حقائق وأسرار عملية الويمبي.. وللمرة الأولى لقاء مع شريك خالد علوان منفذ العملية
إنه اليوم الرابع والعشرون من أيلول/ سبتمبر عام 1982، ونحن الآن في شارع الحمرا البيروتي الشهير، وأمام مقهى الويمبي بالتحديد؛ ضابط وجنود إسرائيليون يجلسون إلى طاولة على رصيف المقهى، أمامهم قهوة وبيرة، وبين أقدامهم أسلحتهم، وعلى وجوههم نشوة باحتلال عاصمة عربية، وفي أذهانهم اعتقاد أن أحلامهم وأهدافهم المعلنة والمضمرة في لبنان تتحقق.. بالتوازي مع لحظات الزهو والغرور الإسرائيلي تلك، كانت هناك لحظات غضب بيروتية، ولحظات خاطفة لاتخاذ قرار مواجهة سريع ومباشر وجريء، والتقت اللحظات ببعضها فكانت، عملية الويمبي..
شبان لبنانيون قرروا أن شوارع مدينتهم لا يليق بها حضور الإسرائيليين إلا دماءً على الرصيف ..
"هذا ما حدث" في حلقته التي عرضت بتاريخ 28-9-2022، عاد إلى ذاكرة بيروت الوجدانية والنضالية، وبحث في مكانة عملية الويمبي الخاصة بالتزامن مع ذكراها السنوية، العملية التي شكلت علامة فارقة في تاريخ العاصمة بعد دخول "الجيش" الإسرائيلي إليها، في الحلقة إجابات عن أسئلة بخصوص كيف خُطط للعملية؟ من نفّذها وشارك فيها؟ من قتل من الإسرائيليين؟ وأين انسحب كل منفذ من مسرح العملية؟ وأي أثر كان لعملية الويمبي في انسحاب الإسرائيليين السريع من بيروت؟ وماذا حدث في تفاصيلها؟
في هذه الحلقة، لقاء خاص مع م.ب "كيسنجر"، شريك الشهيد خالد علوان، منفذ عملية الويمبي، الشريك الذي كان معه في القرار والتنفيذ والمواجهة متحدثاً للإعلام للمرة الأولى عن العملية، ولقاء مع ح. خ "تموز"، آمر شعبة العمليات في الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1982، والممثل اللبناني علي الخليل الذي كان موجوداً في المكان في أثناء تنفيذ العملية.
تفاصيل العملية من القرار إلى التنفيذ
ح.خ "تموز" كان في فترة الاجتياح الإسرائيلي نائب آمر القطاع العسكري في الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي ينتمي إليه منفذو العملية، وكان المسؤول عن إدارة المجموعات والتنفيذ، لكنه كان مصاباً يوم تنفيذ العملية، ونزيلاً في الجامعة الأميركية حين جاءه خالد علوان بعد التنفيذ مباشرة، وأخبره بتفاصيل العملية وماذا حدث.
ح.خ " تموز" : الشباب كانوا يتمركزون في صالة مونتي كارلو التي كانت صالة بينغو، وصاحبها رفيق لنا، وكان هناك اثنان من الاستطلاع يجولان في الشارع، حضرا بسرعة ليُخبروهم أن أربعة من الإسرائيليين يجلسون في الويمبي يشربون البيرة، خالد علوان كان موجوداً هنا، وكان هناك شاب آخر رفيقنا توفي أيضاً اسمه عارف البدوي، وهناك أيضاً واحد ثالث اسمه كيسنجر، وهو آمر المجموعة، اتفقوا في الداخل أن يتقدم خالد وكيسنجر ويُطلقا النار، كل واحد من مسدس، وعارف ينتظرهما في السيارة عند المفرق فوق نحو اليسار، غير مرئي.
من وثيقة تركها خالد علوان بخط يديه: أنا خالد عثمان علوان، والدتي خديجة، المولود بتاريخ 1962، أكتب هذه السطور لأروي حقيقة ما حصل معي.
شاهدت ثلاثة جنود إسرائيليين يشربون القهوة على رصيف المقهى، ونفّذنا العملية عليهم، وكما ذكرت كانوا ثلاثة ولم أعرف من أين أتى الرابع، ربّما من حمامات المقهى أو كان ماراً، فأطلقت النار عليه وهربت.
