"باقون.. نحمي ونبني".. حزب الله لبناء دولة السيادة ومواصلة الحرب على الفساد
"محاربة الفساد في لبنان أصعب من محاربة إسرائيل"، الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ( أيار/ مايو 2020)
حين قرر حزب الله المشاركة في العملية السياسية في لبنان، عبر التمثيل في مجلس النواب (عام 1992) والمجلس الوزاري (2005)، لم يأتِ قراره على نحو عبثي، بل كان ضمن أهداف "واضحة ودقيقة"، اختصرها الحزب في وثيقته السياسية الصادرة عام 2009.
وضع الحزب أولويتين متكاملتين للمشاركة في الحياة السياسية، هما حماية المقاومة وسلاحها، وحماية الناس وبناء الدولة القوية. وعلى هذا الأساس تبنّى شعار "نحمي ونبني" في انتخابات عام 2018، وهما كلمتان تجسّدان "المقاومة والإنماء"، وتدلّلان على نظرة الحزب إلى العمل النيابي.
في برنامجه الانتخابي لعام 2018، لم يتبنَّ حزب الله مقولات الإصلاح المدرَجة في الخطاب السياسي التقليدي، بشأن إلغاء المحاصصة الطائفية وتغيير النظام السياسي وما شابههما، على النقيض من برامج الدعاية الانتخابية للمرشحين الذين يُسهبون في تعداد المطالب والوعود العرقوبية (الكاذبة) في سوق الأحلام الوردية، كما يعجّ في الموسم الانتخابي بطبيعة الحال في لبنان.
على العكس من ذلك، حمل حزب الله لواء "مكافحة الفساد" في برنامجه الانتخابي، وهو لم يكن مجرد شعار للاستهلاك الانتخابي والتسويق الإعلامي. ولم تكن مقاربته الأهم في البرنامج هي مطالب ووعود شعبوية، وإنما كانت مقاربة استراتيجية، ليست آنية ولا انتخابية، بل تفتح أبواب ورشات العمل بعد الانتخابات نحو أسس إعادة بناء الدولة، من قاعدة الهرم الاجتماعي إلى رأسه، بحسب أوساط الحزب.
هذا العام، عند إطلاق حملته الانتخابية لعام 2022، قرّر حزب الله إضافة كلمة "باقون" إلى شعاره الانتخابي السابق، ليصبح "باقون نحمي ونبني"، وهو ما يدلّل على أن الحزب يصرّ على شعاره بشكل أعمق لهذه الدورة في ظل التطورات السياسية المحلية، وبعد أن أدرك المؤشرات الخطيرة التي تمسّ أمن المجتمع واستقراره نتيجة تفاقم الأزمات المعيشية.
الانتخابات فرصة للحزب في تعزيز مكانته
وضع حزب الله نصب عينيه أنّ الانتخابات المقبلة (منتصف أيار/مايو 2022) محطة يجب أن تكون نتائجها على قدر التحدّيات التي خاضها حتى الآن. لذا، فهو بدأ الاستعداد لها منذ أيلول/سبتمبر 2021، من خلال إعداد الدراسات وتهيئة الماكينة الانتخابية، وإجراء استطلاعات الرأي، ثم مناقشة كل الأمور المتعلقة بالرؤية والبرنامج الانتخابي والخطابين السياسي والإعلامي.
لا يخوض الحزب الانتخابات على صعيد الداخل اللبناني فقط، بل إنه يوجه رسالة واضحة عبرها إلى المجتمعين الدولي والعربي، ولاسيما أنّ مرحلة ما بعد الانتخابات هي الأهم والأصعب بالنسبة إلى جميع القوى السياسية. جهات كثيرة في الداخل والخارج تراهن على الانتخابات من أجل سلب الأكثرية من الحزب وحلفائه، وتصويره كأنه تراجعٌ في شعبية الحزب وانقلاب لبيئته وجمهوره عليه، وخصوصاً بعد الأزمتين المالية والاقتصادية اللتين عصفتا بلبنان خلال العامين الفائتين.
في هذا الصدد، أكد النائب في البرلمان اللبناني، حسن فضل الله، للميادين نت، أنّ الحزب يخوض الانتخابات "ضمن تحالفات سياسية وطنية على امتداد لبنان، لأنّ المقاومة وحلفاءها لهم حضورهم في مختلف الدوائر، ولديهم القدرة على نسج تحالفات متنوعة عابرة للطوائف. فنحن أصحاب مشروع وطني متنوع، يتطلع إلى إعادة النهوض بالبلد، وإخراجه من محنته، بينما نجد، في الجهة المقابلة، مجموعات تتصارع على مقعد نيابي من أجل السلطة، وغير قادرة على الخروج من حساباتها الخارجية وفئويتها وخطابها الطائفي، وبعضها لم يجد له مقعداً في لائحة من حلفائه، أو رفضته الطوائف والمناطق لتاريخه وسلوكه المنبوذ".
