"سيف القدس" وما بعدها.. ارتدادات على البيت الداخلي الإسرائيلي
"الانقسام الداخلي يحطمنا وهو أخطر من التهديدات الخارجية، هو تهديد وجودي" (رئيس حكومة الاحتلال السابق إيهود باراك 30 نيسان/أبريل 2022)
يمرّ الاحتلال الإسرائيلي في الآونة الأخيرة بحالة ارتباكٍ شديدة وغير مسبوقة، تترنّح بين التهديدات الداخلية والانقسامات السياسية التي تعيشها حكومة الاحتلال، وتواصل العمليات الفدائية ضدها في مختلف الأراضي الفلسطينية.
تصاعدت الأحداث الأمنية في الأراضي الفلسطينية المحتلة في الأسابيع الأخيرة، إذ بدأت بسلسلة عمليات فدائية نفذها شبان فلسطينيون في مناطق مختلفة في بئر السبع والخضيرة و"تل أبيب"، وأحدثت صدمةً وإرباكاً كبيرين لدى الأوساط الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.
وتحاول حكومة الاحتلال تفكيك مثل هذه الحالة الثورية التي فاجأتها، عبر مساعيها المتواصلة لوأد أي روحٍ وطنية مقاومة، من خلال الاعتقالات والاقتحامات، لكن سلوكها في الحقيقة يعكس حالة التآكل والفشل التي تعيشه.
هذه "الخضّات" الأمنية لم تكن السبب الوحيد المؤرق لحكومة الاحتلال، إذ صاحبتها اهتزازات سياسية في بنية حكومة الائتلاف الإسرائيلي بزعامة نفتالي بينيت، بعد انسحاب رئيسة حزب يمينا الإسرائيلي عيديت سيلمان مؤخراً، ما يجعل الائتلاف على شفا الانهيار في أيّ لحظة.
الواقع السياسي في "إسرائيل" يشهد حالة تخبطٍ واضحة، لا سيما وأنّ الوحشية المفرطة في سلوك الاحتلال تجاه ما يجري من حالة ثورة عارمة في كل المناطق الفلسطينية تعكس حالة هستيريا وصدمة لدى الأوساط الإسرائيلية الرسمية. إذ إنّ تزايد العمليات الفدائية ولّد حالة سخط بين المستوطنين على حكومة الاحتلال نتيجة عجزها عن حمايتهم وصون أمنهم. إلا أنّ هذه النقمة ليست وليدة اللحظة، بل انطلقت شرارتها منذ معركة "سيف القدس"، التي سجّلت فيها المقاومة الفلسطينية أنها صاحبة الكلمة العليا، ورسخت معادلات جديدة كسرت فيها هيبة الاحتلال، وعبثت بأمنه.
"سيف القدس".. والإطاحة بنتنياهو
شكّلت معركة "سيف القدس" أهم مسببات توسع الشرخ بين مكونات "المجتمع الإسرائيلي"، إذ إنّ صورة الهزيمة التي خرج بها رئيس حكومة الاحتلال السابق بنيامين نتنياهو من هذه الجولة أدّت إلى تعميق حالة الهشاشة في البيئة الداخلية للاحتلال، بعد الدخول في حالة من تبادل الاتهامات على تحمّل المسؤولية بين أركان القيادة الإسرائيلية.
ويرى مراقبون أنّ "سيف القدس" قضت على كل طموحات نتنياهو وأحلامه بالاستمرار في السلطة، فالمعركة التي أرادها "مطية" لكسر خصومه في الداخل الإسرائيلي، أطاحت به من الحكم. فقد فشل نتنياهو في تشكيل حكومة ائتلافية جديدة، عقب انهيار حكومته بعد 8 أشهر فقط، ما اضطره إلى إجراء انتخابات رابعة خلال ما يقرب من عامين. وعلى الرغم من فوز حزبه "الليكود" بأكبر عدد من المقاعد، إلا أنه لم يستطع تأمين أغلبية من الأحزاب اليمينية الأخرى التي ترفض استمراره كرئيس للوزراء، وهذه سابقة فريدة من نوعها، تدلّل على مدى الانشقاقات والتصدعات داخل بنيان كيان الاحتلال.
نتنياهو ظنّ أنها معركة سريعة وهو قادر على حسمها بسهولة، ككل معاركه السابقة في قطاع غزة، إلا أنه فوجئ بالاستراتيجية التي اتبعتها المقاومة، والقدرة القتالية العالية لديها، وتنوّع أسلحتها وتطوّر صواريخها،ـ التي فشلت في ردعها قبّته الحديدية التي كان يتباهى بها، واضطرّ إلى إعلان وقف إطلاق النار دون شروط، تحت وطأة الضربات الموجعة التي وجهتها المقاومة، والتي دفعت المستوطنين للفرار خائفين إلى المخابئ، وهو ما زاد من سخطهم على نتنياهو وحكومته.
