مهسا أميني وزينب عصام.. كيف يتلاعب الإعلام بالموت؟
غربيّ العاصمة العراقية بغداد، في منطقة أبو غريب، قُتلت يوم أمس فتاة عراقيّة. الفتاة زينب عصام، البالغة من العمر 15 عاماً، قتلتها "رصاصة طائشة" في حقل والدها. ربما لم تسمع بهذا الاسم، ولا بالطريقة التي قُتلت فيها، لأنّ الإعلام العالمي لم يلقِ الضوء على قصتها جيداً.
إذا أردت معرفة كيف توفيت زينب، وبمرورك على متصفح الأخبار، ستقرأ غالباً هذا الخبر: "أنهت رصاصة طائشة حياة الشابة زينب من جرّاء إصابتها بطلق ناري مصدره ميدان رماية عسكري قرب قرية البوعلوان". طلق ناري مصدره ميدان رماية عسكري، هذا يعني أن القاتل معروف، أو أن المشتبه به واضح المعالم، لكن الخبر منقوص، وغير واضح من الناحية التحريرية على الأقل. ميدان رماية عسكري تابع لمن؟ وهل الرصاص الطائش يرفع المسؤولية عن صاحبه؟
للخبر تتمة. أهالي المنطقة قدّموا إفادة في مقتل زينب، وقالوا إن "الرصاصة جاءت من معسكر تدريب داخل مطار بغداد الدولي"، في إشارة إلى قاعدة فكتوريا الأميركية الواقعة داخل المطار. كذلك نقلت وسائل إعلام محلية عن ذوي الشابة زينب تفاصيل الحادثة، وقال أحدهم لقناة محلية إن "الرصاصة التي استقرت في جسد زينب جاءت من الخلف، حيث يوجد ميدان رمي عسكري تابع لمطار بغداد الدولي قرب قريتهم".
أصابع الاتهام اتجهت إلى القوات الأميركية التي لم تقدّم تبريراً أو تفسيراً لما حصل حتى اللحظة، على الرغم من أن سياسيين ومدوّنين عراقيين اتهموا القوات الأميركية بقتل زينب، وطالبوا بفتح تحقيقٍ في الحادث، وانتشر وسم #أميركا_قتلت_زينب على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن أي دولة لم تندد، ولم يُسمع صوت للولايات المتحدة، أو الأمم المتحدة، أو أي من الدول الغربية التي سمعنا أصواتها قبل أقل من 5 أيام في حادثة موت فتاة أخرى، لكنها "لعنة الجغرافيا".
مهسا أميني.. خبر آخر
قبل أيام قليلة من مقتل زينب نهار الجمعة 16 أيلول/سبتمبر 2022 تحديداً، كان خبرٌ غير واضح المعالم تماماً يتسرّب حول مقتل فتاة داخل مركز للشرطة الإيرانية. الخبر "دسم"، و"جذّاب"، و"يصلح للعناوين البرّاقة" لدى الإعلام الغربي.
بمرور سريع على متصفح "غوغل"، يتضح كيف تعاطت وسائل الإعلام مع وفاة الشابة الإيرانية مهسا أميني. عناوين فضفاضة، ورواية غير واضحة المعالم، واتهامات تفتقر إلى الأدلة. العديد من المواقع نشرت هذه الجزئية من الخبر بحرفيتها: "توفيت مهسا أميني بعدما دخلت في غيبوبة في أعقاب إلقاء شرطة الأخلاق القبض عليها في طهران بسبب زيها غير المناسب". هل توفيت الشابة الإيرانية لحظة إلقاء الشرطة القبص عليها؟ أو أنها تعرّضت لصدمة بعد إلقاء الشرطة القبض عليها فتوفيت؟ الخبر لم يذكر أن أميني تعرّضت لأي تعذيب، كيف توفيت إذن؟
بعد يوم واحد من وفاة أميني، نشرت الشرطة الإيرانية فيديو التقطته كاميرات المراقبة، يوثّق اللحظات الأخيرة للشابة مهسا أميني داخل مركز الشرطة. اللقطات تُثبت عدم تعرّض مهسا أميني، البالغة 22 عاماً، لأي عنف أو إيذاء جسدي. يُظهر المقطع الشابة الإيرانية داخل مركز "شرطة الأخلاق"، وبينما كانت تقف في جوار مقعد، وتتحدث إلى امرأة أخرى، أمسكت برأسها فجأة، واصطدمت بمقعد، وسقطت أرضاً. في نهاية الفيديو، رصدت اللقطات نقلها على مِحَفّة إلى عربة الإسعاف. الشرطة الإيرانية قالت إنّ أميني عانت فجأة مشكلة في القلب، بحضور أشخاص آخرين، وتمّ نقلها على الفور إلى المستشفى في حالة الطوارئ من أجل تلقي العلاج، إلّا أنها فارقت الحياة.