وهل حزب الله مطمئن إلى النتائج؟ يجيب النائب فضل الله: "نريد أوسع مشاركة، من أجل أن نفوز نحن وحلفاؤنا. ويجب عدم الاسترخاء أمام استطلاعات الرأي، وسنحتكم إلى ما يقرره الناخبون، ونقبل رأي الشعب وما تفرزه صناديق الاقتراع"، مضيفاً: "كنّا نريد للتنافس الانتخابي أن يبقى في إطاره اللبناني، وعلى أساس برامج وطنية إنقاذية قابلة للتطبيق، وتساهم في الخروج من الأزمتين المالية والاقتصادية، وخصوصاً أنّ التركيبة اللبنانية محكومة بمفهوم الشراكة الوطنية. لكنّ هناك من تهرّب من مسؤولياته تجاه الناس، بعد أن تسبّب لهم بهذه الأزمة، وأراد فرض شعار سياسي مستورد من الخارج للتحريض على المقاومة"، وأشار إلى أنّ "المراهنين على هذا الشعار لم يتعلموا من تجارب الماضي، وسيكتشفون مرة أخرى حجم الالتفاف الشعبي حول المقاومة، لأنها ليست حزباً أو جهة، بل هي الناس، والناس هم المقاومة، ولا انفصال بينهما".
ولفت فضل الله إلى أنّ "خصوم المقاومة يملكون فائضاً من الارتهان للخارج، ومن التخلّي عن أبسط مقومات السيادة الوطنية. وهم يُقدّمون أوراق اعتمادهم إلى دول تستهدف استقرار بلدهم، وفي الوقت نفسه اعتادوا بيع الرأي العام الأوهامَ وجني السراب السياسي والمال الانتخابي"، مؤكداً أنّ هؤلاء "يرفعون شعارات غير قابلة للصرف لبنانياً، بل يرفعونها من أجل استجلاب دعم خارجي. وهذه الشعارات تشبه تجربتهم الفاشلة في الحكم، فهم أوصلوا البلد إلى الانهيار، واليوم يغشّون حتى جمهورهم وداعميهم عندما يعدونهم بما لا قدرة لهم عليه. ويسمّون أنفسهم معارضة، بينما هم كانوا لعقود حكّام البلد وجرّوا عليه الويلات. وإلى اليوم، هم في صلب الدولة المصرفية والمالية العميقة، والتي تسبّبت بمأساة اللبنانيين، ولا يزالون يمنعون الإصلاحات، وهرّبوا أموالهم المتأتية من الفساد إلى الخارج".
وأوضح فضل الله أنّ مشكلة هؤلاء مع حزب الله "لا تتعلّق بموضوع داخلي، أو بمنافسة على مقاعد نيابية أو على مكاسب سياسية، بل تتعلق بمشروع خارجي ارتضوا أن يكونوا إحدى أدواته. ولأنهم مأزومون، ولا يملكون ما يقدّمونه إلى المواطن الباحث عن حل لمشكلاته المعيشية، فإنّ خطابهم المتوتر التصعيدي سيتواصل. وبعد الانتخابات، يبدّلون لغتهم ليبحثوا لهم عن موقع أو دور، وستكون خيبة مشغّليهم الخارجيين كبيرة عندما يجدون ما أنفقوه من مال يذهب حسرات عليهم".
وأكد فضل الله أنّ "الحزب يحمل مشروع بناء دولة تمتلك مقومات السيادة الوطنية الكاملة، ولا تسمح لأي جهة خارجية بالتدخل في شؤونها، وتستفيد من كامل ثرواتها وطاقاتها، وتستند إلى الدستور والقانون، وتقوم على معايير الكفاءة ونظافة الكف، وإلغاء دولة المحاصصة والواسطة"، مشيراً إلى أنّ حزب الله لديه "رؤية اقتصادية وبرنامج إنقاذي، ويحتاج تطبيق كل ذلك إلى تفاهم مع الآخرين، لأنّنا نرفض التفرد والاستئثار. وتركيبة البلد لا تتيح لأي فريق أن يطبّق برنامجه الوطني العام بمعزل عن سائر الشركاء في الوطن، بل يمكن ترجمة بعض البنود إلى قوانين أو خطط في الوزارات التي نكون فيها، وهو ما قمنا به وسنستكمله. وبنى حزب الله شعبيته على صدقيته في مقاومته وبرامجه، وعلى التجربة النظيفة التي قدّمها داخل مؤسسات الدولة، من خلال أدائه في الحكومة وفي المجلس النيابي".
