بيلوسي في أرمينيا.. ما الذي تريده واشنطن؟

بعد زيارة بيلوسي تايوان الشهر الماضي في استفزاز واضح ضد الصين، وصلت إلى أرمينيا لـ"تدعم ياريفان ضد باكو"، في خطوة اعتبرتها أذربيجان أنها "تصعّد التوترات".
  • أدانت بيلوسي الهجمات التي اعتبرتها قد بدأت من قبل الأذريين (الميادين)

بعد زيارتها جزيرة تايوان الشهر الماضي، والتي تعتبرها الصين أرضاً تابعة لها، قامت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي بزيارة أرمينيا، الحديقة الخلفية لروسيا والتي تعتبر امتداد طبيعي لنفوذها بعد أن كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي.

وجاءت زيارتها سريعاً بعد المعركة المتجددة بين أذربيجان وأرمينيا، معلنةً دعمها للأخيرة. وهو عكس ما حصل في الحرب الأرمينية - الأذرية عام 2020. وقتها تلقت الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب، انتقادات كثيرة لعدم التدخل المباشر بشكل سريع دبلوماسياً واقتصادياً في المعركة.

لكن اليوم تأتي زيارة بيلوسي في وقت تخوض روسيا (وسيط الحرب بين أذربيجان وأرمينيا)، حرباً في أوكرانيا ضد "الناتو".

وقامت بيلوسي بإدانة الهجمات التي اعتبرتها قد بدأت من قبل الأذريين. وفوق إشارة بيلوسي إلى أن الولايات المتحدة تنصت لأرمينيا فيما يتعلق باحتياجاتها الدفاعية، مضيفةً أن واشنطن تريد مساعدة ياريفان، إلا أن الأهم كان اعتبارها عضوية أرمينيا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا، مسألة داخلية، وبالتالي لن تعلق على إمكانية انسحابها من عدمه.

هذا التصريح من قبل ثالث أهم منصب في التسلسل الهرمي للدولة الأميركية، أثار الشكوك حول نوايا واشنطن الجديدة في المنطقة، والتي ستبدأ بدفع أرمينيا نحو الإنسحاب، خصوصاً أن هذه الزيارة سبقها إبداء مسؤول أرميني الأسبوع الماضي، استيائه من رد التحالف العسكري الذي تقوده روسيا على طلب ياريفان المساعدة، على إثر المواجهة المتجددة بين الجارين. 

كما أن مجلس الأمن الأرمينيّ لفت إلى أن انتهاء أعمال العنف مع أذربيجان كان "بفضل وساطة دولية"، معاكساً تصريح  الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي قال يوم الجمعة إنّ موسكو عملت على وقف اشتباكات يوم الخميس. وعاد رئيس البرلمان الأرمينيّ آلان سيمونيان ليؤكّد في مؤتمر صحافيّ مشترك مع بيلوسي أنّ أعمال العنف انتهت بمساعدة واشنطن.

هذا العناد الأرميني في معاكسة روسيا، لم يبدأ اليوم، بل في شهر نيسان/أبريل عام 2018، عندما اندلعت ثورة في أرمينيا أطلق عليها "الثورة المخملية"، من قبل منظمات غير حكومية، مدعومة أميركياً، وأدت بنتيجتها إلى وصول السياسيّ المعارض المدعوم من الغرب نيكول باشينيان إلى السلطة.

منذ تلك اللحظة، تغيرت معايير العلاقة بين الدولتين، بعدما أرادت أرمينيا الابتعاد عن السياسة السابقة التي تقضي بالبقاء في الفلك الروسي، والتوجه نحو الأميركيين والأوروبيين، على قاعدة اعتماد سياسة خارجية "متعددة التوجهات".

ومنذ التسعينيات وحتى عام 2020، نجحت أرمينيا، تحت الفلك الروسي، بالحفاظ على مكتسابتها الجغرافية أمام أذربيجان. وفي هذه الفترة، ورغم وقوع أكثر من مواجهة بين باكو وياريفان، ومنها المواجهة العسكرية القاسية عام 2016، إلا أن الحكم الأرميني بقيادة سيرج ساركيسيان نجح بالخبرة العسكرية، وبالإلمام الدبلوماسي، بالحفاظ على مكتسباته.

أرمينيا ربطت وقتها مصالحها مع روسيا، لكن مع باشينيان بات التوجه، على أكثر من صعيد، غربياً. حصلت عملية تغيير كبيرة من المراكز المدنية إدارياً، إلى المراكز التعليمية، وصولاً إلى الاستخبارية والعسكرية.