عدا عن الشائعات والروايات المتضاربة التي شاعت بعد انتشار "الموضوع الشهي سياسياً" كما سمّاه بعض الناشطين، بدأت سلسلة الإدانات والاستنكارات العالمية. البيت الأبيض قال إنّ حادثة وفاة أميني "انتهاك صارخ ومروّع لحقوق الإنسان"، الأمم المتحدة أعربت عن قلقها. الاتحاد الأوروبي رأى أن ما حدث للفتاة الإيرانية أمر "غير مقبول"، داعياً إلى تقديم الجناة للعدالة، بينما رأت فرنسا أن موت أميني "صادم".
أيّ خبر سمعت؟
الحادثتان مؤسفتان. لكنّ التباين في التعاطي الإعلامي بين القضيتين مثير للانتباه.
حتى كتابة هذا التقرير، لم يتناول الإعلام الغربي مقتل الفتاة العراقية زينب عصام، في المقابل، امتلأت فضاءات وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بالمقالات والتدوينات والحلقات التلفزيونية بخصوص وفاة مهسا أميني، وكذلك تحليل الفيديو الذي يوضح كيف ماتت، وتوجيه الرأي العام ضدّ إيران، وتحريض مباشر وتجييش واضح، ونقاش في الحريات العامة والفردية في طهران.
الحكومة الإيرانية أعربت عن أسفها للحادث، وطلب رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي من وزير الداخلية فتح تحقيق في أسباب الحادثة. وبناءً عليه، أكّد مدير عام الطب الشرعي في محافظة طهران، بعد تشريح جثة أميني اليوم، أنه "لا توجد أي آثار للضرب والجروح في رأسها ووجها، كما لا توجد آثار ورم في أطراف عينها ولاوجود لأي كسر في الجمجمة". وأشار إلى أنه وفي عملية تشريح الجثمان "لم يتم ملاحظة أي نزيف دم وتمزق في أحشائها الداخلية".
وبالرغم من سير التحقيقات في المسار الطبيعي، يتوقف بث الإعلام الغربي وبعض الإعلام العربي على لحظة وقوع الحادثة، ولا يتعداه إلى ما كشفته الشرطة الإيرانية والتحقيقات لاحقاً. ويستمر في بث مواد هائلة تحرّض على الشرطة والنظام الإيرانيين.
في المقابل، استشهدت فتاة في العراق وهي تعمل في حقل والدها، برصاص يُرجّح أنه أميركي. وظهرت لاحقاً شهادات مثيرة للتساؤلات. ذوو الشهيدة أكّدوا أنهم أجبروا على عدم رفع دعوى ضدّ ميدان الرماية التابع للقوات الأميركية، بل أن يتم تحديد شخص أو متهم تُوجّه ضده الشكوى. وهذا عدا عن أنه إجبار على حرف سير التحقيق، فهو غير ممكن الحدوث باعتبار أن أهل الشهيدة مزارعون يجاورون مطاراً عسكرياً لا يمكن لهم أن يحددوا هوية الشخص الفاعل.
لم تكن هذه الجزئية هي الوحيدة التي غابت عن الإعلام الغربي في ما يخص استشهاد زينب، بل إن هذه الحادثة تتكرر كل يوم وفق ما صرح أهل الضحية وأبناء المنطقة. فرشقات الرصاص الطائش من ميدان الرماية تصل بشكل مستمر، والسكان القريبون من الميدان معرّضون للخطر بشكل دائم.
لم يتناول الإعلام الغربي قضية زينب، ولا قصة ميدان الرماية والرصاص الطائش الذي يشكّل تهديداً مستمراً لأهالي المنطقة، ولم يتطرق كذلك إلى الضحايا الذين سقطوا من المدنيين والعسكريين من جرّاء العمليات العسكرية الأميركية في العراق، والتي كان آخرها استشهاد مجموعة من ضباط الاستخبارات وعناصر الأمن العراقي في البغدادي بمحافظة الأنبار، بقصف من الطيران المروحي الأميركي.
لم تكن المفارقة في أي خبر يفوق الآخر أهمية، بل في الإعلام الانتقائي الذي يضخّم ويقزّم حسب أجندته السياسية. مهسا وزينب كانتا مثالاً، وبالطبع، لن تكونا آخر القصص.