فلاديمير بوتين يجمع بين العاطفة والرصانة
أراد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن يُغير روسيا فوجد نفسه يتغير بما ينسجم مع حجم أمّته ودورها ومكانتها التاريخية والدولية.
في الواقع، أكّد الرئيس الروسي للمرّة الألف أنّه وهب نفسه لاستعادة عظمة روسيا وحقها في أن تسير على السبيل الذي تريد. وفي ذات الوقت، احتكر لنفسه الحق في اختيار ذلك السبيل، مع الإشارة إلى أنّه يدافع عن كل فردٍ في بلاده.
ولكي يكون كلام بوتين عالمياً وليس داخلياً، عمم أنّ تجربة نضال روسيا من أجل حريتها وسيادة قرارها غدت مثالاً يمكن أن تحذو حذوه الشعوب الأخرى، التي تسعى إلى التخلّص من التبعية للغرب الجماعي بقيادة أميركية.
بوتين ذكر بالاسم عملياً بعض الدول التي يراها في طليعة المكافحين في سبيل خصوصيتها وحضارتها ومكانها تحت الشمس: أندونيسيا وإيران وجنوب أفريقيا والصين والهند، وحتى بعض دول الخليج العربي.
وثمّة رمزية في أن يذكر بوتين على لسانه اسم الجنرال قاسم سليماني. هنا، برزت العاطفة بشكلٍ واضح في إشارة الرئيس الروسي إلى وقاحة واشنطن في اغتيال الجنرال دون حتى ذرة واحدة من الضمير، ودون اكتراث إلى أن الشهيد يُعدّ رمزاً وشخصية رسمية لدولة ذات سيادة.
ربما برزت هذه العاطفة أولاً في البرقية التي بعث بها بوتين إلى نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي معزياً بضحايا العمل الإرهابي في شيراز، لكنها، أي العاطفة، وُجدت في منتدى فالداي حيزاً للخروج إلى الملأ. مما لا شك فيه أنّ بوتين كان يقصد ذلك.
العاطفة برزت أيضاً في جولة الرجل على التاريخ المشترك لروسيا وأوكرانيا. بوتين يعتبر الروس والأوكرانيين شعباً واحداً، فرقته عوامل التاريخ والجغرافية وحالات الوهن التي مرّت بها الدولة الروسية في مراحل مختلفة. لكن السبب الرئيسي في رأيه، سياسة فرّق تسد، التي اتبعها الطامعون في ثروات روسيا.
ومن شواهد العاطفة، الحديث عن الرهاب الروسي (روسافوبيا). لكن بوتين يعتقد أنّ من يحاربون بوشكين وتشايكوفسكي ودوستويفسكي، سوف ينساهم التاريخ بعد بضع سنوات فقط، أمّا الإرث الثقافي الروسي فهو خالد.
الرصانة في كلام بوتين، برزت في حديثه عن أنّ موسكو لا تسعى إلى الصدام المباشر مع الغرب، ولا إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل. ما يريده الرجل هو احترام خيار روسيا الحضاري ومصالحها القومية.
الرئيس الروسي مستعدٌ للوقوف عند الحد الأدنى من المطالب: المناطق الأربع حديثة الانضمام إلى روسيا دوي أي شبر إضافي، وضمانات أمنية لبلاده، سبق أن قدّمتها روسيا للغرب الأطلسي قبل اندلاع الأزمة الراهنة وتفاقمها.
وفي الوقت نفسه، يضع بوتين الخصم أمام خيار آخر: تفكيك أوكرانيا وتقاسمها مع كل من بولندا ورومانيا وهنغاريا، أي إعادة الأراضي التي استولى عليها جوزيف ستالين بنتيجة الحرب العالمية الثانية إلى أصحابها، واستعادة روسيا لما كان يسمى في يوم ما روسيا الصغرى (عاصمتها كييف) وروسيا الجديدة (جنوب شرق أوكرانيا).
هذا الأمر كان بارزاً عندما أجاب بوتين بمراوغة عن سؤال أحد الضيوف: أي تأشيرة سفر احتاج لكي أزور أوديسا، أوكرانيا أم روسية؟ جواب بوتين فهم بأنّ مصير أوديسا يتوقف وغيرها من المناطق التي كانت تاريخياً جزء من روسيا، على نتيجة المفاوضات والمساومات مع الولايات المتحدة.
الشيء الأبرز في حديث بوتين والذي جمع بين الرصانة والعاطفة هو أنّه عازمٌ على تحقيق ما يريد، مهما يُكلّف الثمن، وكم يستغرق من الوقت، ورغم إرادة الخصم.