "بتدمير الجدار الذي يفصل روسيا السوفيتية عن ألمانيا الثورية".
قررت بولندا رفض أي "حكومة أجنبية تفرض على بولندا"، وبدأ الهجوم البولندي في 9 شباط/فبراير 1919، وفي نهاية العام، وصلت القوات البولندية إلى الحدود الرومانية، مسيطرة على معظم أوكرانيا، ومستغلة انشغال الجيش الأحمر في المعارك ضد الجيوش البيضاء في الحرب الأهلية الروسية.
إقرأ أيضاً: مسؤول: بولنديون وعناصر متطرفة يقاتلون في محور زاباروجيا
لينين يستعيد أوكرانيا ويتقدم نحو بولندا
ولكن الجيش الأحمر الروسي قام بحملة مضادة خلال أشهر، وبدأ باسترجاع المناطق التي احتلها البولنديون بدءاً من أيار/مايو 1920. وعندما وصل الجيش الأحمر إلى الحدود البولندية، قرر لينين اجتياح بولندا، برغم معارضة المفوض العسكري تروتسكي، قائلاً عبارته الشهيرة بأنّ "ضرب الجيش البولندي إسقاط معاهدة فرساي".
لكنّ البولنديين تلقوا دعماً مهماً من أوروبا، لا سيما بلجيكا، وتمكنوا من مقاومة الهجوم الروسي، فلم تسقط وارسو، وتمّ توقيع معاهدة ريغا التي حافظت على معظم أوكرانيا ضمن حصة السوفيات، فيما احتفظ البولنديون بمنطقة تحيط بوارسو، من لفيف إلى غراندسك ومن فيلينوس إلى كراكوف.
إقرأ أيضاً: بولندا تدرس بناء جدار على حدودها مع كالينينغراد الروسية
الحرب العالمية الثانية: اجتياح بولندا ثمّ الإقرار بحدودها
بعد 16 يوماً من اجتياح ألمانيا لغربي بولندا، اجتاح الجيش السوفياتي أواخر أيلول/سبتمبر 1939 شرقي بولندا، وعندما قرر هتلر الإنقلاب على ستالين والهجوم على روسيا ضمن ما عرف بعملية "بارباروسا" الخاسرة، شكّلت القوات البولندية عمدة الجيش النازي المقاتل وانضمت له في الحملة نحو موسكو.
وعند نهاية الحرب، بعد خسارة الجيش الألماني، كان الجيش الروسي قد اجتاح المناطق التي تسيطر عليها قوات برلين، وتمّ بحسب مؤتمر يالطا توزيع معظم أراضي بولندا على الجمهوريات السوفياتية المحيطة، مع احتفاظ بولندا بحكومة سوفياتية مستقلة وإقرار اتفاقية حدود بين الاتحاد السوفياتي وجمهورية بولندا الشعبية التابعة له.
وبالرغم من استمرار محاولات الإنفصال عن الاتحاد السوفياتي من قبل العصابات المناهضة للشيوعية، الذين أطلقوا على أنفسهم لقب "الجنود الملاعين"، وشكّلوا إزعاجاً للحكم السوفياتي استمرّ نحو 8 سنوات، فقد تمكنت الحكومة من القضاء على حركتهم عام 1953، وبقيت بولندا كأحد أكبر بلدان الكتلة الشرقية السوفياتية، وفيها تمّ توقيع معاهدة "حلف وارسو" مقابل حلف الناتو، وبقيت كذلك حتى عام 1989، عندما شكلت خسارة الحزب الشيوعي في الانتخابات إرهاصات انهيار الاتحاد السوفياتي.
إقرأ أيضاً: ميدفيديف: الغرب يقترب من حرب عالمية
الحرب الأوكرانية وعودة أطماع بولندا التاريخية
منذ انتهاء الحكم السوفياتي في بولندا عام 1989، وخروج آخر جندي سوفياتي منها عام 1993، تسارعت خطوات وارسو العدائية تجاه روسيا، فدخلت في الناتو عام 1999، وفي الاتحاد الأوروبي عام 2004، وشكّلت رأس حربة في سياسات أوروبا والولايات المتحدة ضد روسيا منذ ذلك الحين.
واليوم، تعدّ بولندا الدولة الأكثر دعماً لأوكرانيا في الحرب مع روسيا، من حيث استقبال عمليات التدريب وعمليات التسليح واستقبال اللاجئين الأوكرانيين، وكذلك من حيث استقبال قوات الناتو وزيادة أعدادها وعتادها في قواعدها العسكرية.
ولكنّها كذلك نشرت آلاف الجنود في أوكرانيا تحت عناوين مبهمة، إذ يشارك جنود بولنديون في المعارك جنوباً، بينما تنتشر قوات بولندية في المناطق الأوكرانية الغربية تحت عنوان الشرطة وضبط الأمن، فيما بدأ الإعلام الغربي يتحدث بشكل متزايد عن قلقه من نوايا وارسو تحريك أطماعها التاريخية في مناطق غربي أوكرانيا استغلالاً لفرصة الحرب الدائرة.
صحيفة: بولندا تنفّذ المرحلة الأولى من خطة الاستيلاء على غربي أوكرانيا