وقت الاستحمام في ألمانيا 5 دقائق فقط.. العداء للغاز الروسي هو السبب
بعد إعلان شركة "غاز بروم" الروسية، مساء الجمعة الماضي، إغلاق "نورد ستريم 1" خط الأنابيب الرئيس لنقل الغاز إلى أوروبا بسبب أعمال الصيانة عمّ القلق القارة الأوروبية، وتحديداً ألمانيا.
ظهرت ألمانيا بصورة الدولة الضعيفة العاجزة وغير القادرة على أن تفطم نفسها عن الغاز الروسي، على الرغم من تصريحات سياسييها ومشرعيها الذين اقترحوا قطع علاقة بلادهم بالطاقة الروسية، من دون النظر في الأضرار والتبعات الكارثية التي كشفت هشاشة الإجراءات والتدابير المتخذة.
فأزمة نقص الطاقة التي ضربت أكثر القطاعات حيوية في هذا البلد، أي الصناعة، امتدت آثارها المباشرة أيضاً إلى داخل كل بيت في ألماني، وفرضت على الشعب التخلي عن بعض الرفاه الذي لطالما نعم به طوال عقود، قبل أن يضطر اليوم إلى تغيير نمط حياته
وما أثر إغلاق خط " نورد ستريم 1" في المصانع والمؤسسات الحيوية الألمانية؟
لا بد من الإشارة إلى أن الإجراء الروسي جاء بعد ساعات من إعلان وزراء مال مجموعة الدول السبع (أميركا، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وكندا، واليابان) في بيان مشترك أنهم يخططون لتطبيق حد أقصى لسعر النفط الخام والمشتقات البترولية الروسية.
كانت ألمانيا قد ملأت خزانات الغاز لديها بأكثر من 82 في المئة، قبل الموعد المحدد، استعداداً لفصل الشتاء، وحتى قبل أن تخفض روسيا عمليات التسليم الاعتيادية عبر "نورد ستريم 1" إلى 20 في المئة فقط من الطاقة العادية.
غير أن تأقلم بعض الشركات مع هذا الخفض، بإعلان أنها عثرت على طرق بديلة لاستخدام كميات أقل من الغاز الطبيعي، لم يكن سوى نصف الحقيقة، أما النصف الآخر، فيتمثّل في أنه لا يمكن لكل مصنع أن يعمل بغاز أقل، ولا أحد يعرف كيف سيكون أداء ألمانيا، أكبر اقتصادات في أوروبا وأكثرها اعتماداً على الغاز الروسي هذا الشتاء، عندما يتسبّب الطقس البارد بارتفاع الطلب على الغاز.
فخطوة مجموعة الـسبع انقلبت على عدد من دولها، وفي مقدمها ألمانيا، التي نبّه الصناعيون فيها إلى عدم إمكان الاستغناء عن الغاز الروسي في الوقت الراهن، ومن هؤلاء مارتن برودرمولر الرئيس التنفيذي لـ"شركة باسف" BASF لصناعة الكيمائيات ــ وهي واحدة من كبريات الشركات الألمانية ــ الذي حذّر بحسب "نيويورك تايمز"، في نيسان الماضي، من أن قطع الطاقة الروسية "قد يدفع الاقتصاد الألماني إلى أسوأ أزمة اقتصادية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية".
وما التدابير والإجراءات التي اتخذتها برلين لمواجهة أزمة الطاقة المستجدة؟
عملياً، مع أن الاتحاد الأوروبي اقترح أن يخفض أعضاؤه استهلاكهم الإجمالي من الغاز الطبيعي بنسبة 15 في المئة، غير أن ألمانيا ذهبت في خطتها أبعد من ذلك، وفرضت خفض الاستهلاك بمعدل 20 في المئة كيلا تضطر إلى اللجوء إلى التقنين في وقت لاحق من فصل الشتاء المقبل عليها.
ولهذه الغاية، أصدرت الحكومة في برلين الأسبوع الماضي أوامر للحد من تدفئة المباني العامة بما لا يزيد على 66 درجة فهرنهايت (19 درجة مئوية تقريباً)، وحظرت أيضاً استخدام الإعلانات المضيئة بين عشية وضحاها، وأمرت المدن والولايات الألمانية القائمين على المباني العامة وحمامات السباحة البلدية بخفض درجات الحرارة، وإلغاء الماء الساخن في الحمامات العامة، إضافة إلى إطفاء الأنوار في المعالم الأثرية في جميع أنحاء البلاد كإجراءات ضرورية لتوفير الطاقة.
أما أكثر القرارات إثارة لفتت المراقبين، فهي أن المنازل الخاصة التي تستخدم مجتمعة أكبر قدر من الطاقة في ألمانيا، قلّصت فعلاً نحو 6 في المئة من استهلاكها للغاز، هذا العام، بتشجيع من برنامج حكومي على فعل المزيد، حيث يخفض منظم الحرارة لديهم درجة واحدة في الشتاء المقبل، وما يبعث على الصدمة أنه يحدّد وقت الاستحمام، بخمس دقائق فقط.
وما فاعلية الحلول التي تعتمدها الشركات والمصانع لمواجهة النقص في الغاز الروسي؟
انعكست قرار إغلاق "نورد ستريم" رأساً على الأسعار التي ارتفعت بصورة ملحوظة، بعدما وصلت أخيراً إلى خمسة أضعاف ما كانت عليه قبل عام، ونتيجة لذلك، بات المنتجون الصناعيون في ألمانيا يوجهون قيوداً على كمية الغاز التي يستهلكونها، كذلك تقوم الأجهزة الفيدرالية بتحليل الأرقام لتحديد الأولويات إذا أصبح التقنين ضرورياً.
