خبراء يعلقون على الانسحاب الفرنسي من مالي وتراجع دورها في أفريقيا
عدة أسباب تكمن خلف قرار فرنسا سَحْبَ قواتها العسكرية من مالي، وإنهاءَ العمليتين العسكريتين، "برخان" و"تاكوبا"، بعد تسعة أعوام من التدخل الفرنسي ، عسكرياً وسياسياً وأمنياً. ويُعَدّ هذا الانسحاب نتيجة مباشرة لتدهور العلاقات بين باريس وباماكو على مدى الأشهر الماضية.
وعلق خبراء على أسباب الانسحاب الفرنسي من مالي، وإعلان نهاية العمليتين العسكريتين، وتطرّقوا إلى النتائج المتوقَّعة من هذا الأمر، وردّة الفعل المرحّبة بمغادرة القوات الفرنسية.
وقال المحلل السياسي الجزائري، حسام حمزة، إن "المزاج العام الآن في مالي هو مزاج الرفض للوجود الفرنسي. والسبب هو استخدام فرنسا الإرهاب ذريعةً لوجودها في مالي، والذي تُخفي خلفه مجموعة من المصالح".
وتطرّق حمزة أيضاً إلى رؤية دول الساحل الأفريقي بشأن وجود كل من روسيا والصين فيها، قائلاً إن دول الساحل تبحث عن مقاربة جديدة مع القوى الكبرى، وهناك حَذَر من عودة قوى مهيمنة مكان قوى مهيمنة جديدة".
وأشار إلى أن "البحث الآن هو عن مقاربة جديدة في التعامل مع الأطراف ذات المصلحة في أفريقيا، وتأسيس شراكة جديدة قوامها الأساسي هو رابح رابح، بمعنى أن أول معيار لاختيار الشريك، وحتى لاختيار العلاقة به، هو مصلحة دول الساحل والدول الأفريقية، قبل أن نتحدث عن مصلحة الطرف الآخر".
وقال إن "دول الساحل تبحث اليوم عن شراكة جديدة مع الصين وروسيا، تساعدها على التخلص من نزعة الهيمنة، وأيضاً من الإخضاع الذي تتبناه فرنسا في تعاملها مع هذه الدول".
وأكد أن "التنافس الفرنسي مع روسيا والصين يُجبر فرنسا على اتخاذ نزعة أكثر إيجابية"، مضيفاً أن فرنسا "بدأت تغيير استراتجيتها في التعامل مع الدول، وتغيير مناطق وجودها وحتى ارتكازها العسكري، لأنها أحست بأن الأمور تفلت من يدها".
كما تحدّث المحلل عن نتائج زيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، لأفريقيا، وطبيعة مقاربة الدور الأميركي في القارة السمراء، والآفاق المتاحة أمامه، قائلاً إن "الذي يحرك الولايات المتحدة الأميركية، في هذا الظرف تحديداً، هو مصلحتها الجيوسياسية في المنطقة. ومن النتائج الأساسية لزيارات بلينكن أن يُثبت أن الولايات المتحدة الأميركية ليست منسحبة من هذا الفضاء، بل أكثر من ذلك، تريد أن توجد وفق صيغ ومقاربات جديدة".
والنتيجة الأخرى، وفقاً لحمزة، هي "اقتناص بعض المكاسب من الحكومات الأفريقية".
وأشار إلى أن الدور الأميركي في القارة الأفريقية يحركه التنافس مع الصين بشأن الريادة العالمية، وخصوصاً في ظل هذا التقارب على المستوى الاستراتيجي.
وبحث المحلل في طبيعة أدوار الدول العربية والدول الأفريقية، بما فيها الجزائر ومصر، في رسم السياسات الداخلية والخارجية للقارة.
واعتبر حمزة أن "الوضع، بالنسبة إلى الدول الأفريقية والعربية، يفرض على الدول تنسيقاً عالياً، لأن بناء منظومة عالمية جديدة متعددة الأقطاب يفرض على هذه الدول أن تنسق فيما بينها كي تضمن مكاسب أُفضل".
وأشار إلى أن "المراهنة دائماً على القطبية الأحادية ستكون خطأً بالنسبة إلى الدول العربية والأفريقية". وأضاف أن "هذا التقارب يفرض على الدول العربية أن تغير إدراكها وطريقة تعاملها مع القارة الأفريقية نحو مزيد من الشراكة والتعاون في كل المجالات، بهدف وحيد هو التصورات للمنظومة العالمية وتوحيد المطالب".
وفيما يخص الدور الجزائري، قال حمزة إنه "يمكن أن نحدّده ضمن شيئين أساسيين: أولاً على مستوى متعدد الأطراف، فإن الجزائر تعمل دائماً على تكريس وحدة أفريقية كحقيقة موحدة، في التصورات والرؤية بعيداً عن التبعية".
أمّا السؤال المحوري بشأن مستقبل النفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية، فأجاب عنه الخبير انطلاقاً مما سوف تشهده العلاقات الفرنسية المالية بعد الخروج العسكري الفرنسي من مالي، وما سوف يعقبه من تراجع متوقَّع لدور باريس فيها، وفي القارة ككل.
