روسيا وتركيا.. تقارب المصالح والالتفاف على العقوبات
دفعت الحرب المستمرة في أوكرانيا تركيا وروسيا إلى التقارب، في خطوة تبدو كما أنها جاءت في سياق خرق العقوبات الغربية المفروضة على روسيا. فقد كان لأثر التداعيات المالية للحرب المستمرة في أوكرانيا أهمية خاصة على اقتصادي تركيا وروسيا، وأصبحت أنقرة منفذاً رئيسياً لبعض رؤوس الأموال الروسية التي لا يمكن استثمارها في أي مكان آخر، بسبب العقوبات.
وأعرب الاتحاد الأوروبي عن قلقه من التقارب الروسي التركي، بحسب صحيفة "فايننشال تايمز" الأميركية، التي أشارت إلى أنّ مسؤولين أوروبيين حذّروا من أن "تتحول تركيا إلى منصّة تجارة لموسكو"، واصفين سلوك تركيا مع روسيا في هذا التوقيت بأنه "انتهازي للغاية".
كذلك، يتزايد قلق واشنطن من استخدام الحكومة والشركات الروسية أنقرة للالتفاف على العقوبات والقيود المالية والتجارية الغربية المفروضة، ردّاً على العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا.
ووقعت روسيا وتركيا عقد توريد دفعة ثانية من منظومة صواريخ "إس-400" الروسية الدفاعية، في شهر آب/أغسطس الماضي، بعد تسلمها المجموعة الأولى في عام 2021، ما دفع بالكونغرس الأميركي إلى طرح مشروع قانون لفرض عقوبات على أنقرة، بسبب توريد المنظومة الروسية.
"ترك ستريم" عوضاً عن "نورد ستريم"
التقارب بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان برز في لقاء سوتشي، في آب/أغسطس الماضي، حيث تمّ الاتفاق خلاله على أن يتم دفع إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا جزئياً، وأن يتم التسديد بالروبل.
ويبدو أنّ الرئيسين الروسي والتركي ناقشا خلال اللقاء إحياء مشروع خط أنابيب "ترك ستريم" الذي كان قد توقف. وفي هذا السياق، اعتبر ألكسندر نوفاك، نائب رئيس الوزراء الروسي، أنّه "يجب أن يكون الشركاء الأوروبيون ممتنين لتركيا لتأمينها نقل الغاز الروسي من دون توقف"، مشيداً في الوقت نفسه بدور أنقرة في "المرحلة الجديدة والفرص المستجدّة".
وأعلن نوفاك أنّ من الممكن أن تصبح تركيا مركزاً لتصدير مصادر الطاقة الروسية، بما في ذلك إلى أوروبا، مشيراً إلى أن إمكانيات نقل الغاز عبرها واعدة للغاية.
ويقول أديب السيد، الخبير في الشؤون الروسية، للميادين نت إنّ تفجير خطي أنابيب "نورد ستريم1" و"نورد ستريم2"، إضافة إلى إغلاق خطوط ترانزيت الغاز عبر أوكرانيا، وإغلاق بولندا لمحطة التكرير في أراضيها، جعل من "السيل التركي" السبيل الوحيد لوصول الغاز الروسي إلى أوروبا. وبالتالي، لم يكن أمام موسكو التي تريد أن تواصل صادرات الغاز إلى أوروبا الغربية إلاّ أن تقدّم اقتراحاً استراتيجياً وجوهرياً إلى إردوغان، عبر إقامة أكبر مركز عالمي للغاز في بلاده، وستتولى تركيا عملية إعادة تصدير الغاز الروسي وتوزيعه، وبذلك يكون إرودغان أكبر الرابحين من هذه الأزمة على الصعد كافة.
وكان واضحاً، بحسب السيد، منذ بداية العملية العسكرية في أوكرانيا، واشتداد العقوبات الغربية ضد روسيا، أنّ أنقرة تحاول أن تستثمر في هذا الوضع، للخروج بأكبر قدر من المكاسب سياسياً ودبلوماسياً، والأهم من ذلك اقتصادياً.