أكثر من ذلك، دفع الضغط الروسي، في الأشهر الأخيرة، المسؤولون والرؤساء التنفيذيين للشركات الصناعية في جميع أنحاء ألمانيا إلى رفع درجة الاستنفار والتأهب القصوى للبحث عن حلول وإيجاد طرق وبدائل أخرى، تمكّنهم من مواصلة العمل بعيداً من التحكم الروسي بإمدادات الطاقة إلى بلادهم.
بعض هذه البدائل أعاد ألمانيا عقوداً إلى الوراء، خصوصاً إذا ما علمنا أن شركات أعادت الحياة إلى المصانع التي تعمل بالفحم، كمصدر للطاقة، مع ما يشكله ذلك من ضرر كبير بالبيئة، وقامت شركات أخرى بتحويل إنتاجها إلى الخارج، فيما يفكر صناعيون آخرون في عقد صفقات مع الشركات المنافسة لتقاسم الطاقة.
ليس هذا فحسب، فشركة باسف ( BASF)، على سبيل المثال، اضطرت إلى التحول نحو استخدام النفط بدلاً من الغاز لتوليد الطاقة والبخار، وشرعت في خفض إنتاج مصانعها الأوروبية التي تستهلك كثيراً من الغاز، وبخاصة منشأتها في لودفيغسهافن، التي توصف بأنها أكبر مجمع كيميائي في العالم.
وتداركاً للأسوأ، لم تكتف الشركة بتقليص إنتاج الأمونيا الذي يتطلب الغاز الطبيعي، بل سعت لشرائه من مورّدين خارجيين، خصوصاً أن للأمونيا دوراً رئيساً في تصنيع الأسمدة والبلاستيك وغيرهما من المنتوجات.
أكثر من ذلك، تعتمد الشركة أيضاً على مصنع الأمونيا الذي تديره الشركة كمشروع مشترك في فريبورت بولاية تكساس، حيث الإنتاج أرخص لأن سعر الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة لا يزال أقل ما هو عليه في أوروبا.
وبالمثل، قرّر مهندسو شركة (Evonik) المتخصّصة بالمواد الكيميائية التي تصنّع المنتوجات المستخدمة في الثلاجات وكريمات الوجه وخيوط الكمان أن الحل الأمثل هو الإبقاء على محطة الطاقة التي تعمل بالفحم، بعدما كان مقرراً استبدالها بمحطتين جديدتين تعملان بالغاز.
وتعلقياً على ذلك، "قال كريستيان كولمان، الرئيس التنفيذي لشركة إيفونيك في حديث إلى التلفزيون الألماني "لقد بنينا محطتين جديدتين رائعتين لتوليد الطاقة بالغاز، بأفضل هندسة ألمانية، لكننا أدركنا أنه لم يكن لدينا أي غاز لهما".
ولكن، من حسن حظ الألمان أن هذه المحطات كانت قد جهّزت أيضاً لحرق غاز البترول المسال، وهو منتج ثانوي ناجم عن تكرير النفط الخام، وتعقيباً على ذلك، قال ماتياس روتش، المتحدث باسم إيفونيك لنيويورك تاميز "إذا لم نتمكن من استخدام الغاز، فسنضطر إلى إجراء بعض الهندسة". وأضاف "يعد تشغيل المحطات على غاز البترول المسال أقل كفاءة من استخدام الغاز الطبيعي، ولكن، جنباً إلى جنب مع ناتج المحطة التي تعمل بالفحم يمكن أن نولّد طاقة كافية للحفاظ على استمرار عمل الشركة.
وماذا عن جدوى هذه الحلول؟
صحيح أن أصحاب الشركات قد حقّقوا بعض النجاحات المحدودة على مستوى البدائل، إلا أنها بقيت دون المستوى المطلوب، والأهم أنه لا يمكن اعتمادها بديلاً حقيقاً من الغاز الروسي في المستقبل المنظور، إذ إن هذا الحل ليس في متناول كل شركة ألمانية. وللمفارقة، حتى شركة مرسيدس-بنز، قالت إنها قد تخفض استخدامها للغاز الطبيعي إلى النصف.
فضلاً عن ذلك، فإن خطط الحكومة السماح لكبار مستخدمي الغاز ببيع كميات الغاز المتعاقد عليها التي لا يحتاجون إليها، بالمزاد العلني، ستؤدي إلى رفع الطلب وازدياد الأسعار بحسب "غابزروم"، مع انخفاض درجات الحرارة ارتفاع الطلب. وبالتالي، من شأن هذه الخطوة أن تضر بالشركات الصغرى ذات المرونة الأقل، لأن حجمها المحدود وإنتاجها الإقليمي يعنيان موارد أقل للتوصل إلى حلول.
شاهد آخر على عدم جدوى هذه الحلول، هو اعتراف مصنعي السيراميك والزجاج الألمان، الذين يبحثون عن طرق لاستبدال الغاز بالهيدروجين أو بمصادر طاقة أخرى، بأن أي عملية بديلة فعالة لا تزال على بعد عقد من الزمان على الأقل، حسبما قال رؤساء أحد هذه الشركات للصحيفة.
في الحصيلة، ومع اقتراب فصل الشتاء، قد لا تترك الصناعات التقليدية في ألمانيا، المتعطشة إلى الغاز أي خيار سوى تقليص الإنتاج أو إيقافه تماماً، فيما يبدو أن الشعب لن يتأقلم بسهولة مع التغييرات التي تفرضها الدولة على نمط حياته.