وقال حمزة إن تراجع الدور الفرنسي بدأ منذ أن شَرَعَت نزعة الاستقلال والتحرر تعود إلى الشعوب الأفريقية، وتحديداً فئة الشبان، الذين يرفضون المنطق الاستعماري في التعامل معهم.
وفي المقابل، قال الباحث في العلاقات الدولية، محمد أغ إسماعيل، من مالي، في لقاء مع الميادين نت، إن الخروج الفرنسي من مالي جاء عقب مظاهرات محلية عارمة، لطالما ندّدت بدور فرنسا المبهَم في الساحة المالية.
وبشأن الأسباب المباشرة لهذا الخروج، قال أغ إسماعيل إن العمليات العسكرية الفرنسية في مالي مكّنت قواتها من بسط سيطرتها على مدن كبرى في البلاد، وخصوصاً في المناطق الشمالية، كما مكّنتها من إخراج المجموعات الإرهابية منها، وتشتيت وجودها في الشمال.
ولفت إلى أن الوجود الفرنسي لم يأتِ بنتائج مثمرة سوى إخراج الجماعات الإرهابية من مناطق كبرى في مالي، لكن فرنسا ركّزت على العاملين العسكري والأمني، وأغفلت الجانبين السياسي والتنموي في مالي، مضيفاً أن عملية عسكرية ناقصة كهذه ستؤدي، من دون شك، إلى فشل مهمة البعثة الفرنسية.
شكوك في دور البعثة الفرنسية في "دعم الإرهاب"
وأشار أغ إسماعيل إلى أن "تصرفات العسكريين الفرنسيين في مالي، في الفترة الأخيرة، أثارت شكوكاً بشأن دورها في دعم الإرهاب والمتمردين"، قائلاً إن "القوات الفرنسية كانت تتجول في مالي في المناطق الساحلية، مع حرصها على عدم وجود القوات الوطنية، الأمر الذي خلق شكوكاً في دعمها للمتمردين". وأشار إلى أن "الاتفاقية المشتركة بين مالي وفرنسا كانت تسمح للقوات المالية بالتجوّل في البلاد من دون إذن فرنسا، وليس العكس. لهذا، تم إلغاؤها، وهي كانت اتفاقية سرية، ومضمونها ليس واضحاً حتى الآن".
وأضاف أنّ الرأي العام المالي لم يكن مرحّباً بالوجود الفرنسي، لأنه كان بمنزلة الاحتلال. كما أنّ تدخل باريس السياسي في الشؤون الداخلية المالية، وشعاراتِها البراقةَ بشأن حماية الأقليات والديمقراطية، كانت غير صادقة، لأنها لطالما عملت على إثارة النعرات بين أطياف المجتمع المالي، وتأليب أقليات على أخرى.
مَن البديل الدولي؟
وقال أغ إسماعيل إنّ "الحضور الروسي في أرض مالي موجود فعلاً حتى خلال فترة الوجود الفرنسي، وذلك من خلال قوات فاغنر، أو من خلال ضباط من الجيش الروسي، قالت الحكومة المالية إنهم أتَوا من أجل تدريب القوات الوطنية المالية".
ولفت إلى أن "روسيا قدمت دعماً فعلياً إلى القوات المالية، بعكس ما فعلت القوات الفرنسية، التي قدّمت طائرات قديمة إلى مالي، لا جدوى عسكرية فيها، الأمر الذي يُظهر أنّ فرنسا كانت تسعى لإظهار الجيش المالي في صورة ضعيفة، وأنه غير قادر على أداء مُهِمّاته العسكرية"، بحسب قوله.
وأضاف أغ اسماعيل أن "الحليف الروسي جاء بديلاً عن تحالف مالي مع قوى عربية"، قائلاً إن "الدول العربية غارقة في مشاكلها مع الجماعات الإرهابية في مناطق متفرقة".
وأشار إلى الدور الجزائري في مالي، قائلاً إنّ "الجزائر لطالما كانت راعية اتفاقيات، وتريد دائماً القيام بدورها الإيجابي في مالي، وخصوصاً أنّ ما يمس الأمن المالي ينعكس على الجزائر. لذا، هي تسعى للقيام بالدعم اللوجستي لباماكو".
السيناريو المحتمل في مالي
أمّا بشأن السيناريو المحتمل في مالي، فقال أغ إسماعيل إنّ "هناك فراغاً أمنياً واسعاً في الشمال المالي بعد الانسحاب الفرنسي من مالي، وثمّة مخاوف من تصعيد للجماعات الإرهابية، وخصوصاً في المدن الكبرى. والدليل هو محاصرة عناصر إرهابية، تنتمي إلى تنظيم داعش الإرهابي، لبعض القرى".
واستطرد بأن "الجيش المالي لا يستطيع أن يملأ الفراغ الذي تركته فرنسا، وربما أنّ فرنسا تريد هذا التصعيد، وتدعمه بعد خروجها، كي تُثبت للعالم أنها كانت تمسك بزمام الأمور في مالي".