ويرى السيّد أنّ "إردوغان لم يكن ليفوّت هذه الفرصة النادرة من دون أن يقدم نفسه وبلاده على أنّها الطرف الوحيد القادر على مواصلة الاتصال مع نظيره الروسي، إضافةً إلى نقل رسائل متبادلة بينه وبين القادة الغربيين. وإردوغان يعلم أنّ تركيا، كعضو في حلف الناتو، لا تسمح للدول الغربية وواشنطن على وجه الخصوص بممارسة ضغوط غير مقبولة عليها".
من جهته، أشار الباحث في الشأن التركي، دانيال عبد الفتاح، إلى أنّ هناك احتمالاً كبيراً أن يتم إنشاء مركز عالمي للغاز في إسطنبول. وفي هذا الإطار، وجّه إردوغان تعليماته بشكل مباشر إلى وزارة الطاقة التركية لإقامة هذا المركز، ومن مهماته تقييم وتحديد أسعار وتداولات الغاز الروسي، وربما قد تنضم إليه قطر وبعض الدول الأخرى، على غرار ما هو موجود حالياً في العلاقة بين تركيا وأذربيجان.
ويضيف عبد الفتاح للميادين نت: "روسيا استفادت من تركيا بشكل كبير، من خلال الالتفاف على حبال العقوبات الأميركية والغربية، وحتى عمليات تمرير الأموال في المنطقة. كذلك، تستفيد روسيا بشكل قوي جداً من تمرير غازها وسياسات التسعير في مجال الطاقة والغذاء، وحتى أعمال البنى التحتية، وكل ما له علاقة بالمواد الخام. إلا أنه وفي ظل العقوبات، تعمل تركيا بشكل حذر وبطرق ملتوية كي لا تقع في محظورات قانونية، حيث تحرص أنقرة على أن لا تقوّض علاقاتها، وعلى إيجاد توازن مع حلفائها".
إردوغان الوسيط والرابح الأكبر
وساهمت تركيا، إلى جانب الأمم المتحدة، في التوسط في الاتفاقيات بين روسيا وأوكرانيا، والذي ترجم أخيراً بتوقيع "اتفاقية الحبوب" في إسطنبول، ما مهّد الطريق لأوكرانيا لتصدير نحو 22 مليون طن من الحبوب والأسمدة ومنتجات زراعية أخرى عالقة في موانئها على البحر الأسود.
وحاولت تركيا أداء دور الوسيط في النزاع الروسي الأوكراني عبر اجتماع وفدي البلدين في إسطنبول، حيث كادت الوساطة أن تؤدي إلى نتيجة إيجابية لولا الضغوطات الأميركية البريطانية على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، وإقناعه بضرورة مواصلة الحرب.
صحيفة "فايننشال تايمز" الأميركية ذكرت أنّ زيادة الصادرات التركية إلى روسيا تثير مخاوف غربية، وأنّ بعض دول الاتحاد الأوروبي أبدت قلقها من النمو التجاري السريع بين موسكو وأنقرة.
ومن أيار/مايو إلى تموز/يوليو، بلغت قيمة الصادرات التركية إلى روسيا 2.04 مليار دولار، بزيادة 642 مليون دولار عما كانت عليه في تلك الأشهر نفسها من عام 2021، وفقاً لبيانات التصدير التي جمعتها وزارة التجارة ومعهد الإحصاء التركي.
وفي الشهر الماضي وحده، ارتفعت قيمة الصادرات إلى روسيا بنسبة 75% على أساس سنوي، من 417 مليون دولار في تموز/يوليو 2021 إلى 730 مليون دولار. وكانت الزيادة البالغة 313 مليون دولار بين تموز/يوليو 2021 وتموز/يوليو 2022 هي الكبرى لأي دولة تصدر تركيا إليها.