بطبيعة الحال، أدى كل هذا إلى تقليص العلاقات مع روسيا، عما كانت على أيام ساركيسيان. وعليه، لم تكن خيبة الأمل الأرمنية مستغربة، لا حالياً ولا سابقاً عام 2020، خصوصاً أن كل العوامل مجتمعة، حاولت أن تعاند تاريخ الجغرافيا السياسية بارتباط أرمينيا بروسيا عضوياً. هذا أدى إلى عدم تلقي أرمينيا الدعم المرتقب من التحالف بقيادة روسيا، وبالتالي خسارة المعركة مع أذربيجان. 

واليوم، ستزداد خسارة يريفان، مع التأكيد على خيار الدعم الغربي، الذي يتجدد مع بيلوسي التي تعتبر أرفع مسؤول أميركي يزور أرمينيا منذ استقلال البلاد سنة 1991. ولأنها تأتي في وقت مشحون عالمياً، تحمل زيارتها محاولةً للتغيير في مشهد التحالفات داخل منطقة القوقاز، وسعياً من قبل الإدارة الأميركية إلى زيادة حجم التوترات حول موسكو.

جبهات مشتعلة جديدة 

في أعقاب الأزمة الأوكرانية، فإن احتمال التغييرات وارد في منطقة نزاع جيوسياسية بين روسيا والغرب، وخصوصاً أنه، بطبيعة الحال، أحد من الطرفين غير مستعد للتنازل عن المنطقة للآخر. وفي حين تقوم روسيا بتركيز عملها داخل مجال نفوذها جنوب القوقاز، فإن الولايات المتحدة وأوروبا يعملان على تثبيت ولاء جورجيا لهم، والعمل على أن تتبع أرمينيا مساراً يخدمهم.

ولكن تنويع الخيارات الاستراتيجية لأرمينيا، سيلقى رداً من الطرف الروسي، شبيهاً بعدم تدخلها عسكرياً في المعركة الأخيرة، وعليه، ستحمل أرمينيا تبعات خسائرها الاستراتيجية المقبلة، وخسارة المزيد أمام باكو أراضٍ ومكانةً بين دول المنطقة.  

وبداً ملفتاً إعلان وزارة الخارجية الأذرية، بأنّ تعليقات بيلوسي المتعلقة بالنزاع الأذربيجاني - الأرميني  "لا تفيد في تعزيز السلام الهش في المنطقة بل تصعّد التوترات".

التصعيد الأذربيجاني جاء مستفيداً من اشتعال العملية العسكرية في أوكرانيا من جهة، ومن جهة أخرى، ارتفاع التحركات الأوروبية لتشكيل تجمع سياسي موسع يضم دول الاتحاد الأوروبي والدول المحيطة بها بما في ذلك أرمينيا وأذربيجان، ولكن بدون روسيا وبيلاروسيا. وهو ما يعني السعي أكثر لعزل روسيا.

من جهتها، روسيا عازمة وأكثر من أي وقت مضى، على اتباع خط أكثر تشدداً مما كانت عليه قبل الأزمة الأوكرانية. وفي مجال نفوذها  الجيوسياسي، وحول محيطها، ستسير لتأمين حلقة آمنة، لكي لا يعيد التاريخ ما يحصل في أوكرانيا. التجربة والتاريخ يفيدان ذلك. وتصريح رئيس اللجنة العسكرية للناتو، الأدميرال الهولندي روب باور، الذي قال إنّه "من المخطط نشر مجموعات قتالية على مستوى الألوية في البلدان المتاخمة لروسيا"، مشيراً إلى أنه "إذا لزم الأمر، فإنه يمكن تحويلها إلى تشكيلات أكبر"، يشدد موقف موسكو باتجاه المواجهة، مع حلفاءها، ضد التوسع الغربي. 

"بدأ التخطيط لذلك قبل بضعة أعوام والآن، نضع هذه الخطط موضع التنفيذ"، أضاف باور. وعليه، فإن زيارة بيلوسي لأرمينيا جاءت في هذا السياق، ولضمان وقوف باشينيان بشكل أكبر تحت العباءة الأميركية. ولأن إمكانات الطاقة في جنوبي القوقاز كانت، ولا تزال عاملاً مهماً، فإن سياسة الولايات المتحدة، مدعومة من قبل الأوروبيين، ستتجه للغوص فيها، كبديل للطاقة الروسية في أوروبا.

الحرب على أكثر من جبهة، وإن لم تكن عسكرية مباشرة، ستستمر بين روسيا والغرب، في وقت يعاني الأخير من تضخم مالي لم يشهده تاريخها الحديث. وهو ما يمكن أن يجبر الغرب، ومع توالي السنين، عن التراجع أمام الوقائع الجيوسياسية للمحيط الروسي. 

المصدر: الميادين نت