انتخابات البحرين.. لماذا وصلت إلى هذا الدرْك؟
سنواتُ البحرين طويلة مع الشدائد. المعركة الثابتة منذ استقلال 1971 كانت تحمل عناوين ثلاثة يتّفق عليها أبناء البلد: نيْل الحقوق بلا منّة، المُشاركة في القرار، العدالة. البذْل في سبيل ذلك كان تكليفاً لأصحاب الأرض الأصيلين.
حكايةُ البحرين مع التمثيل الشعبي الحقيقي ليست بهذا القدِم. لسنا أمام قرون، بل أمام 51 عاماً مليئة بالمواجهة والتحدي والاضطراب والتفرّد والجوْر. تفاصيلُ كثيرة خَبِرها من أسّس الدستور الأوّل للمملكة الخليجية بعد الاستعمار البريطاني، ومن عايش حقبات لم تعرف الهناء أبداً.
إثر نيلها الاستقلال، بدأت الحياة السياسية في البحرين تتجلّى تدريجياً. كان لا بدّ للدولة الخليجية آنذاك أن تتمتّع بدستور بائن يحكم نظامها. في ذلك الوقت، كان عيسى بن سلمان آل خليفة هو أمير البلاد. أمر بتشكيل مجلس تأسيسي مهمّته صياغة الدستور ليصبح أول دستور تعاقدي يُنظِّم الحكم في البحرين. هنا لَمَعَ اسم الشيخ عيسى أحمد قاسم في انتخابات المجلس المذكور وحصد أعلى الأصوات، فأضحى من الشخصيات المُتقدّمة التي شاركت في كتابة الدستور الذي اعتُبر لاحقاً وحتى اليوم الدستور التعاقدي الشرعي شعبياً دونما اعتراض.
عقب هذا، عرفت البلاد أوّل انتخابات برلمانية. خطوة مهمّة في الخليج غير أنها لم تطل. سنتان وتعطّلت الحياة الدستورية، إثر تفجّر الخلاف بين الحكومة والبرلمان، ما أدّى إلى حلّ الأمير عيسى مجلس النواب. دخلت البلاد في 30 سنة من الحكم الأمني، حيث حقوق الإنسان مسحوقة، ولغة المجازر والمنع هي السائدة. أُغلقت المؤسسات الاجتماعية والثقافية، وصُدّت الأبواب أمام حرية العمل الديني، وباتت النشاطات السياسية سرية.
فترة القمع داخلياً ترافقت مع بروز أحزاب إسلامية ويسارية نشط الأغلب منها بشكل سري وفي الخارج، فيما كان يقبع جزء كبير من أبناء البحرين في السجون.
حلّ عام 1994. اندلعت انتفاضة الكرامة. واعتُقل في إثرها الشيخ علي سلمان، الأمين العام لجمعية الوفاق الوطني الإسلامي، الذي كان قد عُرف بنضاله السياسي بُعيد عودته من إيران. رفع الشيخ سلمان شعاراً حوّله إلى مبدأ ثابت في مسيرته: عودة الحياة السياسية وتنشيطها، لكن السلطة في ذلك الوقت لم تُنصت، واختارت العنف.
احتجزت أجهزة السلطة الشيخ علي سلمان، فانفجرت الأوضاع واشتعلت الأرض؛ 8 آلاف بحريني دخلوا السجون فقط لأن النظام يريد ذلك. استمرّت الحال على ما هي عليه حتى موت الأمير عام 1999.
مع طوْي صفحة الأمير عيسى، لم تتحرّر البحرين من السطوة. ظنّ البعض أن السنوات العجاف قد ولّت الى غير رجعة مع تسلّم حمد بن عيسى الحكم. ولكن نفقاً مُظلماً كان ينتظر البحرينيين.
في البداية، سارع الملك الجديد إلى إعلان حسن النيات، أعلن أنه سيُفعّل الحياة السياسية، فطرح ميثاق العمل الوطني كخطوة أولى، قبل التصويت عليه بناء على استفتاءٍ عام. أُفرج عن السجناء السياسيين وهدأت الأجواء، نال الميثاق إجماعاً كبيراً، وعُدّ محطة عبور إلى الحياة السياسية الجديدة.
سنةٌ واحدة وتغيّر المشهد. قرّر الملك تبديل الميثاق بدستور جديد غير توافقي، اختصر جميع من في البلد، لم يتشارك مع أيّ من المكوّنات السياسية، ليُصبح رئيساً لثلاث سلطات: التنفيذية والتشريعية والقضائية.