فيما ارتفعت حصة روسيا من إجمالي صادرات تركيا في تموز/يوليو 3.9% من 2.6% قبل 12 شهراً.
التقارب الروسي التركي هو حاجة وضرورة روسية وتركية معاً، بحسب عبد الفتاح، فأنقرة بحاجة إلى أن تأخذ مواقعاً ودوراً لها في القضايا الاستراتيجية والعلاقات الدولية والأمنية، والدخول إلى سوريا، إلى جانب المعترك السياسي والاقتصادي الداخلي في تركيا، وطبعاً أن تكون دولة محورية ومفصلية في المنطقة، وفي الإقليم، وعلى المستوى العالمي.
يقول عبد الفتاح: "إذا نظرنا إلى الدور التركي في الحرب الأوكرانية الروسية، نجد أنّ تركيا تستفيد من الوضع القائم عبر تدخلها في هذه الأزمة مباشرةً، وحصلت على موقعية مهمة من خلال اتفاقية الحبوب، واللقاء الذي حصل في انطاليا بين الروس والأوكران، إضافةً إلى اللقاءات الأخرى التي تمّ تأسيسها في تركيا. وعلى الرغم من سعي جميع الدول ومحاولتها التقريب بين روسيا وأوكرانيا، لم تنجح كل هذه المحاولات، فيما نجحت العلاقات الروسية التركية في هذه المرحلة العصيبة، واستفادت أنقرة بشكل كبير من خلال اللعب على حبال العقوبات الأميركية الغربية".
شركات تركية وسيطة لتسهيل عمليات التجارة الروسية
ويكشف السيد عن وجود عشرات الآلاف من رجال الأعمال والشركات الروسية التي نقلت فعالياتها وأعمالها إلى تركيا، وخصوصاً إلى إسطنبول وجنوب البلاد، وبحر إيجة وإنطاليا. وتعمل تركيا على تسهيل عمليات تمرير وتهريب الأموال الروسية عبر التجارة العالمية، بواسطة شركات تركية تلعب دور الوسيط، حيث تستفيد روسيا من كل هذه التسهيلات.
كما أنّ تركيا استفادت من الدبلوماسية الروسية الدولية في الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، والجمعيات والمؤسسات العالمية، والتحالفات الدولية، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومنظمات حقوق الانسان، ومكافحة الإرهاب، ووقوف موسكو إلى جانب أنقرة، من خلال الدعم المتبادل بينهما، بحسب عبد الفتاح.
كذلك، استفادت أنقرة من جهتها بشكل أساسي من الخلاف القائم بين الناتو وروسيا، ورغبة الدول التي شعرت أنّها بحاجة كبيرة للانضام إلى الناتو كالسويد وفنلندا، ووضعت تركيا الفيتو عليهما.
العلاقة بين روسيا وتركيا لا تسمى تقارباً بالمعنى الحقيقي، وهي "توصيف خاطىء، لأنّها علاقة ترابط قوي، وستتطور بشكل كبير سياسياً واقتصادياً في المستقبل"، برأي عبد الفتاح.
ويضيف عبد الفتاح: "هناك توقعات بأن تدعم روسيا حزب إردوغان، مقابل تفكيك وإضعاف المعارضة في بلاده، لكي يستمر في موقعه. وقد يترجم هذا الأمر عبر دعم اقتصاد بلاده بأموال نقدية (سيولة) تدخل إلى البنك المركزي التركي، لدعم الليرة التركية، وإنقاذه من الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي تمر بها بلاده".
في المقابل، هناك خوف وحذر روسي من أن تحصل تغييرات دراماتيكية في الداخل التركي، وفق ما يشير عبد الفتاح، قد تُذهب بكل المساعي الروسية وهذه المكتسبات أدراج الرياح إذا خسر إردوغان الانتخابات، أو أن يواجه انقلاباً عليه ينعكس سلباً على علاقات تركيا بروسيا.