وبذا، يتضح أن خالد علوان منفذ عملية الويمبي لم يكن وحيداً، بل شاركه في العملية رفيقان هما: عارف البدوي الذي توفي منذ فترة، وم. ب الملقّب بكيسنجر والذي كان آمر المجموعة التي نفّذت العملية حينها.
بعد سلسلةٍ من التحقيقات، استطعنا التواصل مع كيسنجر والوصول إليه، هو حالياً خارج لبنان في دولة أجنبية، وفضّل حفاظاً على سلامته إبقاء هويته سريّة بعد تعرضه لتجارب أمنية قاسية، ومنه بشكلٍ مباشر عرفنا ماذا حدث.
م. ب "كيسنجر": كنّا موجودين في أحد محلات البينغو في شارع الحمرا، وكنا جالسين أنا والشهيد، رحمه الله، خالد علوان، ومعنا بعض الإخوة الموجودين في لبنان حالياً، منهم (و. ح) و (م. ع)، لا أستطيع أن أذكر الأسماء لأنهم موجودون في أماكن حساسة، دخلوا علينا وقالوا لنا يوجد في الخارج لاند روفر إسرائيلي ومجموعة إسرائيلية في مقهى الويمبي، خرجنا وراقبنا الوضع بالتفصيل، كان هناك ضابط برفقة اثنين آخرين يشربون البيرة والقهوة عند المدخل اليساري للقهوة، وكان معهم جيب ويلز عليه رشاش ماغ، دخلت أنا والأخ خالد قبّلنا وودعنا بعضنا وتلونا الشهادة . طلبت من خالد أن يقف أمام اللاند روفر الموجود وأن يغطيني، فأعطاني إشارة أن الماغ مقفَل، فقلت له إذن فلنستعمل المسدس، وتقدمت متراً أو مترين، وتم إطلاق النار على الضابط الأول، كان يلبس نظارات شمسية ويضعها على جبينه، أُصيب في وجهه مباشرةً، وأصيب الشخصان اللذان كانا معه أيضاً، وحاولت أن أسحب بندقية من تحت قدمه، لكن للأسف، كان حزام البندقية تحت الطاولة، فلم أستطع أن أشده أبداً.
لولا خالد لكنت استشهدت؛ إذ أطلق درّاج شرطي لبناني النار عليّ للأسف، درّاج أعرفه وأعرف من أي منطقة هو، لن أذكره حتى لا يحدث أي زعل، وهو بالطبع يعرف نفسه، أيضاً تعرض خالد لإطلاق نار، وبدوره، أطلق النار على الجندي الإسرائيلي الذي خرج.
- الجندي الإسرائيلي الذي خرج من الحمامات هو شخص رابع غير الثلاثة الذين كانوا يجلسون إلى الطاولة
- صحيح
- الرصاصة التي قتلت الضابط كانت من مسدسك أم من مسدس خالد؟
- لا فرق بيننا، كنت مسؤولاً عن خالد، وكنت أخاه ورفيقه، ولا يهم مَن الذي أطلق النار، أنا بدأت العملية وهو كان موجوداً معي، ولولاه لما كنت حياً اليوم، فهو أنقذ حياتي، وفي أول لقاء لنا قلت له شكراً يا خالد لولاك لكنت متّ.
- والجنود الإسرائيليون لم يستطيعوا الوصول إلى أسلحتهم، كانت مباغتة، كانوا في حالة استرخاء؟
- لم يتحرك أحد منهم؛ لأن الإصابات كانت كلها بالصدر والوجه، يعني نتحدث عن بُعد متر، أو ربّما أقل.
- أنتم كنتم على الرصيف نفسه أم على الرصيف المقابل؟
- لا، كنت على الرصيف نفسه، توجّهت إليهم وجرى ما جرى، كان في القهوة أحد الممثلين اللبنانيين، علي الخليل، كان موجوداً داخل القهوة يقرأ جريدة "النداء" ويمكنكم أن تتواصلوا معه.