فشلُ نتنياهو في حسم المعركة وعجزه عن تسجيل أي نصر يُذكر عجّل بنهايته، رغم أنه شنّ العدوان أصلاً لتحقيق فوز سريع يستعيد به شعبيته المفقودة. بطبيعة الحال، لم يوفّر خصوم نتنياهو في حزب "يمينا" جهداً لتحميله سبب هزيمتهم في سيف القدس سياسياً وعسكرياً، إذ إنّ هذه المعركة شكّلت فرصة ذهبية لهم للتخلص منه، والتي انتهزوها وأسرعوا بتشكيل حكومة جديدة برئاسة اليميني نفتالي بينيت، مؤسس ورئيس حزب "يمينا".
تداعيات "سيف القدس" تطال حكومة بينيت
لم تسلم حكومة بينيت من تداعيات معركة "سيف القدس"؛ إذ وجدت الحكومة الجديدة نفسها في مستنقع من الهزات التي ورّطها فيها بنيامين نتنياهو. حكومة الاحتلال باتت تعيش أزمة ومأزقاً عميقين نتيجة نجاح المقاومة الفلسطينية في تحقيق أهدافها قبل عام من الآن، وإفشال الأهداف الإسرائيلية وتكبيلها، وجعل "إسرائيل" غير قادرة على الذهاب لأي حرب يمكن أن تُحقق فيها انتصاراً.
بالتوازي مع ذلك، فإنّ المشهد الفلسطيني المتصاعد تدريجياً منذ أسابيع في الداخل أظهر حالة التخبط التي تعيشها حكومة بينيت في اتخاذ خيارات التعامل مع تصاعد هذه الحالة الفدائية وارتفاع منسوب العمليات ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه. فقد هزّت هذه العمليات بشكلٍ كبير ثقة الإسرائيليين بجيشهم وحكومتهم، وبقدرتهم على حمايتهم. وهو ما أكدته وسائل إعلام إسرائيلية، والتي قالت إنّ موجة المقاومة المتزايدة زعزعت شعور الأمن الشخصي في كل أنحاء "إسرائيل". هذه المخاوف عبّر عنها أيضاً وزير الأمن الداخلي السابق في الاحتلال الإسرائيلي، أفيغدور كهلاني، الذي أكد أنّ الاحتلال يسير اليوم نحو التدهور، لافتاً إلى أنّ المشاكل الداخلية ستدمّره.
ضربةٌ أخرى تلقّتها حكومة بينيت مع استقالة عيديت سيلمان، رئيسة الائتلاف الحكومي، من منصبها، ولاسيما أنها من حزب رئيس الحكومة، ومقرّبة إليه إلى درجة أنه عيّنها رئيسة للائتلاف. صحيح أنّ الاستقالة جاءت على خلفية خلافات أيديولوجية عميقة مع وزير الصحة في حكومة بينيت، وبعد عشرة أشهر على تشكيل الائتلاف الإسرائيلي، لكنها تعكس في الحقيقة أزمة تعيشها "إسرائيل"، ليست أزمة نظام سياسي فحسب، بل أزمة مجتمع وأمن.
فحكومة الائتلاف بزعامة بينيت لم تعد تتمتع بأغلبية في الكنيست الإسرائيلي، وأصبحت متساوية في المقاعد مع المعارضة وهو ما يجعلها حكومة مشلولة سياسياً، وغير قادرة على اتخاذ أيّ قرارات، أو سَن أيّ قوانين، أو تمرير ميزانية الدولة، وهو ما أدخلها في حالة عد عكسي يقرب نهايتها.
ثمّة تداعيات عديدة يمكن تسجيلها نتيجةً لحالة الترنح التي أصبحت تعيشها حكومة بينيت بعد هذه التطورات، إذ إنّ ما حدث يعطي مؤشراً واضحاً على أنّ النظام السياسي للاحتلال لم يعد يتمتع بالاستقرار السياسي، بل فقد حالة التوازنات الموقتة التي كان يعيشها في الشهور التي مضت، وهو ما يعزز حالة الضعف التي يعيشها، وحالة اللاتجانس والهشاشة.
منذ أيام، أكّدت فصائل المقاومة الفلسطينية في بيانٍ لها في الذكرى السنوية الأولى لسيف القدس، أنّ هذه المعركة "مثّلت هزيمةً نكراء للاحتلال وجيشه، وأظهرت حالة الهشاشة في الجبهة الداخلية للكيان"، محذرةً الاحتلال من أنّ "ارتكاب أي حماقة بحق قادة المقاومة أو المقدسات سيفتح عليه أبواب جهنم".
إذاً، شكّلت قوة الردع، التي فرضتها معركة "سيف القدس" قوة رعبٍ جديدة هذا العام لدى حكومة الاحتلال، وهو ما يُعَدّ انتصاراً جديداً يسجَّل للمقاومة الفلسطينية في معركتها المستمرة في الدفاع عن المسجد الأقصى، إذ إنّ مجرّد التلويح بمعركة "سيف القدس 2"، أصبح يشكّل كابوساً لـ"إسرائيل".