بروتوكول أيرلندا الشمالية.. مواجهة جديدة بين لندن وبروكسل
عرضت الحكومة البريطانية، اليوم الإثنين، أمام البرلمان مشروع قانون لتعديل بعض بنود بروتوكول أيرلندا الشمالية والذي تم التفاوض عليه في إطار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي يثير توتراً شديداً في المقاطعة البريطانية.
وتحاول لندن وبروكسل منذ شهور، كسر الجمود بشأن بروتوكول أيرلندا الشمالية، وهو اتفاق أبرمته لندن قبل خروجها من الاتحاد الأوروبي، وتعتبر الآن أنّ تطبيقه بات متعذراً. وتعدّ قضية أيرلندا الشمالية من أصعب البنود المتعلقة باتفاق الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي في 2020، إذ يتصارع هناك منذ عقود مؤيدو الاستقلال من أجل إقامة أيرلندا الموحدة المستقلة عن التاج البريطاني وأنصار الوحدة مع بريطانيا.
وتضغط حكومة بوريس جونسون منذ فترة طويلة، من أجل تعديل هذا البروتوكول، الذي يُبقي الإقليم بموجبه في السوق الموحّدة للاتحاد الأوروبي، مع إنشاء حدود جمركية مع بقية المملكة المتحدة، من أجل الحفاظ على الحدود المفتوحة مع جمهورية أيرلندا، المنصوص عليها في اتفاق الجمعة العظيمة للسلام في الإقليم.
وتريد بريطانيا إصلاحاً كاملاً للبروتوكول، ولمّحت إلى إمكان تجميد العمل بجزءٍ منه أحادياً، إن لم يتم التوصّل إلى اتفاق جديد، وهذه خطوة قد تؤدي إلى تجميد اتفاق التجارة الحرة، المُبرم بين لندن وبروكسل في أواخر عام 2020، فيما يرتفع التضخم، مع تحذيرات من ركود في المملكة المتحدة هذا العام. التحذيرات البريطانية المتتالية تهدد أيضاً بإثارة أزمة دبلوماسية، قد تسفر عن حرب تجارية مع أبرز شريك تجاري للمملكة المتحدة.
لماذا تريد لندن تعديل البروتوكول؟
تمَّ توقيع بروتوكول أيرلندا الشمالية بمعزلٍ عن اتفاق بريكست التجاري الواسع عام 2020، بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. ويهدف البروتوكول إلى "تجنب حدودٍ ماديةٍ على جزيرة أيرلندا".
لكن بروتوكول أيرلندا الشمالية مصمّمٌ من أجل منع وصول البضائع غير الخاضعة للتفتيش إلى السوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي، عبر أيرلندا، العضو في الاتحاد الأوروبي والمجاورة لأيرلندا الشمالية. وفرض البروتوكول عملياتِ تفتيشٍ حدوديةً على البضائع المتجهة إلى المقاطعة البريطانية من بريطانيا وإسكتلندا وويلز.
وترغب الحكومة البريطانية في اعتماد نظام جديد بحيث تمر البضائع المتداولة والمتبقية داخل بريطانيا عبر "قناة خضراء جديدة" وتحررها من الإجراءات الإدارية. وتبقى البضائع الموجهة للاتحاد الأوروبي خاضعة لجميع الضوابط المطبقة بموجب قانون الاتحاد الأوروبي.
وهددت بريطانيا عدّة مرات بتفعيل المادة 16، بذريعة أنّ البروتوكول يعطّل التجارة بين أيرلندا الشمالية وبقية مناطق المملكة المتحدة، ويهدد اتفاق الجمعة العظيمة. ولتعديل البروتوكول، على بريطانيا تفعيل المادة 16 من اتفاق "بريكست"، وتتيح هذه المادة لكلا الطرفين (بريطانيا والاتحاد الأوروبي) اتخاذ خطوات، أو ضمانات، في سياق المعاهدة، في حال أدى البروتوكول إلى خلق صعوبات اقتصادية، أو اجتماعية، أو بيئية خطيرة يمكن أن تستمر، أو أن تؤدي إلى تحويل المسار التجاري. ولكن المادة 16 لا تسمح لأي طرف بإلغاء البروتوكول بالكامل.
وصاغت وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تروس، مسوّدة قانون، لتمكين لندن من إلغاء أجزاء كبيرة من البروتوكول، بعد فقدان الثقة بالمفاوضات، كما أوردت صحيفة "ذي تايمز" البريطانية الشهر الفائت. وأضافت أنّ ذلك سيؤدي أحادياً إلى إلغاء الحاجة إلى فحص السلع المُرسلة من بريطانيا إلى أيرلندا الشمالية، ويمكّن الشركات من تجاهل قواعد الاتحاد الأوروبي.
ويذكر أن الخطوات البريطانية الأخيرة، جاءت بعد اتفاق مع أيرلندا الشمالية، يهدف إلى إبقاء الحدود مفتوحة، تطبيقاً لبندٍ رئيسيّ من اتفاقية الجمعة العظيمة للسلام التي تعود إلى عام 1998، و التي طوت صفحة عقود من أعمال العنف على خلفية الحكم البريطاني لأيرلندا الشمالية، ولا يزال هذا الإقليم فعلياً في السوق الأوروبية الموحدة.
