قصة 11 أيلول/سبتمبر الأولى: حدث في تشيلي

كان يوم 11 أيلول/سبتمبر هو لحظة التضافر والتكامل في جهود كل من الولايات المتحدة، والخوانتا، أو مجلس الانقلاب العسكري، والرأسمالية التشيلية، من أجل إطاحة حلم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في تشيلي.
  • قصة 11 أيلول/سبتمبر الأولى: حدث في تشيلي

يعرف كثر حول العالم تاريخ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، باعتباره تاريخ انهيار برجي مبنى التجارة العالمي في مدينة نيويورك الأميركية عام 2001، لكن قلة يعرفون قصة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر الأولى. قصة حدثت في بلد يبعد آلاف الكيلومترات عن الولايات المتحدة، حيث انتُخب الرئيس الاشتراكي في تشيلي؛ سلفادور ألليندي.

البُعد الجغرافي لم يكن عائقاً أمام دور واشنطن فيما حدث في تشيلي، فهذا البلد، الذي أتى برئيس متمرّس في العمل السياسي، كان ليشكل نموذجاً خطيراً بالنسبة إلى البيت الأبيض في انتخابات عام 1970، الأمر الذي دفع وكالة الاستخبارات الأميركية وكبار الساسة الأميركيين إلى التخطيط من أجل إنهاء تلك المرحلة من حياة التشيليين وذاكرتهم، إلى غير رجعة.

ذلك التدخل الأميركي الفجّ في بلد ديمقراطي حقيقي، عبّر عنه وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، بالقول: "لا أفهم كيف نجلس جانباً، ونراقب دولة تسير في طريق الشيوعية، نتيجةً لعدم تحمل شعبها المسؤولية. المواضيع أكثر أهمية بالنسبة إلى الناخبين التشيليين من أن تُترك ليقرّروها بأنفسهم". 

هذه الجملة تلخّص، ببساطة، السياسة الخارجية الأميركية تجاه أي شعب يحاول التحرر: قصّر لا يمكنهم أن يقرروا بأنفسهم! وبالطبع، فإن كيسنجر يقصد أن يقرّروا مصلحة بلاده، لا بلادهم. وبناءً عليه، عمل الأميركيون بدأب على إضعاف تشيلي.

وكشفت الوثائق الأميركية، التي سُمح  بنشرها، مشاركة الإدارات الأميركية في إحكام الخناق على هذا البلد، عبر العقوبات الاقتصادية، وإنفاق مليارات الدولارات من أجل إطاحة ألليندي وتحالف الوحدة الشعبية، الذي مثّله في قصر لا مونيدا الرئاسي في سانتياغو، عبر انقلاب عسكري دموي قاده الجنرال أوغستو بينوشيه، في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 1973، وقاد معه البلاد إلى واحد من أسوأ عصور الديكتاتوريات في التاريخ الحديث، طوال سبعة عشر عاماً.

نهوض الاشتراكية يُخيف واشنطن

بعد هزيمة حليفها الديكتاتور فولغينسيو باتيستا أمام الثوار الكوبيين عام 1959، وتقارب القائد التاريخي فيديل كاسترو وسلفادور ألليندي، في إثر وصول الأخير إلى الحكم، وإعلانه عزمه تأميم الشركات والمصارف الأجنبية في البلاد، تفاقمت خشية واشنطن من انتقال النموذج الكوبي إلى التشيلي. وأتت زيارة فيديل كاسترو لسانتياغو، نهاية عام 1972، لتسرّع الخطط الأميركية من أجل إنهاء عصر ألليندي.