إنجازات.. على الرغم من العراقيل
لا شكّ في أنّ معركة مكافحة الفساد، التي انطلق بها حزب الله منذ الانتخابات الماضية، حملت تحديات للحزب نفسه بشأن التزام هذه المعركة وتحقيق الإنجاز فيها، نتيجة العوائق الداخلية والخارجية التي واجهها. وهو الأمر الذي أكده النائب فضل الله، الذي أوضح أنّ أبرز المعوّقات كانت "تركيبة النظام اللبناني الطائفي وتغلغل الطائفية فيه، إلى جانب احتماء الفاسدين بمرجعياتهم الطائفية وطوائفهم".
ولفت فضل الله إلى أنّ "هذه المنظومة الطائفية تنعكس على تركيبة القضاء في لبنان، والتي لم تكن في مستوى القيام بمسؤولياتها تجاه مكافحة الفساد"، مشيراً إلى أنّ "الانهيار الذي حدث في لبنان أصبح أكبر من أي إنجاز وخطوات قمنا بها، ولو لم نقم بهذه الخطوات لربما كنا أمام انهيار أكبر وأوسع وأشمل".
لكن، على الرغم من هذه العراقيل، فإن الحزب عمل على خوض المعركة بجدّية، وحقق عدداً من الإنجازات خلال الأعوام الأربعة الماضية، على أكثر من مستوى، عبر المسار التشريعي، وإعداد مشاريع القوانين، لسدِّ الثُّغَر القانونية، وعبر تقديم الملفات إلى الجهات القضائية، ومواكبتها حتى الوصول إلى النتائج المرجوة.
وقال فضل الله، في هذا الشأن، إنّ كتلة "الوفاء للمقاومة" كانت من الكتل الأساسية التي ساهمت في إنجاز أهم القوانين الإصلاحية على المستوى التشريعي، وعلى رأسها قانون المنافسة وإلغاء الوكالات الحصرية، والقوانين المرتبطة بمكافحة الفساد، مثل الإثراء غير المشروع، وقانون حماية كاشفي الفساد، وقانون الشراء العام المرتبط بالمناقصات، مضيفاً أنها قدّمت "أهم اقتراحات إصلاحية لها علاقة بملاحقة الفاسدين، مثل رفع الحصانات عنهم".
أما فيما يتعلق بمكافحة الفساد، فلجأت كتلة الحزب البرلمانية، بحسب النائب فضل الله، إلى التفتيش القضائي، وقامت بـ"خطوة قد لا تكون مسبوقة في لبنان، وهي تقديم شكاوى ضد قضاة كانوا يشرفون على ملفات فساد منذ أعوام، ولم يبتّوا بها".
إلّا أنّ الأمر لم يقتصر على هذه الخطوات، إذ أكد فضل الله أنّ حزب الله جمع ما أنجزه على الصعيد النيابي، خلال الأعوام الأربعة الماضية، وأصدره في كتاب سمّاه "الفساد والقضاء"، كما نشر كل ما له علاقة بأيٍّ من الملفات التي تسببت بالانهيار والفوضى في الحسابات المالية للدولة، وأضاف "قمنا بنشر آلاف المستندات والوثائق، وقدّمناها إلى الرأي العام، وأصبح في إمكان كل لبناني أن يطّلع على ما فعلناه في هذه الأعوام الأربعة".
بطبيعة الحال، نظراً إلى التعقيدات التي واجهها حزب الله، فهو لم يكسب جميع معاركة في الحرب على الفساد، وهو ما أوضحه النائب فضل الله، عبر تأكيده وجودَ ملفات لم يتمكن الحزب من الوصول فيها إلى النتيجة النهائية، بسبب "اصطدامه بواقع القضاء ومماطلته"، لافتاً إلى أنّ الحزب لم يكتفِ بالقول إنّ هذه الملفات وقفت عند حد القضاء، بل "أكمل بها من داخل النصوص القانونية"، فمكافحة الفساد لا تنتهي في عام أو اثنين، بل هي مسار طويل لا بدّ من أن يستمر، بحسب تعبير فضل الله.
إذاً، يبدو جلياً، من خلال شعار حملة حزب الله الانتخابية وحصيلة عمله في الأعوام الماضية، أنّه قرّر المضيّ قُدُماً في معركة مكافحة الفساد، مُدركاً أن الأعين تتركّز عليه داخلياً، إقليمياً ودولياً، وبالتالي يرى نفسه المعني الأوّل في هذه المواجهة، التي قد لا تُحسَب له من جانب كثير من المتربّصين في حال نجاحه فيها، إلّا أنها ستُحسَب عليه، وعلى محور المقاومة بأكمله، في حال تعثّرها.