اتفاقية الجمعة العظيمة.. ما هي؟
تُعتبر أيرلندا الشمالية، منذ استقلال جمهورية أيرلندا قبل مئة عام، نقطةَ تجاذب واشتباك بين أبناء المجتمع الواحد في ظل خلاف عميق بين الوحدويين (البروتستانت) الذين يدافعون عن انتمائهم إلى المملكة المتحدة والجمهوريين ذوي الأغلبية الكاثوليكية، والمؤيدين إعادةَ توحيد المقاطعة مع الوطن الأم في جمهورية أيرلندا. الخلافات بين الأيرلنديين اتَّخذت عدة أوجه، لعل أبرزها الصراع الدموي الذي خلّف نحو 3500 قتيل، وانتهى بإبرام اتفاق سلام عام 1998، وهو ما يُعرَف باتفاقية الجمعة العظيمة.
وهذه الاتفاقية أنهت سنوات مريرة من الصراع الدموي. ومن بين أهم بنودها عدم وضع أي حدود صلبة بين جزأي الجزيرة الأيرلندية، أو نقاط تفتيش للأشخاص والعربات التي تتنقل بين البلدين، وظل الوضع على هذا النحو لسنوات إلى أن جاء "البريكست" الذي بعثر كل الأوراق.
"شين فين" يعارض التعديل
بطبيعة الحال، لم تلقَ هذه الخطوة البريطانية قبولاً من قبل الجمهوريين الأيرلنديين الشماليين الموالين لأيرلندا. إذ اتهمت ماري لو ماكدونالد، زعيمة الحزب الجمهوري في أيرلندا الشمالية "شين فين"، أمس الحكومة البريطانية بـ"انتهاك القانون الدولي" عبر التعديل، مؤكدةً أنّ "البروتوكول يعمل". والأمر لم يقتصر على ذلك، إذ اعتبرت ماكدونالد أنّ رئيس الوزراء بوريس جونسون يحاول عبر ذلك استعادة سلطته.
وحقَّق حزب "شين فين" الأيرلندي القومي، الداعي إلى توحيد قسمَي الجزيرة، فوزاً تاريخياً في الانتخابات التشريعية المحلية لأيرلندا الشمالية الشهر الفائت، بإحرازه 27 مقعداً. فيما هذه أول مرة منذ مئة عام ينجح فيها الحزب في تَملُّك زمام السلطة في الإقليم، بعد إلحاقه الهزيمة بالحزب "الوحدوي الديمقراطي" الموالي للندن. ولطالما كان الوحدويون ومعظمهم من البروتستانت والمتمسكون بشدة بالحفاظ على أيرلندا الشمالية داخل المملكة المتحدة، الحزب الرئيسي تقريباً منذ عام 1921.
ويصبّ هذا البروتوكول في مصلحة قوميِّي "شين فين" ومشروعهم لتوحيد الجزيرة، أولاً بالفصل الاقتصادي نوعاً ما بين الإقليم والمملكة وتقريبه من الجمهورية، وثانياً بنيله من شعبية أبرز خصومهم السياسيين "الحزب الوحدوي الديمقراطي".
الاتحاد الأوروبي يهدّد بتحرك قضائي
بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، فإنّ الخطوة البريطانية بتعديل البروتوكول تُعتبر تراجعاً عن اتفاقية دولية، وهذا من شأنه أن يبرر إجراءات انتقامية تجارية. وهدد الاتحاد الأوروبي اليوم بتحرّكٍ قضائي ضد بريطانيا، إذ قال نائب رئيس المفوضية الأوروبية، ماروس سيفكوفيتش، في بيان في بروكسل: "نتابع بقلق كبير قرار حكومة المملكة المتحدة اليوم بطرح التشريع".
كما هددت بروكسل بأنها ستستجيب من خلال اتباع الإجراءات القانونية وفرض رسوم جمركية، وهذه الخطوة سيكون لها تأثير خطير في الوقت الذي يتقلص الاقتصاد البريطاني مع توقعات بوصول معدل التضخم إلى 10%.
إلا أنّ نزاعاً بطريقة "العين بالعين" في مجال التعريفات الجمركية يمكن أن يكسر الوحدة التي رسّختها الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي خلال عملية إنجاز "بريكست". فبينما تتحدث بعض الدول، بما في ذلك فرنسا، بصرامة في إطار الدفاع عمّا اتُّفق عليه في صفقة "بريكست"، قد تشعر عواصم أخرى، بما في ذلك برلين، بالقلق من تأثير الحرب التجارية في شركاتها.
وقد تكون الحرب التجارية صداعاً غير مرحّب به للشركات من كلا الجانبين، والتي تضرّرت بالفعل جراء كوفيد19، وارتفاع أسعار الطاقة العالمية، وأزمة سلسلة التوريد. ويُعَدّ الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأكبر للمملكة المتحدة، ووجهة 43% من صادرات بريطانيا، ومصدر 52% من وارداتها. وبذلك، ستفقد الشركات من كلا الجانبين إمكانية الوصول إلى الأسواق، وسيُحرم الصيادون الأوروبيون إمكانية الوصول إلى مياه المملكة المتحدة.