في الحلقة، جرى التواصل مع السيد علي الخليل لسؤاله بشأن ما شاهده يومها:
علي الخليل: جلسنا نشرب القهوة ونقرأ الجريدة ونتحدث، وإذ بنا نسمع إطلاق نار، ماذا حدث؟ قيل عملية ضد اليهود الإسرائيليين، للحقيقة شاهدنا إسرائيليين مرميين ولا زلت أذكر كيف كانوا مرميين على الأرض، القهوة مرمية والطاولة مرمية، لا أعرف من أين ظهر الصحافيون فجأة، صرت أراقبهم، واضعاً يدي على خدي وأقول يا لطيف ماذا سيحدث لنا الآن، لأنها كانت أول عملية جريئة بهذا الشكل وشفت غليلنا، نظر إليهم ورشقهم. لقد شفى غليله وغليلنا، والسلام عليكم.
ح. خ "تموز": بالتأكيد، الجنرال قُتل في أرضه، وثلاثة كانوا في حال خطرة، عندما يقول العدو في حالة خطرة يعني حالة ميؤوس منها.
عملية الانسحاب من مسرح العملية:
بعد التنفيذ السريع والخاطف للعملية، بدأت مرحلة الانسحاب من مسرح العملية، فأين اتّجه كل شخص؟
م. ب "كيسنجر": لم أر خالد بعد هذه اللحظة؛ لأنني ذهبت باتّجاه الضاحية الجنوبية، ذهبت الى بئر العبد عند بيت عمي، فتحت راديو مونتي كارلو، قالوا في الراديو إنه تم إطلاق الرصاص على جنود صهاينة في مقهى الويمبي، وتم قتل أحد الضباط وأخذهم إلى الحمام العسكري ونقلهم من هناك في طوافة ومنها إلى العمق الإسرائيلي.
ح. خ "تموز": كيسنجر أكمل صعوداً وذهب مع عارف في السيارة وانسحب، خالد ذهب مع الذين هربوا وقت إطلاق النار، كان هناك كثافة ناس، بجانب صالة البينغو يوجد سينما مونتي كارلو حاول أن يختبئ تحت أو يخبئ مسدسه، مزّق كرسياً وضع مسدسه فيه وخرج يستطلع المكان فلم يجد أي قوة تداهم أو تعتقل، والناس لا تزال تهرب، فعاد وأحضر مسدسه وأكمل مع الناس، وصل إليّ ونزعه من بطنه.
- أين كنت أنت في هذه الأثناء؟
- كنت في مستشفى الجامعة أعالج من إصابة. دخل إلى غرفتي خالد وهو يرتدي ثوباً أبيض لطبيب، جلس بجانبي نزع مسدساً من بطنه ووضعه تحت الفرشة، تعبان يعني، قلت له خير إن شاء الله ماذا جرى؟ قال لي فرمتهم، قلت مَن؟ قال لي كانوا أربعة إسرائيليين يجلسون في الويمبي وبكل وقاحة يشربون البيرة ويمدون أقدامهم.
- كم بقي؟
- بقي حوالى الساعة
- في أي وقت تقريباً جرت العملية؟
- جاء إليّ وقت الظهر، يعني حوالى الساعة 11 أو 12
آثار العملية ونتائجها المباشرة على اللبنانيين والإسرائيليين
عملية الويمبي لم تؤثر في الإسرائيليين الذين شعروا بأنهم يغرقون في مستنقع فحسب، بل تركت بصماتها في نفوس الناس أيضاً، ورسّخت فيهم شعور الاعتزاز وإمكانية الانتصار.
ح. خ "تموز": كان الإسرائيليون يعتقدون بأنه لم يعد هناك أحد سيفتح فمه، لكن الناس أخذوا نفساً بالتحرير ورفض الاحتلال، وكانوا مسرورين جداً أنهم كسروا الشوكة أو الرهبة التي كانت لـ"الجيش" الإسرائيلي في النفوس، لقد تحررت النفوس، وكان هناك صدى إيجابي جداً.
علي الخليل: كيف تتخيلين الناس يجلسون في مدينة مغلقة يقطعون عنك الماء والكهرباء وكل المواد الحياتية، 14 ألف قذيفة نزلت في يوم واحد، 1200قتيل في نهار واحد، كيف تنتظرين من الشعب أو الناس الذين يعيشون في بيروت بجميع مللهم وطوائفهم ومذاهبهم أن يقولوا لهذا الإسرائيلي اجلس في الويمبي مرتاحاً وضع رجلاً فوق رجل ودخّن السيجارة! أين كرامة المرء في هذا الموضوع؟ هل يُعقَل أن هذا الإسرائيلي التافه يتخيّل أن هذا الشعب بهذا الحجم بلا كرامة؟! أننا بلا عنفوان ويمكننا أن ننسى؟! جاءهم "القبضاي" يا أحبتي أين أنتم ذاهبون؟ لستم في نزهة، أطلق الرصاص والسلام عليكم، وقد حدثت عدة عمليات بعدها، من أشخاص لا يعرفون حمل السلاح ، حملوا الأربيجيهات وذهبوا للمواجهة، أعرف العديد منهم وأحدهم أخي.