2002 موعدٌ جديد للبحرينيين مع انتخابات برلمانية أجريت في ظلّ أزمة سياسية جديّة. المعارضة قرّرت ألا تقف مكتوفة الأيدي بالرغم من مقاطعة العملية الانتخابية بسبب موقفها المبدئي من الدستور المفروض بالقوّة، فحصرت مشاركتها في الانتخابات البلدية كرمى للناس لا النظام، وخدمةً لهم في مناطقهم. حينها، أظهرت النتائج حصولها على 60% من مقاعد المجالس البلدية بواقع 5 مجالس للمعارضة و2 للنظام.
لم تبقَ الأمور على حالها. أمام مشهد التمثيل الشعبي للمعارضة، اضطرّ النظام إلى الخضوع. فاتفق عام 2005 على دخول المعارضة إلى المجلس النيابي مقابل إجراء إصلاحات وتعديلات دستورية وعلى مستوى الدوائر الانتخابية وفتح الحياة السياسية أكثر.
وعليه، شاركت المعارضة في انتخابات عام 2006 وحصلت على 45% من المقاعد النيابية، لكنها فعلياً نالت 65% من الأصوات، غير أن الدوائر الانتخابية وتقسيماتها لم تكن عادلة.
جهدٌ جبّار بذلته المعارضة في هذه المرحلة على الرغم من كلّ العراقيل التي وُضعت في طريقها من قبل السلطة، لتعبّر فعلاً لا قولاً عن برنامجها الوطني.
أولويات عدّة عملت عليها المعارضة آنذاك هي: الخدمات الإسكانية، ملفّ البطالة، الرواتب، الحريات السياسية، النقابات العمالية، تجريم التطبيع الذي استطاع نيل 39 صوتاً من أصل 40 في المجلس النيابي، غير أن تحكّم الملك حال دون إقراره رسمياً.
عام 2010، أعادت المعارضة المشاركة في الانتخابات البرلمانية مع القوى السياسية الأخرى، إلّا أن المشهد سُرعان ما انقلب. عام 2011، وتحديداً في شباط/فبراير، نزل الشعب إلى الشارع وثار بوجه الاستبداد الحاكم. السلمية قوبلت بالقتل والتعذيب والعنف. فكان الردّ من كتلة الوفاق البرلمانية عبر استقالة أعضائها الـ18 من مجلس النواب.
أسلوب النظام لم يرقَ إلى مستوى خطاب المعارضة. ظلّ على عناده، لا تلبية لأيّ مطلب شعبي. لا تنازل عن العنجهية إنما مزيدٌ من الطغيان. في الإثر، دعا الشيخ علي سلمان الشعب لتصفير صناديق الانتخابات عام 2014. نداءٌ لاقى تجاوباً كبيراً أدّى إلى انخفاضٍ لافت في نسبة التصويت، ليصل إلى مقاعد النواب كلّ مرشّح دُفع إلى ذلك.
أبرز كوارث مجلس 2014 الذي غابت عنه المعارضة كان إقرار ضريبة القيمة المُضافة بنسبة 5% للمرة الأولى في البلاد.
عام 2018 أيضاً قاطعت المعارضة مسرحية الانتخابات. لم ترَ تبدّلًا واحداً في أداء النظام. السوء على حاله؛ مجلس النواب الفاقد للشرعية الشعبية رفع الضريبة إلى 10% بذريعة الوضع الاقتصادي، وعدّل قانون التقاعد بما يضرّ بالمواطنين، وأقرّ رفع الدعم عن كثير من القطاعات الحيوية بالنسبة إلى الناس وعلى رأسها الكهرباء، وضيّق مساحات التعبير عن الرأي بشكل قياسي، ومنع استجواب أيّ وزير.
الأقسى في هذه الولاية كان التطبيع. "مجلس الدمُى"، كما سماه البحرينيون، لم يعطِ موقفاً من المشروع، على الرغم من أن الدستور البحريني ينصّ على أن أيّ اتفاقية استراتيجية يجب أن تمرّ على المجلس، ولكن مع ذلك هذا لم يحصل.
خلال 20 سنة، تحوّل البرلمان إلى مؤسّسة تواجه الناس في معيشتهم وحريّاتهم وتجارتهم. وإذا كانت تجربة الأمس بهذه المرارة، فكيف ستكون الجولة القادمة؟ الكلّ يُجمع على أن الجولة القادمة ستكون الأسوأ. يُدركون أن وعود النظام بالتغيير غير صحيحة. ويردد البحرينيون شعارات: "لا ثقة، لا بيْعة، لا طاعة. المقاطعةُ حق أصيل والتصويت يعني المزيد من التخلف والتراجع والانهيار".
* لطيفة الحسيني - صحافية لبنانية