تَكَثَّفَ البحث عن شركاء محتملين في البرجوازية التشيلية، التي تضرّرت من إصلاحات ألليندي، وفي الجيش الذي حاول ألليندي أن يأمن جانبه. لكن الأمور تدهورت سريعاً في العام التالي، على الرغم من محاولات الرئيس المنتخب قيادة تحولاتٍ عميقة في الاقتصاد والقضايا الاجتماعية في البلاد، عبر تأميم البنوك والمناجم، بحيث أجرى تأميم البنوك والمناجم، وحدَّ من سيطرة الشركات الخارجية على الاقتصاد. وهو أسس أكبر إصلاح زراعي في تاريخ البلاد، وساهم بفعالية في وضع دستور يضمن حقوق جميع المواطنين، في العمل والإسكان والتعليم المجاني، إلّا أنّ ذلك لم يَحُل دون تنظيم احتجاجات منسَّقة من جانب المتضررين من هذه الإصلاحات.

ساعة الحقيقة

كان يوم 11 أيلول/سبتمبر هو لحظة التضافر والتكامل في جهود كل من الولايات المتحدة، والخوانتا، أو مجلس الانقلاب العسكري، والرأسمالية التشيلية، من أجل إطاحة حلم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في تشيلي. تحركت، ذلك الصباح، الدبابات في مدن البلاد، وطارت النفّاثات العسكرية فوق سانتياغو.

في شرفة القصر الرئاسي، وقف سلفادور ألليندي يعد العمال الذين انتخبوه وقاعدته الشعبية بأنّه لن يستسلم ولن يتركهم. قال إنّه سيدفع حياته ثمناً لولائه للشعب، وأكّد أنّه واثق بأن البذور التي زُرِعت في ضمائر الآلاف والآلاف من المواطنين التشيليين لن تذهب هباءً. قال الرجل، الذي بثّ الراديو الوطني كلماته الأخيرة مع أصوات القصف في الخلفية، إنّ الجنرالات لديهم القوة للحكم، لكن الصيرورة الاجتماعية لا تُحكَم بالجريمة أو القوة. وختم: إن التاريخ مُلك لنا، والشعوب تصنع التاريخ.

على مدى أعوام، جادل كثر في أنّ ألليندي قضى قتلاً أو انتحاراً، بسلاح آلي أهداه إياه صديقه فيديل كاسترو. الرجل خاض معركته مع الشعب حتى النهاية. ومع نهاية ذلك اليوم، انطلقت حملة تصفية مسعورة ضدّ الحركة العمالية والحركة الشعبية. جُمع الآلاف في ملعب سانتياغو الوطني وفي مئات المنشآت العسكرية والسجون ومعسكرات الاعتقال، قُتلوا بعد أن عُذبوا عبر أبشع الأساليب. اختفى نحو 30 ألف شخص في العام الأول للانقلاب. كان انتقاء المعارضين، من أجل قتلهم وتمزيق أجسادهم، منهجياً بدعم استخباري منسق مع واشنطن.

على مدى شهور، كانت الجثث تطفو على سطح نهر مابوتشو في سانتياغو كأنّها تحذر أي شخص من مجرد التفكير في معارضة سياسات بينوشيه، الذي رفض تسليم السلطةإلى المدنيين، على عكس ما تعهّد حين أعلن الانقلاب على ألليندي.

حكم بينوشيه تشيلي بالنار والحديد، بالاعتماد على نظام الاقتصاد الحر المفتوح تماماً على السوق العالمية. شرّع البلاد للاستثمار والاستغلال الأجنبيين، وخصخص كل مواردها الأساسية، بالإضافة إلى إخضاعها سياسياً بالكامل للولايات المتحدة الأميركية. ظلّ في الحكم حتى مطلع التسعينيات.

واليوم، إذ تستدير تشيلي يساراً عبر انتخاب رئيس مصمّم على إبعاد شبح بينوشيه عن تاريخ البلاد، يقول كثر، ممن عايشوا 11\9 الأول، أنّهم يشعرون بأنّ الهواء الذي يتنفسونه عاد نقياً، فإرث ألليندي لم يزل حياً في نفوس التشيليين، وإنّ كلماته الأخيرة أكّدها الزمن: الشعوب تصنع التاريخ!

المصدر: الميادين.نت