ح. خ "تموز": بعد العملية التي حدثت في الويمبي وأعطت هذا الأثر وهذه الخسائر التي شعر بها العدو والمستنقع الذي وقعوا فيه، أخذوا قراراً فورياً بالانسحاب وصاروا يخافون أن يسبب لهم الانسحاب خسائر كبيرة، فانسحاب بهذه الكمية الهائلة من العسكر يحتاج إلى تكتيك وإلى عمل عسكري، لذلك هم أخذوا يذيعون بمكبرات الصوت في كل أحياء بيروت، يا أهل بيروت لا تطلقوا النار، نحن "جيش" الدفاع الإسرائيلي راحلون، يعيدونها نهاراً وليلاً، لكننا طبعاً لم ننتظر أوامر أو تعليمات منهم وتابعنا العمل وهدفنا اصطيادهم في أثناء انسحابهم، لقد كان يعتقدون أنه في حال أذاعوا هذا البيان العلني فإن الناس ستنكفئ.
هذا صراع وجودي، صراع بين القرار بالمواجهة والقرار بالاستسلام، كان هناك مجتمع منقسم، وعندما صار هناك قرار بالمواجهة تغيرت المعادلات كلها، صار الناس كلهم يريدون التحرير، وعندما سمعوا أن الإسرائيليين سيخرجون عرفوا أن المواجهة أعطت نتيجة فورية، فتغيرت نفوس الناس. فالمقاومة عادة تقاتل عشر سنوات وعشرين سنة لتصل الى أن يشعر العدو أنه لا يستطيع أن يثبّت نفسه فيأخذ قراراً بالانكفاء، بعد تنفيذ عملية يؤخذ قرار في اليوم التالي أو في الليلة نفسها! اخرجوا من هذا المستنقع، وبالفعل لم يتحملوا، ثلاث أو أربع عمليات في بيروت ومباشرةً خرجوا. المقاومون انطلقوا، لم يعد أحد يستطيع أن يُعيدهم، ما دام هناك هدف سيُضرَب، مهما كان، لذلك انسحبوا تحت نيران المقاومة.
علي الخليل: لا يمكن أن ننسى ما فعله اليهود بنا مهما اتفق العالم وعقدوا صلحاً وكذا، ولكن أساؤوا بحقنا كثيراً نحن كشعب، كانوا يستحقون، وأنا شخصياً، أنا فنان في حياتي لم أحمل السلاح، حتى سكيناً لم أحمل، وقتذاك لو كنت أعرف حمل السلاح لكنت مكان خالد علوان، لكنت حملت السلاح وأطلقت النار، فقط دفاعاً عن كرامتي، دفاعاً عن بلدي، دفاعاً عن المأساة التي عشناها.
وفي الختام، قدم م. ب "كيسنجر" مقاربة تاريخية بين ما حدث قبل عقود وما يحدث اليوم بخلاصة هي: "التاريخ يُعيد نفسه، الناس الذين كانوا يشككون بالمقاومة والناس الذين ضغطوا على الثورة الفلسطينية لتخرج من لبنان،هم الناس ذاتهم الذين يضايقون ويثرثرون بشأن المقاومة وسلاحها اليوم، هم الأشخاص أنفسهم الذين كانوا قبل سنوات طويلة، لم يؤثروا فينا لأن القافلة تسير والكلاب تنبح،و لأن الشعب اللبناني شعب بطل وهذه الثرثرة لم ولن تؤثر فينا أبداً".
عندما ظن الإسرائيليون أن انتصارهم نهائي جاء شبّان لبنانيون ليقولوا عبر أفواه المسدسات وبلغةٍ من رصاص كلمات بحروفٍ من ذهب؛ هذه المدينة لأهلها لا لغزاتها، ونحن المنتصرون والباقون لا أنتم... وكان هذا ما حدث.